سورية ليست تركة الرجل المريض
سناء أسعد
المقارنة بين ما نرغب به وما نطمح إليه ضرورة لا بدّ منها، ولا سيما وسط تفاقم الأزمات التي تشهدها المنطقة بالكامل. فإذا ما قبلنا الواقع الذي نعيشه يكون استسلاماً، خصوصاً إذا كان هذا الواقع مهزوزاً متشرذماً بوقائعه وفرصه وحقائقه. أما رفضه فيجب أن يكون ثورة في سبيل تحسينه والنهوض به للأفضل وليس العكس، وهذه الثورة لا تدخل حيز التفاعل الإيجابي إذا ما بقيت موازينها وأسسها مصبوبة مجمّدة في قوالب الرغبات والأمنيات، فكيف إذا كانت هذه الرغبات تخدم مصالح شخصية بحتة؟
فالمحاولات جميعها ستبوء بالفشل المحتّم إلا إذا تمّ اللجوء إلى سبل غير مشروعة تتم من خلالها استباحة كلّ أمر وتبرير كلّ فعل بالاستناد إلى القوانين والأحكام التي يتم اعتمادها والتي تعتبر القاعدة الصحيحة وتُبنى عليها بالتالي المعتقدات الخاطئة، فنجد أننا وسط استبسال في الجموح الأناني ويتم استهلاك كلّ شيء، بغضّ النظر عن الطباع الأصلية للأشياء.
وللأسف هذا ما نعانيه مع مَن يسمّون أنفسهم معارضة متخوفة على مصلحة الوطن. يحاولون استهلاك كلّ ما يمكن استهلاكه بطرق مبتذلة رديئة حتى صرنا في مواجهة حرب كبيرة في ثورة تقوم بالدرجة الأولى على أسس قلب المعايير بأوجه الانحطاط الممزوجة بالانسياق العبودي الأعمى، فتم اللجوء إلى اعتماد مصطلحات أبعد ما تكون عن القراءة الصحيحة لأبعادها ومعانيها، فهم يريدون التغيير ولكن ضمن إطار التبعية، يريدون تطبيق الشريعة الدينية ولكن ضمن دائرة التكبير على جزّ الرقاب وتقطيع الأوصال.
يطمحون إلى بلد حرّ مستقلّ لكن بطمر هويته القومية والعروبية. يجتمعون ويتقاتلون ليس من أجل أن يحيا الوطن بل من أجل أن يسقط إلى عمق القاع الذي تفنّن العدو في حفره ورسم أبعاده ليتناسب مع الشرخ الذي سيحدثه زلزال استهلاك النفس البشرية بعد عملية البحث غير المطولة والتنقيب عن نقاط الضعف وما أكثرها…
فالشرخ طريق إلى الهاوية، والجسد المجروح بيئة حاضنة للجراثيم، والتفكك والتشتت سبيل لخلق هوة كبيرة بين الحقّ والباطل. كما أنّ الصراع في المنطقة على وشك أن يتحول من قبل قوى إقليمية دولية إلى صراع مكوّنات على أسس طائفية ومذهبية تتجه كلها لإفراغ البلدان من سيادتها وتجريدها من هويتها، بحيث تتداخل الأحداث وتتشابك مع بعضها وذلك باتّباع سلسلة متزاحمة من سياسات الضغوط سواء الضغوط الخفية أو الضغوط الظاهرة وبحيث تؤول هذه الصراعات إلى التناحر والتحارب إلى حدّ التدمير والانهماك الذي يجعل الآفاق المستقبلية مسدودة أمام كلّ انفتاح لهدر الطاقات والسير بعكس التطورات التي تحصل وفصلها عن أي عملية مطروحة أو محاولة طرحها كموضوع للجدل والحوار.
يمنهجون أسلحة هذه الحرب بطرائق مختلفة تبعاً لكلّ مرحلة وكنتيجة لفشل سابقاتها، لكنّ الهدف المراد واحد. فنحن نعيش صراعات تدور بين جهات وأطراف متعددة وكلّ جهة تلعب دوراً معيناً، جهة تقوم بالتدمير والهدم وأخرى تقوم بالبناء والترميم.
فكيف يمكننا اتباع ديناميكية بعيدة عن غباء الرغبات والتعصُّب الجامح للمصالح، تُنهي هذه الصراعات وتعيد صياغة السياسات المتّبعة بطرق تكون هي الأنجع في إعادة رسم خريطة المنطقة بحدود متوازنة خالية من الاعتداءات التي تثير الاقتتال وتنعش استراتيجية الفوضى الخلاقة في كلّ مكان؟
أولاً، يجب الابتعاد عن الأدوات التي يؤدي استخدامها إلى منعنا من بلوغ أهدافنا فيضعنا في وادٍ وهي في وادٍ آخر!
ثانياً، التوقف عن الرقص على إيقاع موسيقى العدو والعزف على أوتار الوطنية بطريقة فنية تتناغم مع روح الحداثة العصرية بعيداً عن تناول البدائل التي من شأنها حرق المنطقة وزيادة تفككها لإخلاصها ونجاتها، فنشهد فاجعة كبيرة تفوق سابقاتها بدرجات كبيرة.
ثالثاً، التخلي عن المبادئ الواهمة بأنّ التفكيك والتفتيت هما الحلّ الأنسب لمستقبل أفضل لسيادة أي دولة فيجب أن يأخذ بعين الاعتبار الظروف التي تعيشها الدولة، لا سيما إذا كانت تعيش ظروفاً آنية رغم قسوة ما حصل ويحصل على الأصعدة كافة فهي ظروف آنية بدفتر زمني تتساقط أوراقه واحدة تلو الأخرى.
للأسف الشديد، صار مصطلح الخوف على مصلحة الوطن في متناول الجميع. كلّ يبرمجه ويديره بحسب مصالحه وأهوائه الشخصية، وبما يتناسب ويتطابق مع مواقف الدول التي يتبعها. فنحن لم نسمع المعارضة تشترط محاربة الإرهاب، بالدرجة الأولى، وإعادة الأمن والأمان إلى كلّ شبر من سورية مع الحفاظ على استقلاليتها ووحدة أراضيها ضمن أطر مبادئ السيادة والكرامة التي تضمن إنجاح السير والمضي في عملية التحرير والخروج من دوّامة التبعية والدخول في عملية تنمية متكاملة تلتصق بجدران الوعي الجمعي الخالص إلى غربلة الحاضر وتصفيته من الشوائب والخروج من محيط السلبيات لرسم مصالح الأمة في كلّ حيّز جغرافي وسياسي مشترك بعيداً عن التعصُّبات المذهبية والدينية والعرقية والقومية، بما يعود بالخير على الجميع ويكفل لنا النهوض والتصدي لهذه المؤامرة الجهنمية التي وضع في أتونها وطننا الغالي سورية، وهذا هو الهدف الأساسي الذي طالما طالبت وتطالب به الحكومة السورية عبر المنابر كافة التي تتفاوض فيها سواء مع ما يسمّون أنفسهم بالمعارضة أو مع الدول التي يُثار معها الجدل والنقاش في الملف السوري بعيداً عن الفدرلة المشؤومة والتقسيمات الموعودة، وبعيداً عن شروط الانتداب المغلفة بضرورة تشكيل هيئة حكم انتقالي. فأيّ قرار لا يكون نتاج اتفاق جماعي مشترك يمثل جميع فئات الشعب السوري لن يكون سوى مساندة ودعم لمشروع الاستيطان والاستعمار الصهيوني، انطلاقاً من أرضية التفتيت والتآكل. فبالرغم مما تعرضت له الدولة السورية وتتعرض له من حروب مفتوحة على الجبهات كافة لن تتحول أراضيها وحدودها وجغرافيتها إلى تركة الرجل المريض التي يتهافت الجميع لتقاسمها وتحاصصها، وستبقى سورية دولة موحّدة ذات سيادة مستقلة رغم كلّ الاختلافات والخلافات التي تدور حولها.
ويجب علينا أن لا نتجاهل أنّ الحروب النفسية وحروب الأوهام والتخويف هي أهم أسلحة العدو في إنجاح مخططات الحروب، مهما تطورت أسلحتهم الأخرى وبلغت درجة من الابتكار والحداثة.