تركيا: الصراع مع حزب العمال الكرستاني يطال الاستقرار الأمني والنفطي
د. هدى رزق
فتح التفجير الثالث في أنقرة ملف الصراع برمته في تركيا بين الحزب الحاكم وحزب العمال الكردستاني وبين الحكومة والمعارضة. إنه التفجير الثاني الذي يتم على يد «صقور الحرية الأكراد» الجناح الشاب لحزب العمال الكردستاني، فيما كانت الحكومة التركية مستغرقة في الحصار الطويل على مدن يوكسيكوفا وسيرناك ونصيبين من أجل تعطيل خطوط إمداد حزب العمال الكردستاني ووحدات الدفاع المدني، إذ قررت أنقرة تقويض المقاومة الكردية بالقتال وسعت إلى ضرب الخنادق والمتاريس في هذه المدن ونشر قواتها في المواقع الأمامية لاستعادة السلطة على الأحياء المضطربة. ومن أجل مواجهة الضغوط المتزايدة لم يبق أمام حزب العمال الكردستاني سوى القيام بمعارك وعمليات في أنقرة وغرب تركيا.
تبدو مجموعة «صقور الحرية» شبة مستقلة تنفذ هجماتها تحت مظلة حزب العمال الكردستاني، لكنها تنفرد بطبيعة ومكان وتوقيت عملياتها بحيث لم تستطع القوى الأمنية والاستخبارات التركية التنبوء بتوقيت العمليات. يصعب على القوى الأمنية رصد كلّ المركبات في غرب تركيا وأنقرة، وهي مهمّة صعبة في مدن كبيرة، لا سيما أنها اعتقدت أنّ الحرب ستظلّ محصورة في المدن الكردية. ومع أنّ حزب العمال الكردستاني صرح بأنه لا يوافق على هذه الأعمال، إلا أنه أكد أنه لا يستطيع منع الشباب الكردي الغاضب من ردّ الفعل. وفيما يُعلن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية، الذي تعتبره تركيا الجناح العسكري لحزب العمال الكرستاني، فيدراليته السورية، يصرّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على استحالة قبول الفكرة، أما الولايات المتحدة فتصرِّح بأنها لن تعترف بها، وترى موسكو أنها خطوة أحادية لا يمكن أن تتم إلا بالتنسيق مع القوى السورية جمعاء.
ردود فعل دولية لا تشي بأنّ الأكراد يستقلون في قراراتهم، لأنّ هذا المشروع فتح كوة في محاولة إقصاء العنصر الكردي من قبل تركيا، كمقرّر في السياسة في سورية، بعدما قاتل «داعش» وشارك في المعارك بسلاح أميركي ورعاية روسية مؤخراً.
في خطوة استباقية لحرف الأنظار عن مسوؤلية الأمن والاستخبارات التركية عمّا حصل في أنقرة حيث للعمليات في العاصمة دلالات سياسية تشي بأنّ الأكراد ماضون في قتالهم وضرب الاستقرار الذي وعد به النظام، قال الرئيس أردوغان في تصريح شبيه بتصريح الرئيس الأميركي السابق جورج بوش بعد أحداث 11 أيلول 2001 إنّ من ليس معه هو ضده ومع الإرهاب، مستغلاً الفرصة للهجوم على معارضيه وصنّف الصحافيين والأكاديميين والمعارضة والنواب والكُتّاب كإرهابيين، ودعا إلى إعادة تصنيف الإرهاب، فالإرهابي ليس فقط من يضع يده على الزناد، لكنّ هؤلاء جعلوا ذلك ممكناً ويجب تحديدهم كإرهابيين. وأضاف أنّ جوهر المسألة ليس حرية الرأي أو حرية الصحافة، بل مكافحة الإرهاب معتقداً أنه بذلك سيتمكن من كمّ أفواه من ينتقدون سياسته، لافتاً إلى أنه سيتم تفتيش المنازل وأماكن عمل الأشخاص الذين لهم علاقة بمنظمات إرهابية عندها لن يشتكي أحد من هذا الأمر.
وصلت الرسالة، إذ تمّ احتجاز ثلاثة أكاديميين بسبب دعوتهم إلى وقف العمليات العسكرية في جنوب شرق تركيا، كما جرى احتجاز ثلاثمئة شخص، بينهم محامون وأعضاء في حزب الشعوب الديمقراطي، فيما طالب أردوغان برفع الحصانة عن نواب حزب الشعوب الديمقراطي بتهمة تأييد حزب العمال الكردستاني، وهذا يشبه ما حصل مع حزب العمال الشعبي المؤيد للأكراد عام 1994 والذي أدى إلى إشعال الحرب في ذلك الوقت.
يأتي ردّ فعل أردوغان على التفجير ليطال المعارضين بعدما ازدرى السلطة القضائية التي لم يتجرأ أي رئيس آخر في تركيا على انتقادها، وقال إنه لا طاعة ولا احترام لقرار المحكمة التي أفرجت عن رئيس تحرير جريدة «جمهورييت» جان دوندار ومديرها في أنقرة أردم غول اللذين جرى احتجازهما وسجنهما بتهمة التجسس بسبب نشرهما معلومات عن تورّط الاستخبارات بتهريب سلاح إلى سورية. وزعم أنه يحاول حماية الدستور الذي أخلّت به المحكمة مقدماً النصيحة لأعضاء النيابة العامة بضرورة الطعن بالحكم، متجاهلاً أنّ قرارات المحكمة العليا نهائية وملزمة.
يحاول أردوغان تحميل المعارضة مسؤولية إضعافه في المواجهة التي يخوضها مع حزب العمال الكردستاني، فيلجأ إلى كمّ أفواه المعارضة وإيقاف شبكات التواصل الاجتماعي لأنها بثت صور تفجير أنقرة. تعزّز الأحداث غضب أردوغان لأنّ ضرب الاستقرار الأمني تزامن مع محاولات ضرب أمن الطاقة حيث قام حزب العمال الكردستاني بضربات استراتيجية منذ الصيف الماضي، إذ حاول ضرب استقرار الطاقة، فجر خط أنابيب النفط الخام الذي تنقله السفن الكردية العراقية إلى تركيا عبر المتوسط إلى ميناء جيهان في تركيا في 29 تموز 2015 وعرقل الصادرات لمدة 21 يوماً، الأمر الذي كلف إقليم كردستان العراق خسائر قُدِّرت بـ250 مليون دولار، كذلك هاجم قطار شحن ينقل مواد بناء لمشروع طاقة رئيسي وهو خط أنابيب الغاز الطبيعي عبر الأناضول «تاناب» المصمم لنقل غاز بحر قزوين إلى أوروبا عبر تركيا في محاولة لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي، وأسفر هذا الهجوم في 30 تموز 2015 عن مصرع عامل في السكك الحديدية. كما استهدف في آب من العام الماضي خط أنابيب يحمل ستين بليون متر مكعب من الغاز الأذربيجاني إلى تركيا سنوياً عن طريق جورجيا، فانقطع التدفق ثلاثة عشر يوماً، ما أحدث خسائر لأذربيجان قُدِّرت بـ200 مليون دولار.
بعد العقوبات الروسية على تركيا في كانون الأول نهاية العام الماضي، قامت تركيا بإجراء سريع لاستيراد الغاز من كردستان العراق الحريص على توريد غازه إلى السوق العالمية، فبدأت ببناء خط أنابيب للحصول على الغاز الكردستاني الذي سيتدفق عام 2019 وستكون له قدرة أولية تقدر بـ10 بليون متر مكعب في السنة حيث ستزداد ضعفين في فترة قليلة من الزمن. يصادف هذا التوقيت مع انتهاء عقد تركيا مع روسيا لاستيراد الغاز عام 2020 بعدما جرى إيقاف صفقة «بلوستريم».
يمكن لتركيا أن تستغني عن الغاز الروسي، إن سارت الأمور على ما يرام، وقد قامت برصد الأموال للجزء التركي من خط الأنابيب لكنّ حزب العمال الكردستاني فجّر في 17 شباط 2016 أنابيب النفط التي تنقل النفط الخام من كردستان العراق إلى تركيا. فالقناة التي تحمل ستمئة ألف برميل يومياً أغلقت 23 يوماً وبذلك خسر كردستان العراق 300 مليون دولار الأمر الذي هزّ اقتصادها المتعثر.
تبدو هذه الاستراتيجية من قبل حزب العمال الكردستاني كأنها تهدف إلى عرقلة طموح تركيا بأن تصبح مركزاً للطاقة التي يمكنها أن تصدرها إلى أوروبا، فزيادة الهجمات سوف تُثني المستثمرين عن مشاريع عبر تركيا. أما كردستان العراق فهو في حاجة إلى توريد نفطه ولديه خياران إما أن يتفق مع «العمال الكردستاني» أو يبحث عن طريق آخر لتصدير النفط ، بعد أن عرضت عليه طهران طريقاً آمناً لتوريد الغاز، وهذا ما يفسر جزءاً من زيارة رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو إلى إيران من أجل التعاون السياسي ضدّ إعلان إقليم كردي في تركيا كذلك البحث في أمن الطاقة ومساعدة طهران لتركيا في ضبط عمليات حزب العمال الكردستاني، انطلاقاً من الحدود الإيرانية ـ التركية.
جاءت أزمة أنقرة مع موسكو كفرصة مناسبة لحزب العمال الكردستاني. فأردوغان تفاوض مع حزب العمال الكردستاني عام 2012 بوساطة أميركية وأوروبية وبريطانية وروسية، أما اليوم فهو على علاقة فقط بالسعودية وقطر وعلى قدر ما مع «إسرائيل»، وهذه القوى لا تستطيع جلب الأكراد إلى طاولة المفاوضات في الوقت الذي يتمتع به الأكراد بعلاقات جيدة مع الغرب ورورسيا بعد قتالهم «داعش» واكتسابهم قوة سياسية.