السواد يلفّ القرى والبلدات اللبنانية استعداداً لاستقبال شهداء الاغتراب
ضاقت بهم سبل العيش في أوطانهم، فاختاروا الغربة سبيلاً لتأمين مستقبل أفضل وعيش كريم لهم ولعائلاتهم، هربوا من جحيم الحروب والصراعات، فكان الموت في انتظارهم هناك. هم المغتربون اللبنانيون الذين هاجروا حاملين أمتعتهم وأحلامهم، إلى بلاد بعيدة ليبنوا أينما حلوا لبنانهم، كما يقول الشاعر سعيد عقل: «ومن الموطن الصغير نجوب الأرض… نذري في كلّ شط قرانا… نتحدى الدنيا شعوبا وأنصارا… ونبني أنى نشأ لبنان».
لكنّ وجه الغربة ليس مشرقاً دائماً، وبالإضافة إلى ما يعانيه اللبنانيون في غربتهم، أصبح اللبنانيون على موعد دائم مع الخطر، لهم في كلّ طائرة موت حصة كبيرة من الأحبة، ليتحولوا إلى صور معلقة في ذاكرة ذويهم وعلى جدران منازل هجروها قسراً.
وقد ملأ حادث تحطم الطائرة الجزائرية والذي ذهب ضحيته عشرون لبنانياً، الفراغ السياسي من خلال حركة السياسيين الذين لا يكترثون لمواطنيهم إلا في النكبات والملمات، وإن يكن هذا الاكتراث دون المستوى في معظم الأحيان، كما ملأ القرى والبلدات والبيوت والقلوب حزناً وأسى.
ومن المتوقع أن يتوجه اليوم وفد يضم ممثلين عن وزارة الخارجية و«الهيئة العليا للإغاثة» والأمن العام، لمتابعة وقائع رفع جثامين ضحايا الطائرة المنكوبة، ونقلها إلى لبنان، بعد أن تمّ العثور على أحد الصندوقين الأسودين التابعين للطائرة التي تحطمت يوم الخميس وعلى متنها 118 شخصاً. كما أعلن الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند فجر أمس، العثور على حطام الطائرة في منطقة غاو في شمال مالي. وأشار قصر الإليزيه في بيان إلى أنه تمّ التعرف بوضوح إلى الطائرة على رغم أنها دمرت كلياً. وفيما أعلن الرئيس الفرنسي مقتل جميع ركاب الطائرة، اعتبر وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف أنّ الأحوال الجوية تشكل «الفرضية الأكثر ترجيحاً»، فيما لم يتم التوصل حتى الآن إلى معلومات دقيقة حول الأسباب الحقيقية.
وفي إطار التحضيرات، لمواكبة مستجدات الفاجعة، أفاد المدير العام للمغتربين هيثم جمعة أنّ «الوزارة باشرت الترتيبات اللازمة وشكلت وفداً للسفر ومتابعة موضوع الضحايا اللبنانيين، وهناك تنسيق مع الفريق الفرنسي لأنّ المنطقة التي سقطت فيها الطائرة منطقة وعرة».
كما اتصل جمعة بالعائلات الجنوبية المعنية ووضعهم في أجواء الترتيبات التي بدأتها الوزراة والأمور التي ستواكب التحقيقات ومنها أخذ عينات من الحمض النووي لأقارب الضحايا ليصار إلى التعرف إليهم لاحقاً وتسليمهم إلى ذويهم.
وعلى الصعيد الرسمي، تابع رئيس الحكومة تمّام سلام آخر التطورات المتعلقة بحادث سقوط الطائرة. واتصل بوزير الخارجية جبران باسيل، واطّلع منه على الجهود التي تقوم بها وزارة الخارجية والمغتربين من أجل مواكبة التحقيقات في الحادث، والتثبت من هويات الضحايا اللبنانيين والعمل على إعادة جثثهم الى لبنان في أسرع وقت ممكن، بالتنسيق مع سلطات مالي. كما اتصل بالسفير الفرنسي في بيروت باتريس باولي الذي تملك بلاده قوة عسكرية هناك. وتابع سلام أيضاً تحضيرات الوفد اللبناني الرسمي قبل أن يتوجه إلى مالي. وفي السياق نفسه، أجرى سلام اتصالاً برئيس مجلس النواب نبيه برّي لتعزيته بضحايا الكارثة، الذين سوف يُعلن الحداد الوطني عليهم يوم وصول جثامينهم إلى لبنان.
من جهته، قال وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل خلال مؤتمر صحافي عقده في الوزارة أمس: «إننا نقف وقفة حزن أمام فاجعة الطائرة الجزائرية التي تحمل 19 لبنانياً، وقد شكّلنا وفداً تقنياً مؤلفاً من وزارة الخارجية والأمن العام وهيئة الاغاثة، في انتظار تحديد مكان الطائرة»، لافتاً إلى أنّ «كلّ الظروف المحيطة بالحادثة صعبة وأنّ الوفد سيعمل في ظروف صعبة وبإمكانات ضئيلة». وأضاف: «نطلب من الله أن يعطي الصبر لأهالي الضحايا، وأن يصبّر لبنان كله على هذه المأساة التي تستوجب الحداد والحزن، أملاً بأن نتحمل بعضنا البعض في هذه المرحلة إلى حين الانتهاء من كلّ الإجراءات اللازمة والمطلوبة، وتكون هناك المواكبة التي يستحقها أهالي الضحايا».
بدوره، أعطى وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق، توجيهاته إلى المحافظين والقائمقامين لزيارة ذوي العائلات المنكوبة في الجنوب وكسروان وغيرها من المناطق اللبنانية لنقل اهتمام الحكومة ووزير الداخلية بالمأساة ومتابعة الإجراءات التي تقرر اتخاذها من خلال الوفد الذي سيسافر الى مالي. كما طلب من المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم تسهيل الإجراءات اللازمة لعائلات الضحايا الذين سيسافرون إلى مالي لمتابعة قضية مفقوديهم، بعدما اتخذ تدبيراً بإرسال ضابط في عداد اللجنة المختصة لمتابعة هذه القضية.
من جهته، أشار المتحدث باسم الجالية اللبنانية في بوركينا فاسو بيار الحاج، إلى أنّه على اتصال مع الجالية اللبنانية في مالي للتنسيق في كيفية نقل الجثامين إلى بوركينا فاسو، داعياً الدولة اللبنانية إلى إرسال مندوب للتنسيق مع السلطات المحلية.
وقد اتشحت بلدات الجنوب: حاريص، صريفا، والخرايب، والتي نالت القسط الأكبر من الفاجعة حاريص، بالسواد حداداً على أبنائها شهداء الاغتراب، الذين كانوا قادمين مع عائلاتهم لتمضية عيد الفطر مع عائلاتهم في الوطن، لكن قدر لهم أن يعودوا جثثاً هامدة.
فقد فقدت بلدة الخرايب عائلة كاملة، وذلك بمصرع كامل عائلة بلال دهيني المؤلفة منه ومن زوجته الألمانية بيرن كورينا وأولادهما أوليفيا، مالك وريان. وفجعت حاريص بعائلة ابنها منجي حسن حسن وزوجته نجوى عباس زيات وأولادهما محمد رضا وحسين وحسن ورقية حسن. أما بلدة صريفا فهي تستعد لاستقبال رندة بسمة ضاهر وأولادها علي وصلاح وشيماء ضاهر.
وفي منطقة الزلقا، ما زال أهالي الضحيتين جوزيف الحاج وعمر بلان تحت هول الصدمة، لفقدان شابين ضاقت بهما سبل العيش في الوطن، فهاجرا إلى أفريقيا منذ نحو 25 سنة، لتأسيس عمل وتأمين مستقبل أفضل.
الجامعة الثقافية
وعقدت الهيئة الإدارية للجامعة اللبنانية الثقافية في العالم، اجتماعاً طارئاً برئاسة أحمد ناصر، واتخذت قراراً «بتشكيل لجنة مشتركة في لبنان وأفريقيا برئاسة رئيس المجلس القاري الأفريقي نجيب زهر لمواكبة تداعيات كارثة سقوط الطائرة الجزائرية في مالي، والتي كان على متنها نحو 20 مغترباً لبنانياً». كما أكدت «التعاون التام مع اللجنة الحكومية برئاسة المدير العام للمغتربين هيثم جمعة». وأعلنت الجامعة عن تكليف لجنة للتواصل مع أهالي ضحايا الكارثة والاطلاع على أوضاعهم في لبنان والمهجر، وتكليف مكتبها القانوني «متابعة القضايا القانونية في ما يتعلق بالمسؤوليات المترتبة على الحادث المفجع».
كما أعلنت «تضامنها مع أهالي الضحايا ومشاركتهم أحزانهم العميقة نتيجة هذه الفاجعة الإنسانية الكبيرة».