الفدرلة بخرائطها العبثية
علي قاسم
رئيس تحرير «الثورة» ـ سورية
يطل الحديث عن التقسيم وخرائط الأطماع الغربية مقلوباً، حيث يتقدم الذيل محمولاً على لسان الفدرلة وبعضه داخل أجندات أممية، فيما يتراجع الرأس ممسوكاً بهواجس العقل الغربي وأدراج أطماعه المغلقة والمفتوحة، وما أنتجته أقبية استخباراته وتقارير مراكز بحوثه عن إعادة ترسيم حدود المنطقة، وإحداثيات الدول والدويلات الوليدة أو الكانتونات على أسس تبتعد فيها الحسابات الجغرافية والشروط التاريخية، وتحلّ مكانها الطائفية والعرقية والإثنية كبدائل تتغلب على متاعب المعادلات المزمنة، في شرق أنهكته سنون ارتهانه للآخر، ولهاثه وراء نظريات الغرب الكاذبة وقبوله بنفاقه الطويل في رحلة الشعارات المزيفة.
موسم الاعتراف الغربي المتأخر بما آلت إليه الحال والأحوال لم يعد فقط على ألسنة الذين اكتووا بنار الإرهاب، وما أنتجه ربيع عربي دموي حوّل المنطقة برمتها إلى خريف يروج لتساقط الحدود والكيانات، مراهنة على تيبّس في جذور أحاسيسه الوطنية والقومية، ولا يقتصر على أولئك المرشحين لحقبة لاهبة، بدأت ملامحها بالحضور المباشر، سواء كان في الجوار الإقليمي أم خارجه، بل باتت أيضاً تستخدم في دوائر النخبة المتموضعة على الضفة الأخرى من المتوسط التي وجدت أن ربيع الاضطرابات، وإن لم يكن على شاكلة النسخة العربية، يتحضر على صورة مشكلات اقتصادية واجتماعية، تستعد لرسم إحداثيات علاقات الغرب البينية من جهة ومع العالم من جهة أخرى.
النقلة الغربية في مواجهة الاحتمالات المفتوحة، والتصدي لتلك العدوى المزمنة، لم تكن بمراجعة جادة لسياساتها، بل غرفت من ماضيها الاستعماري وإرثها الذي تجيد فيه التقاط خيوط أطماعها أو ما يحققها، وذهبت باتجاه الحديث عن التقسيم، وإن بدأته بالترويج للفدرلة، كحل يمكن له أن يفرمل من رحلة العودة للإرهابيين، أو في الحد الأدنى يخفف احتمالات الانتقال السريع إلى مناطق أكثر متاخمة للحدود الأوروبية وأقرب إلى نطاقها الجغرافي.
التقسيم لم يكن طرحاً جديداً خالصاً أو خياراً مستجداً في المفهوم الغربي، بل قام ويقوم على معطيات تراود خياله وتدغدغ أطماعه، كلما رفّت نسمة في العالم الآخر من شماله إلى جنوبه، بما فيه المحسوب على الشمال الغني، الذي لم ينجُ من محاولات غربية للتقسيم وصناعة خرائط تتواءم مع أطماعه، وإن تفاوتت نسبها ومنسوبها حسب الريح السياسية السائدة في المشهد الدولي، لكنه في سياق الخريف الناتج عن أعاصير الوجع العربي، وما ولدته تلك الريح الآتية مع سموم الأطماع والمنافع ينطوي على أبعاد إضافية ترمي السياسة الغربية فيها بكل عبثيتها بحثاً عن مخرج، وربما عن غاية وهدف في أجندات لم تتبدل يوماً.
ما يضفي على الحالة المزيد من التعقيد أنه محمول على هواجس تاريخية تتحدث عن انتهاء صلاحية الخرائط التي أنتجتها سايكس بيكو، والحاجة إلى خرائط جديدة كان الغرب يعوّل فيها على نتائج ربيعه المزعوم، الذي نفخ فيه حتى تورّم، وأنتج كل هذا الإرهاب المدعوم والممول من دوله الوظيفية التي أنتجتها تلك الخرائط، وأحدثتها احتياجات بقائه واستمراره، وبمؤازرة فكر وهابي تغذى وتربى على الدلال الغربي وتفشى بالتواطؤ معه، والسكوت المفضوح على ممارساته وأفكاره التي تدفقت وتغلغلت في النسج الغربية وطبقاته الاجتماعية، التي نشأت على هامش المجتمع الغربي وفي أرصفته المنسية وأحيائه المهجورة، والتي كانت تقع في الغالب خارج أطر السياسة الغربية عموماً.
في لغة التاريخ وتجارب البشرية العديدة والمديدة في الذاكرة الإنسانية ثمة فصل حاد ومفصلي، وانعطاف وجودي وتكويني يجزم بأن المنتصر يرسم الخرائط في المنطقة والعالم، والحرب التي أشعلتها فرضية الربيع المزعوم الذي يتخلى عنه أصحابه ومريدوه قبل أن يعلن خصومه ومحاربوه انتهاء المواجهة معه وإعلان تباشير الانتصار عليه، وأنه حين يحل الخريف الناتج عن انكساره بانتظار شتاء قارس وتكون فيه المواجهة على الوجود والمصير لا يبقى من الربيع ونتائجه ما يمكن التعويل عليه ولا الارتهان له، أو الاتكاء على ما استنسخه من أوهام وطموحات سلطوية تفتقد الحد الأدنى من مشروعية الحضور أو الوجود.
الغرب الباحث عن قشة وسط أمواج تتلاطم غرباً وشرقاً يستسهل الحلول، ويحاول أن يستبق القادم بفرضيات تروّج لمقولاته المهزومة بعرف التاريخ وبحكم الأمر الواقع في عبثية تستظل بتلك الأوهام، وتعبّر عن ذاتها بمقولات تبشيرية عن التقسيم ولو كانت بلغة الفدرلة أو غيرها، وهي سياق يخالف المنطق ويناقض ما استدرجته أوجاع الربيع المزعوم وما تفرضه آلام المخاض الصعب في خريف تصرّ ريحه على بعثرة ما تبقى من أوراق وما استُمهل من ملفات، فالخرائط لا تصنعها التمنيات ولا ترسمها الأحلام ولا يقررها المهزومون.
الهروب الغربي نحو حديث التقسيم لا يُقلل من خطر الإرهاب ولا يجترح حلولاً لمشكلاته المستعصية ولا يُخفف من التداعيات، فالمنطقة تقسّمت بما يكفي والكانتونات المسخ المحضَّرة في تمنيات البعض تبقى مجرد خرائط عبثية لا مكان لها، ولا يمكن لمكونات المنطقة أن تحتمل وجودها، بينما لدى الغرب وأدواته مساحة كافية لإعادة تموضعها الخرائطي بحكم أن وجود بعضها الوظيفي انتهت صلاحيته، وبعضها الآخر يبقى مؤهلا دائماً لدفع فاتورة الخاسرين ولتقسيمات المنتصرين..، هكذا يقول التاريخ، وهكذا تحكي الجغرافيا، وهو ما تقود إليه مؤشرات المواجهة القائمة وملامح ما يلوح في الأفق، وهذا ما يمكن للعقل أن يستوعبه ويأخذ ببعضه على الأقل!!
تنشر بالتزامن مع الزميلة «الثورة» ـ سورية