تهويمات تائهة في مطالع الحكي!
النمسا ـ طلال مرتضى
النصّ الذي وجدت فكرته مهملة عند اللازمة الأخيرة في السلّم الموسيقي، صار قصيدة. ظلّ يتدحرج أمامي ككرة ثلج، لكنه في الصورة الشعرية لا يشبهها بالمطلق. مجازاً، نحى صوب الدلالة ليأخذ صبغة.
كلّ الأشياء المخاتلات البيان ترتجل افتعالات لا تماهي الواقع. ولربما، وعن حسن نيّة، لا تشي أيضاً بالمضمر المخبوء في سلة معانيها.
النصّ الذي صار قصيدة، للتوّ رأيته يتبختر في مطلع ديوان قابل للطبع، بالطبع لا يستطيع أن يماري أو يواري مفاتيح وشايته عنّي، ليس ذلك عناداً، إنما يعي تماماً ومثلما علّمته، لقّنته، حين اشتداد الحبكة، أنّ الدواوين مقبرة القصائد، وجلّ القصائد الطليقة هي التي يحفظها شاعرها عن ظهر قلب، ولا يتوانى أن تكون في مطلع القصائد التي يصعد بها محلقاً المنابر.
القصائد الحرّة كثيراً ما يحفظ الجمهور لوازمها عن غير دراية، وقد يتمتمون بها طيّ درب سفر من دون رفيق.
لا أدري إن كان لكلّ هذا الكلام مناسبة أم لا؟ أو لربما هي مناسبة ليست مدرجة على رزنامة المواعيد. أتت ارتجالاً لقتل الملل المزعج أثناء طريقٍ طويلة ولا من مناكف ينشي وحدتها.
في الأمس، وأنا أتهجأ فهرس ديوان طازج الحبر، بحثاً عن نصّ صار قصيدة، جمد اصبعي فوق مفاتيح الكلام، لم يكن نصّي، عفواً قصيدتي. هذه القصيدة ليست لي، ولا تشبهني. أذكر حين بدأت غوايتها وجرّها نحو هوامش الورق، رسمت لها عند زيح السطور الأولى وردة حمراء وقلبين يشنقهما سهم!
لم يتوقف الأمر هنا فحسب، وحتى لا يقال إنني أدّعي الفضيلة، كما نوّهت صديقتي ذات مقال، كتبتُ بالقلم الأحمر عبارة، عطفاً، كان هذا قبل عشر سنين، أهديتها لفتاة الحيّ الأولى ـ أي العبارة ـ ونحن نلتحم بقبلة مرعوبة، سقط على إثرها توت النسوة مغشيّاً. أيضاً لم يكن في الأمر قصدية مطلقة، فجّل الحكاية عندما وضعت كفّها في كفي، وتدملج إصبعي مع إصبعها متعانقين كسلك كهربائيّ التفّ حول آخر، سرت قشعريرة ناعسة تلمّست نداوتها في ثيابي، بالمؤكد أن الذي حصل لم يكن سوى عاصفة مجنونة، تركت في مطالع عنق فتاتي حبّات عرق شهية الارتشاف، ظننت لوهلة أنني ارتكبت حماقة وفرطت عقد الماسي التقليدي.
يقول قائل: الشعراء لهم شياطينهم، والكلام على ألسنتهم مثل سبّحة إبليس، ما أن يُسمعوك قصيدة إلا وتكون أختها قد حضرت. وهذا ما أنا به, أما فتاة حيّي، فقد وصلني منها سلام دافئ بعد أن فرّقتنا مفاتن الحياة. قال لي حامل بريدها قد سمّت بكرها بِاسمي تيمّناً، على رغم أنّ زوجها لم يسأل لما عليه أن يكنّى بأبي فلان، الذي لا يعرف هو وابنه البكر حكاية عقد الماس الذي انفرط من عنق حبيبتي، القابل للارتشاف!
الحكايات سبّحة إبليس، وهي طريقة اجتراعها للشعراء، والجملة التي أغويت بها القصيدة، لازمة لقصيدة سابقة مغنّاة، مطلعها: «يلّي شبكنا يخلّصنا».
بالمناسبة، وكي أكون المنصف مع أناي أولاً، لا بدّ من الاعتراف الآن، وعلى ناصية الورق من دون تزلّف، بأنني أكرهك أيها القارئ، لا لأمر خاص، بل لأنني أمقت حشريتك وأنت تدسّ أنفك بحروفي كلّها، وأتساءل لماذا تتفرسني بحنق؟!
كلّ هذا لأنني لم أشركك ما أنا به، لم أمكّنك من إمساك مفاتيح نصّي كي تتحكّم به. نعم أمقتك، أمقتك اذهب وابحث عمّن يدخلك دهاليز حبكته المنتقاة، ولربما تجد من يفتح لك بيوت شعره، أو يسمح لك بالاستحمام في بحورها. فهذا لم يعد من الصعب تحقيقه الآن، فبيوت الشعر وبحوره مشاع مباح.
وأما قصيدتي هذه، فهي ملك من دسست اسمها عمداً وعن سابق عناق في مسام الورق، والتصاوير التي عبرتك في القراءة هي «غيض من فيض».
عين الحقيقة يكتب الشاعر العاشق، برداً وسلاماً كلّ المعارك التي يخوضها، يواري ما يريد في المطالع خوفاً من شبهة القول، داء الشعراء في صمتهم، الله… لعمري أن لفي الصمت مثل القول بيان.