الأدب والسينما العلاقة الباحثة عن الحكايات

حيضر بنمومن

عندما نتحدّث عن علاقة الأدب والسينما بصيغة واو العطف ، التي تفيد مطلق الجمع والإشراك، لا باستعمال صيغ أخرى من قبيل «علاقة الأدب بالسينما» أو «علاقة الأدب مع السينما»، وهي الصيغ التي تحصر قطعاً هذه العلاقة، فنحن نتحدّث عن علاقة مركّبة. علاقة معقّدة بالفعل. فمنذ ظهور السينما في أواخر القرن التاسع عشر، مرّت علاقة الأدب والسينما بمراحل مختلفة يطبعها الانسجام والتجاذب تارة، والصراع والتنافر أخرى. واتخذت اشكالاً مختلفة كالاقتباس السينمائي والروائي، علاقة الأدباء والمخرجين، الكتاب والإخراج، السيناريو.

لكن على رغم هذا الغنى وهذا التنوّع، يلاحظ أنه على مستوى الدراسات، النقدية أو الأكاديمية، غالباً ما تختزل علاقة الأدب والسينما في اتجاه واحد، وهو تأثير الأدب على السينما. في وقت يُهمَل جانب آخر أو يُغيّب، لا يقلّ أهمية عن الأول ألا وهو تأثير السينما على الأدب، أو بلغة أدق، تأثير السينما على الكتابة الروائية.

كيف يتحوّل الخطاب؟

فما هي أوجه التلاقي والتقاطع بين اللغة الفيلمية واللغة الروائية؟ وما هي الطرق والأساليب التي يتم بها تحويل الخطاب أو اللغة الفيلمية داخل النص الأدبي.

قبل الإجابة عن هذين السؤالين، لا بدّ من تحديد معنى مفهوم أساس، ألا وهو «الرواية السينمائية». فهذه التسمية تطرح إشكالاً معقداً باللغة العربية أكثر مما تطرحه باللغة الفرنسية. حيث يحيل هذا المصطلح بالعربية إلى ثلاثة مفاهيم بالفرنسية، «cin roman», «cinario», «le roman cin matographique» وهي التي تشكل ثلاثة أصناف متباينة تماماً «للرواية السينمائية». نحن لن نخوض هنا في متاهات تحديد المفاهيم، بل سنكتفي بإعطاء تعريف وظيفي بسيط لنحدد بدقة، قدر الإمكان، المعنى الذي نقصده. الرواية السينمائية هي صنف أدبي ـ وليس سينمائياً ـ الذي يوظف فيه الكاتب على مستوى الشكل الكتابة والسرد والمضمون مجموعة من التقنيات السينمائية، التي تبقى في نهاية المطاف مجرد أدوات يتم توظيفها لإعطاء الكتابة الروائية ميزة تصويرية لسرد قصة ما.

إن مسألة التقريب بين اللغة الفيلمية والروائية، والتحويل اللغوي للخطاب الفيلمي داخل النصّ الأدبي شكّل لعقود عدّة موضوع جدل كبير في الأوساط الأدبية والسينمائية. فهناك من يرى أنه لا يمكن الجمع على الإطلاق بين الأدب والسينما على مستوى الكتابة، لأن طبيعة اللغتين ومادتيهما مختلفتان تماماً، وهو الرأي الذي يذهب إليه على سبيل المثال الروائي الفرنسي جون ريكاردو، الناقد جون ميتري والمخرج السويدي انغمار برغمان. في حين يرى آخرون وأهمهم المخرج الروسي ايزينشتاين، المخرج الإيطالي فدريكو فلليني، مارسيل مارتن، سكوت فتزجيرالد وغراهام غرين، أن السينما أقرب الفنون إلى الأدب، لاشتراكهما في عنصر جوهري هو «السرد».

الأدب يوظف السينما

يذهب ايزينشتاين إلى أبعد من هذا ليصرّح أن الأدب كان له السبق في توظيف بعض التقنيات السينمائية حتى قبل ولادة السينما. ويعطي كمثال على ذلك الروائي تشارلز ديكنز الذي يوظف بشكل منهجي في بعض من رواياته تقنية المونتاج المتوازي رواية غوستاف فلوبير مثلاً وهي التقنية نفسها التي يوظفها الروائي الفرنسي على مستوى الحوار في روايته الشهيرة «مدام بوفاري». ويعاضد ايزينشتاين في هذا الرأي الكاتب الفرنسي جوليان كراك في كتابه «En lisant en crivant» حيث يشير هذا الأخير إلى أسلوب بالزاك التصويري والميزة الاستحوارية «panoramique» الفريدة لدى الكاتب في روايته. بحسب كراك، الجزء الأول من هذه الرواية تم تصويره على شكل ترافلين جوي.

وإلى غاية اليوم، ما زال الجدل حول «الرواية السينمائية» مطروحاً في الأوساط الأدبية والسينمائية، ولكن بحدة أقل حيث أصبح هناك توجه، سواء على مستوى النقد أو الكتابة الروائية، يبدي رأياً منفتحاً أكثر حول تحويل اللغة الفيلمية داخل النص الأدبي، خصوصاً مع تزايد عدد الكتاب الذين يعلنون بشكل صريح تأثير السينما على كتاباتهم.

البحث عن الحكاية

من دون شك، تبقى الرواية من بين أكثر الأجناس الأدبية التي خضعت لتأثير مباشر للسينما وهو الأمر الذي يظهر بشكل واضح، سواء على مستوى الكتابة أو على مستوى المخيال. فمن وجهة نظر جمالية، فكل من الرواية والفيلم يتقاسمان مجموعة من الخصائص، ولعل أهمها «السرد».

على مستوى السرد، من بين الأمور التي يشترك فيها كل من الفيلم والرواية بحثهما المنهجي عن الاستمرارية في الحكي وإعادة تركيب الأحداث بشكل أكثر واقعية. وتعد الموضوعية في الوصف من بين التقنيات الجديدة في السرد التي ميزت الرواية الحديثة التي يعود الفضل الكبير فيها إلى السينما. يعتبر الكتّاب الأميركيون الجيل الرائد الذين وظفوا بشكل منهجي تقنية الوصف الموضوعي في رواياتهم. ومن وجهة نظر سلوكية، ترتكز هذه التقنية على الوصف الخارجي لسلوكات الشخصيات من دون إبداء أيّ تعليق، شرح أو تأويل للراوي لما يجري داخل سيكولوجية هذه الشخصيات. وتهدف هذه التقنية إلى إشراك القارئ ذهنياً وعاطفياً في عملية السرد متحرّراً بذلك من السلطة المطلقة للراوي.

كذلك، يعتبر المونتاج من بين أكثر التقنيات الفيلمية استعمالاً في الرواية. ويتم توظيفه على مستوى البنية السردية للقصة باستخدام المونتاج المتوازي والمونتاج المتناوب. فالأول يعتمد على سرد قصتين مترابطتين في الزمان مختلفتين في المكان. والثاني، بالعكس، يعتمد على سرد قصتين لا توجد بينهما أي علاقة تزامنية سوى العلاقة السببية أو الثيمية. ويظهر المونتاج أيضاً على مستوى شكل الرواية باستعمال الوصلات، سواء على مستوى الفصول كالربط بينها بالكلمات نفسها، العبارات أو الجمل وفي كثير من الأحيان بالمشهد نفسه. كما يتجلى استعمال الوصلات أيضاً على مستوى الفقرات والجمل، التي تهدف بالأساس إلى ضمان انتقال سلس في الأحداث، الزمان والمكان.

ولا يمكن الحديث هنا عن المونتاج، من دون أن نستحضر «الحركة» التي تعتبر عنصراً أساسياً آخر جاءت به السينما.

فالحركة تعتبر من بين الخصائص الجوهرية في تعريف الصورة الفيلمية التي تميّزها عن الصورة الفوتوغرافية، والتي بحسب أندريه مالرو مكّنت السينما من تحقيق استقلاليتها عن الفنون الأخرى. لا يمكن فهم الحركة في الرواية من دون الإشارة هنا إلى مصطلح أساسي وهو الكرونوتوب، الذي يقترحه المفكر الروسي ميخائيل باختين في كتابه «جمالية ونظريات الرواية». بحسب هذا الأخير، الكرونوتوب هو «زمان ـ مكان، الترابط الوثيق والضروري القائم بين الروابط الفضائية ـ الزمانية. الحركة هي نتائج لتوالي اللقطات أو الإطارات، بحسب تراتب معين في الزمان والمكان.

وهذا التسلسل هو الذي يعطينا إيقاع الفيلم أو الرواية. فتسلسل الأحداث أو المشاهد بطريقة سريعة أو بطيئة بحسب وتيرة السرد هو الذي يعطي للرواية انطباع الحركة. وهو الانطباع الذي يمكن تعزيزه أكثر عن طريق حركة الشخصيات داخل الفضاء الروائي أو حركة الزمان.

في ما يخص طرق تحويل اللغة الفيلمية داخل النصّ الأدبي، يمكن التمييز بين ثلاثة مستويات: مستوى ثيمي، أسلوبي وسردي. على المستوى الثيمي، يمكن للسينما أن تظهر في النصّ الأدبي على شكل موضوع، أو عنصر ثقافي يحيل إلى موروث ثقافي في الذاكرة الجماعية. حيث يمكن أن نجد في الرواية إحالات مختلفة إلى عنوان فيلم، اسم مخرج، ممثل أو ممثلة أو في أحيان أخرى صنف سينمائي مثل أفلام المغامرة، أفلام بوليسية، الكوميديا الموسيقية… ويمكن لهذه العناصر أن تظهر، إما بشكل صريح أو ضمنيّ. وتطرح الإحالات الضمنية تحدّياً أكبر للقارئ لأن الأمر يتطلب أولا توظيف قدرات ذهنية من قبيل المقارنة، التحليل والاستنتاج من أجل التعرّف إلى العناصر السينمائية في الرواية، وثانياً يتطلب الأمر أيضاً توظيف ثقافة سينمائية واسعة لفك شفرات الخطاب الفيلمي.

على مستوى الأسلوب، يرتكز تحويل اللغة الفيلمية إلى استعمال بعض التقنيات السينمائية المحضة، سواء على مستوى الكتابة أو السرد مثل التأطير، حركات الكاميرا، المونتاج، الصوت. فالتأثير السينمائي يظهر هنا على مستوى الشكل

والأسلوب، لا على مستوى المضمون.

ويمكن للسينما أن تظهر هنا أيضاً إما بشكل صريح أو ضمني. في الحالة الأولى، يستخدم الكاتب المصطلحات الفيلمية بشكل مجازي، حيث نجد في النص مفردات مثل «مونتاج»، «ترافلين» «إطار كبير»… هذه المفردات الفيلمية تظهر إذن بشكل صريح. في الحالة الثانية، يلجأ الكاتب إلى الوصف من دون استعمال هذه المفردات الفيلمية وهو الأمر الذي يطرح مرة أخرى تحدّياً أكبر للقارئ، كما سبق وأشرنا إلى ذلك، لأن التعرّف إلى التأثير السينمائي يتطلب ثقافة سينمائية واسعة. وأخيراً على مستوى السرد، تظهر السينما في الرواية على شكل ممارسة مهنية أو تجربة لمشاهدة فيلم. نتحدّث هنا عن وجود الموضوع السينمائي كفاعل حقيقي داخل عملية السرد أو القصة مثلاً في عدد من الروايات توجد شخصيات تذهب إلى السينما، تحضر أو تشارك في عملية التصوير، تقوم بإخراج أو كتابة فيلم. الرواية الحديثة مليئة بالأمثلة حيث تجد عدداً من الشخصيات الفنية، ممثلين، مخرجين، منتجين يلعبون أدواراً محورية في القصة.

في النهاية، ليس ضرورياً أن تجتمع هذه المستويات الثلاثة في الرواية حتى نتحدث عن صنف الرواية السينمائية، بل يمكن أن يقتصر الأمر على وجود مستويين أو واحد فقط.

كاتب وناقد مغربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى