معركة الكرامة حطمت أسطورة جيش الاحتلال
عباس الجمعة
عندما نكتب عن ذكرى «معركة الكرامة»، هذه المعركة البطولية التي خاضها الفدائييون، حيث مرّغوا أنف الاحتلال الصهيوني، وكبّدوه خسائر كبيرة على المستويين السياسي والعسكري، فهذه المعركة هي معركة فاصلة في تاريخ الثورة الفلسطينية الحديثة، وهي المعركة التي دارت رحاها في بلدة الكرامة في غور الأردن بتاريخ 21/3/1968 بين الفدائيّين الفلسطينيين ومعهم أبطال الجيش الأردني من جهة، وبين القوات الصهيونية المجهّزة بالطائرات والدبابات، فكان قرار الصمود والانتصار بأيّ ثمن، فقاتل الجميع من ضباط وجنود وفدائيين جنباً إلى جنب، واستشهد عدد كبير من الضباط، وهذا مخالف لما يحدث عادة حيث تكون أغلبية الشهداء من الجنود، أما سببه فيعود إلى القرار بأن يكون الضباط في المقدّمة مع الجنود.
نعم نحن في ذكرى محطة هامة من تاريخ النضال الوطني والقومي، حيث خاض مقاتلو الثورة الفلسطينية ببسالة نادرة وقدّموا حوالي مائة شهيد، واستبسلوا وأبلوا بلاء حسنا، إنها معركة تعبّر عن انعطاف تاريخي في تاريخ الصراع العربي ـ الصهيوني، وبالتحديد لها دور كبير جداً في مفهوم الثورة الفلسطينية النضالي، إذ انها تنطلق بفكر وطني ثوري يعتمد الكفاح المسلح وحرب العصابات أسلوباً للنضال يتراكم ليحقق تحرير فلسطين.
اليوم نحن نعيش في ظروف بحاجة الى قراءة كاملة ما بين انتصار الكرامة وصمود بيروت وبعد الانتفاضات الاولى والثانية والثالثة تتطلب رسم رؤية نضالية امام كلّ المؤشرات والعوامل الموضوعية، وخاصة انّ انتفاضة فلسطين اليوم تتجه إلى المواجهة الشاملة والتصعيد ضدّ الاحتلال، حيث يؤكد الشعب الفلسطيني انه ماض في طريق النضال ولا يمكن أن يستسلم لأنه ضاق ذرعاً بما سُمّي عملية السلام الزائفة، ووصل إلى قناعة عميقة وشاملة بأنه ليس أمامنا خيار إلا مواجهة هذا الاحتلال الغاشم، ولم يتبقّ أيّ رهان على حلول سياسية ثبت فشلها، في ظلّ استيطان وتهويد وسيطرة على كلّ شيء في القدس والضفة، لذلك لا خيار أمام الشعب الفلسطيني إلا مواجهته بكلّ الوسائل.
انّ ما يكتبه اليوم شابات وشباب فلسطين بدمائهم هو جزء من معركة الكرامة، لانّ هذه المواجهة الشعبية للاحتلال والتصدّي لجرائمه لم تتوقف يوماً، وهذا يتطلب من جميع الفصائل إعادة الاعتبار لخيار الانتفاضة والمقاومة على ضوء فشل عملية التسوية، ودعم الإدارة الأميركية للاحتلال، وممارستها لعملية التضليل والخداع.
ومن موقعنا نقول إنّ الجميع يعرف أنه لا سلام ولا استقرار ولا أمن في منطقة الشرق الأوسط إذا لم تتمّ استعادة الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، ايّ حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، رغم ما تعيشه المنطقة ودولها من قضايا وهموم ومشاكل داخلية، في اليمن، والعراق وسورية، وغيرها… وفي ظلّ وجود أوضاع إقليمية ودولية متعدّدة أبعدت الانتباه عن القضية الفلسطينية، ولهذا نقول واهم من يعتقد أنّ قضية فلسطين يمكن أن تموت، أو تنتهي فالقضية حية، وستبقى أساس الصراع في المنطقة.
وفي ظلّ هذه الظروف نرى أهمية العودة إلى المشروع الوطني الفلسطيني، ورسم استراتيجية عمل فلسطينية جديدة تقوم على قاعدة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتطوير وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها، وإنهاء الانقسام الفلسطيني، ودعم وحماية الانتفاضة.
وفي ذكرى معركة الكرامة نقول إنّ شعبنا بحاجة إلى عملية تقييم للمرحلة النضالية أين أخطأنا وأين أصبنا، واستخلاص الدروس منها، ومن ثم رسم استراتيجية عمل فلسطينية جديدة تقوم على تعزيز الوحدة وإنهاء الانقسام وتنفيذ قرارات المجلس المركزي ومواصلة الكفاح والنضال.
لقد أثبتت معركة الكرامة أنّ القيادة الفلسطينية التاريخية التي جسَّـدها الرئيس الرمز ياسر عرفات كانت تمتلك الرؤية السياسية الواضحة، والقدرة على اتخاذ القرار العسكري، والنجاح في تقدير الموقف، كانت معركة الكرامة وما زالت عنواناً للكرامة الفلسطينية، وستظلّ نبراساً مضيئاً على طريق الثورة والتحرير.
لا شك أنّ انتصار المقاومة الفلسطينية قد حطـَّم أسطورة جيش الاحتلال، وزرع الجرأة في نفوس القادة العسكريين للبدء بحرب الاستنزاف التي قادها الجيشان المصري والسوري، لقد كانت معركة الكرامة ركيزة أساسية من ركائز التحوّلات في المنطقة، كما شكلت هذه المعركة بأبعادها المتعدّدة تحوُّلاً ملحوظاً وهاماً في مسيرة الثورة الفلسطينية.
انّ ما وصلت اليه مسيرة النضال اليوم يتطلب وقفة جادّة وخاصة في ظلّ الظروف الراهنة التي وصلت اليها مسيرة الثورة بكافة فصائلها وخاصة وصول أشخاص لا يمتون إلى النضال بصلة، فهم أصحاب الصور والمصالح والامتيازات، وحتى نأخذ الدرس وخاصة عندما ترجّل القائد الرمز الرئيس ياسر عرفات، هذا القائد والمقاتل الصلب الذي ما فارقت البزة العسكرية جسده لأنه كان مؤمناً بروحه وفكره ووقته لقضية شعبه، وكان في مقدّمة من امتشق السلاح وحارب. لم يعرف مستقراً إلا حيث يكون فيه موقعٌ لنضالٍ، ولم يعرف غير ثبات الموقف، واستقامة الفكر، رغم تعرّجات الطريق، وطَّن نفسه على حياة الكفاح، فاستطاب له، وطابت معها النفس الملتحمة بصعوباتها والمتحدية لكلّ مصاعبها، هناك في سواد أيلول، في أحراش جرش وعجلون، في جنوب لبنان وصمود بيروت الأسطوري، وفي عبور الى الوطن، ينسج شبكة من المناضلين، يزوّدهم بروح النضال والكلمات عن الاستمرار والصمود والتضحية، كما القادة الشهداء العظام من ابو العباس الى ابو علي مصطفى الى سمير غوشه وطلعت يعقوب وابو عدنان قيس وصولاً الى بشير البرغوثي وابو احمد حلب، هؤلاء عرفوا بصورة غير مباشرة لعقود، إنه الملح الذي لا يفسد، والضمير الذي لا يصدأ، والعزيمة التي لا تلين، فكانوا حراس القيم الثورية الذي لم تضعفهم محنة نضال، مهما تعاظمت، أو فتنة حياة، مهما كبُرت، انهم القادة المتواضعون، نظيفو الأيدي والقلوب والألسن، انهم القادة الذين عركهم الكفاح وعلموا فنون القيادة، وبُعد الرؤية، والحرص الوطني، والانشداد للمناضلين وللشعب، إنهم القادة الذين لم يتعبوا، مؤكدين للجميع اننا لا زلنا في بداية الطريق، ومشوارنا صعب، وطويل لكننا نسير في الاتجاه الصحيح وبيدنا بوصلة الرؤية السياسية والتنظيمية والفكرية والكفاحية، التي لن تجعلنا نتوه عن الطريق، ونحن نتطلع الى من يسمع نصيحتنا ليعالج ويستنتج ويرسم طريقاً، ويبحث عن أفضل التكتيكات والمعالجات، فالظروف متغيّرة ومعركتنا طويلة والقوالب الجامدة يجب ان تكسر لمصلحة عمل أكثر حيوية في خدمة القضية الوطنية وتأطير على للجهد، وحتى يكون كلامي واضحاً، والنصيحة بجمل كما يُقال، أعود إلى الذاكرة للتذكير، وهنا أكتفي لإعطاء المجال لنقاش حرّ وشفاف في ذلك، الأمر الذي ينسجم مع رؤية اغلبية المناضلين في كلّ الفصائل الفلسطينية، لأننا نحب ونتمنى للجميع كلّ الخير.
ختاماً: لا بدّ من القول، في حضرة معركة الكرامة معركة البطولة والفداء والتضحية والانتصار، من حق الشعب الفلسطيني استخدام كافة خياراته ووسائله من أجل استعادة حقوقه، في ظلّ استمرار الانتفاضة الفلسطينية، كما يستدعي التمسك بالثوابت الفلسطينية، دفاعاً عن حقوق شعبنا الفلسطيني، وحقه في العودة والحرية والاستقلال.
كاتب سياسي