السؤال المغيّب في مقالة خاشقجي؟

أمل زاهد

لعلّ أهمّ ما يمكن استخلاصه من المحن والأوقات الصعبة هو إحياء فضيلة السؤال والتوقف ملياً أمام الأخطاء، ومحاولة مقاربة الواقع وقراءته، واستنطاق التجارب السابقة، واستدعاء التاريخ علّنا نصل إلى إجابات شافية.

في بحر الأسبوعين الماضيين كُتبت عشرات المقالات التي تحاول استقراء الطفرة «الداعشية» التي خطفت دهشة العالم بتناميها السريع وطوفانها المستعر الذي التهم نينوى والموصل على حين غرة، وتوعّد بالمزيد من القضم والالتهام ليس للعالم العربي فحسب إنّما للعالم بأسره، بعدما أعلن عن «الخلافة الإسلامية» في أرض العراق، بل وصلت شظايا تهديداته ومحاولاته العابثة أرض شرورة في وطننا الغالي.

لعلّ من أهمّ المقالات التي كتبت في هذا الشأن مقال الأستاذ جمال خاشقجي، الذي تساءل فيه عن الخطأ الذي أوصل العالم العربي إلى هذه الحال، ما جعل أجزاء منه مطية في يد الجماعات المتطرفة التي تريد الصعود عبره إلى عروش الخلافة الإسلامية «الطوباوية».

أثار المقال الكثير من الأسئلة المشروعة والمهمّة عن هشاشة مشاريع الدول العربية، وتردّي التعليم، ونكوص خطط التنمية، والاستبداد المغلّف بكلمة الاستقرار المخادعة، والطبقية المتغوّلة والمتوغّلة بين الحكام ومن حولهم من الطبقة المستفيدة من شيوخ ومثقفين ورجال أعمال، وبين الشعوب الذين ينظر إليهم كرعاع لا يستحقون ديمقراطية ولا مشاركة، والجمود في الدين وفرض مدرسة فقهية لا تواكب العصر ولا تستطيع مواجهة تحدياته وأسئلته، فقط لأنها توفر للحاكم فقه السمع والطاعة.

تضمّن المقال في الحقيقة العديد من التساؤلات واللفتات المهمّة التي قرعت الجرس وأثارت الكثير من التفاعلات على موقع صحيفة «الحياة»، وفي مواقع التواصل الاجتماعي. ففي أزمنة الأزمات، لا بدّ من تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية كي لا نتردّى في الهاوية ونغرق في التيه والضياع والتخبّط. ولا بدّ من محاولة تشخيص الداء أملاً في الوصول إلى العلاج الذي ننتشل به عالمنا العربي من براثن الجماعات المتطرفة التي تقتات على الكراهية والعنف والقتل والتذبيح. فالخروج من لجة الظلمات التي يتراكم بعضها لا بدّ من أن يمرّ عبر الإصلاح الكامل الشامل، الذي لا بدّ من أن يبدأ بالإصلاح السياسي، وإصلاح الخطاب الثقافي والديني والتعليمي، وأوضاع المرأة، وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني وحرية الصحافة… إلى غيرها من الإجراءات في سبيل ترسيخ دعائم الدولة الحديثة، كي نصل إلى العصر ونواكب حركته.

ما يؤخذ على المقال في تقديري هو تغييبه السؤال الأهمّ حول المؤامرة الخارجية، واستهداف عالمنا العربي بمقدّراته وثرواته، واستلابه السيادة وزرع الكيان الصهيوني فيه، فالمقال يركّز على استنتاج برنارد لويس أنّ سبب تخلّف العرب والمسلمين هو انشغالهم بمن فعل بهم ذلك، بدلاً من انشغالهم بما فعلوا هم بأنفسهم! وهو استنتاج مغرض يهدف إلى تبرئة الذات وإلقاء اللوم على العرب وحدهم في ما وصلوا إليه من حال متردية، في محاولة لصرف النظر عمّا حاكه الغرب ولا يزال يحوكه – من استراتيجيات وخطط لتقسيم العالم العربي والزجّ به في أتون الصراعات الطائفية والحروب المذهبية، واستخدامه أقذر الوسائل للوصول إلى مبتغاه! ولعلّ أخطرها استخدام نسخة «شاذة» من الإسلام كما ورد على لسان هيلاري كلنتون نفسها، عندما وظف «الجهاد الإسلامي» لينفذ حرباً بالوكالة على الاتحاد السوفياتي! ومن نافل القول إنّ لعنة تنامي الكراهية والتشرذم والاقتتال الطائفي حلّت بداية على أراضينا العربية حين عاثت أميركا بأرض العراق احتلالاً وفساداً.

في تقديري، يشكل إنكار وجود مؤامرة الوجه الآخر للإغراق في نظرية المؤامرة، فكلاهما وجه لعملة واحدة هدفها تبيسط الأمور وتسذيجها، بوضعها إمّا في خانة الأبيض الناصع أو الأسود المظلم، الذي يوصل حتماً إلى الإجابة الأسهل! وذلك بجلد الذات وإلصاق كلّ نقيصة بها مع تبرئة الآخر من جرائمه في حالة إنكار المؤامرة، أو رفع اللوم تماماً عن الذات واستعذاب دور الضحية والاستسلام السلبي المجرّد من الفعل، مع تجاهل النقد الذاتي وأهميته في حالة الانجراف المطلق وراء التفكير «المؤامرتي».

من الأهمية بمكان وعي المؤامرة وإدراك حقيقة ما يدور حولنا، فوعي وجود المؤامرة وأبعادها يوقظ آليات المقاومة ومحرّكات الدفاع ويجعلنا أكثر تيقظاً، فلا يعني وعي وجود مؤامرة حتمية الاستسلام لها أو إلقاء اللوم عليها فحسب وعدم تحمل المسؤولية، بقدر ما يعني التحصين الداخلي الذي يقودنا إلى الخروج من قابلية الوقوع في براثنها. كما أنّ إنكار وجود المؤامرة تماماً يقود إلى تزييف الوعي والتهاوي في «مازوشية» جلد الذات والوقوع فريسة متلازمة كراهيتها والتبرّؤ منها وإلصاق المثالب كافة بها، وهذا مرض نفسي خطير لا يقلّ خطورة وضرراً عن التدثر بالماضي وتبرئة الذات تماماً من الأخطاء. ورأينا بين ظهرانينا من يجرّد الحضارة الإسلامية من أيّ منقبة، ويتجاهل التاريخ الإسلامي المشرق في التعايش مع الأديان الأخرى، والذي وصفه أمين باستفاضة سردية باذخة في تحفته الروائية «ليون الأفريقي». وكانت مجلة «الإكونوميست» حاولت أيضاً توصيف الداء العربي الذي أوصلنا إلى ما نتردّى فيه من تخلّف وانحطاط، بعدما كان العرب يوماً قادة الأرض على ما تقول مقالة تحت عنوان «تراجيديا العرب… قصة النهوض الذي لطالما يتعثر»، ولكن التقرير يغفل تماماً الدور الغربي وخطط التقسيم واستخدام الإسلام المتطرّف، والتواطؤ مع الاستبداد في حرف الثورات العربية عن مساراتها وتحويلها إلى حروب طائفية، رغم تأكيد التقرير على أنّ التطرف الطائفي هو وسيلة للتعبير عن البؤس وليس السبب الأساسي فيه.

يقول أمين معلوف في كتابه «الهويات القاتلة» إنه لا يجد أي سلف «واضح» للحركات الدينية المتطرّفة في التاريخ الإسلامي، بل هي وليدة عصرنا واضطراباته وتشوّهاته وممارساته وخيباته!

الأرجح أنّ النسخة الشاذة من الإسلام المتطرّف لن تتمكّن من النجاح في تكوين دولة الخلافة، ولكنّ الخطير أنّ حمم سمومها الإرهابية قد تطول البعيد قبل القريب!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى