رحيل نجم هولندا الساطع
فُجع الوسط الكروي حول العالم برحيل نجم هولندا يوهان كرويف عن عمر يناهز 68 سنة بعد صراع مع المرض.
قليل هم اللاعبون الذين يمكننا مقارنتهم بنجوم من طينة بيليه أو بيكنباور أو مارادونا. لكن الأمر مختلف مع كرويف رغم عدم حصوله على أي لقب دولي مع منتخب هولندا، ورغم مشاركته في دورة وحيدة من دورات كأس العالم FIFA. إذ امتلك هذا اللاعب الداهية من الموهبة ما جعله نجماً ساطعاً في سماء كرة القدم العالمية، ومكّنه من دخول تاريخ أعلام كرة القدم من أوسع أبوابه.
أسطورة أياكس
نشأ يوهان كرويف داخل ملعب نادي أياكس أمستردام وترعرع بين أحضانه، حيث كانت والدته تعمل في قسم النظافة التابع للنادي. أما والده فقد توفي بعد أزمة قلبية عندما كان يوهان في الثانية عشرة من العمر. وقد قرر الطفل يوهان تكريس حياته لبلوغ هدف واحد ووحيد: احتراف كرة القدم. وبدأ التمرّن مع نادي أمستردام وهو لم يتجاوز 7 سنوات. ثم غادر بعد ذلك المدرسة، وخصّص حياته لكرة القدم عن سنّ 13 سنة رغم رفض والدته للأمر جملة وتفصيلاً قبل مماتها.
وقد اكتشف الداهية رينوس ميتشيلز براعة ذلك الطفل النحيل مبكراً، وأخضعه لبرنامج مكثّف من التمارين المجهدة بقصد تحسين لياقته البدنية وإعداده لحياة الاحتراف الشاقة. والتحق كرويف بالفريق الأول لنادي أياكس عند سن 17 عاماً، وبعد ذلك بسنتين، أي في عام 1966، توج بطلاً لدوري هولندا لأول مرة، وهو للإشارة اللقب الذي حازه 9 مرات.
واشتهر كرويف بين عشاق كرة القدم بأنه لاعب أنيق، ذو فنيات مذهلة وسرعة فائقة، ولعبه نظيف، وتدخلاته رزينة. كما ذاع صيته بفضل تمريراته الحاسمة والدقيقة، ومزجه بين براعة صانع الألعاب ودقة الهداف.
أما على المستوى الشخصي، فقد عُرف كرويف بثقته الكبيرة في النفس، ودفاعه المستميت عن أفكاره، وعدم خوف في الحق لومة لائم. وكان هذا الأمر ذا عواقب وخيمة على مسيرة هذا اللاعب، إذ تم إقصاؤه سنة 1973 من حمل شارة كابتن نادي أياكس بعد تصويت رفاقه في النادي، ثم اتهم بالغرور والثقة الزائدة في النفس بعد أن قال في أحد الحوارات: «لا أعتقد أنه سيأتي يوم ينسى فيه أحد اسم كرويف»، وبعد أن صرح: «أتفادى ارتكاب الأخطاء قبل وقوعها».
عندما اكتشف العالم الآلة البرتقالية
كانت مسيرة كرويف قصيرة بعض الشيء، خصوصاً بالنسبة لمثله ممن دخلوا خانة أفضل لاعبي كرة القدم على مر العصور، حيث بدأ المشوار مع المنتخب البرتقالي شهر أيلول 1966 أمام المنتخب المجري، وخاض معه 48 مباراة دولية قبل الاعتزال سنة 1977، بعدما ساهم في تأهل منتخب بلاده إلى نهائيات كأس العالم الأرجنتين 1978.
وقد دخل هذا اللاعب الأنيق تاريخ كرة القدم بعد مشاركته الموفقه في نهائيات ألمانيا FIFA 1974، التي تأهل إليها المنتخب الهولندي بعد مسار عسير، ومن دون أن يرشحه أحد لبلوغ المباراة النهائية. إذ استعصى في البداية على الفريق أن يتأقلم مع نهج المدرب رينوس ميتشيلز، الذي حل في آخر لحظة محل المدرب فرانتيزك فادرهونك. لكن الأمر تغير بعد الدور الأول، وما لبث أن أبهر المنتخب البرتقالي الجمهور والعالم، وأصبح أحد المرشحين الكبار للفوز بالكأس العالمية الغالية.
ثم كشر الهولنديون عن أنيابهم وأظهروا للعالم نجاعة كرة القدم الشاملة التي شكل كرويف طويلاً أحد أقطابها. فرغم كونه على الورق مهاجم البرتقاليين الأوسط، إلا أنه كان يجوب الملعب طولاً وعرضاً باحثاً عن الفرصة السانحة، بينما كان زملاؤه يتقنون مبدأ تغيير المواقع بشكل يجعلهم يبلغون الأهداف الفنية المسطرة بغض النظر عن مواضعهم الأصلية. وقد أدهشت هذه الخطة الجديدة عشاق كرة القدم واعتبرت حينذاك ثورة حقيقية في عالم المستديرة.
دقت ساعة المنتخب البرتقالي وسطع نجم قائده كرويف بدءاً من الدور الثاني، حيث تمكن من كسر شوكة الأرجنتينيين وانتصر عليهم بحصة تاريخية 4-0 سجل كرويف هدفين منهما . ثم فاز على منتخب ألمانيا الشرقية بهدفين مقابل لا شيء، ولاقى بعد ذلك الكتيبة البرازيلية في مباراة اعتبرت حينذاك نهائي قبل الأوان. وقد تفوق الهولنديون في هذا النزال 2-0 أيضاً وأخرجوا منتخب السامبا من هذه الدورة بخفي حنين، وتمكن كرويف من تسجيل هدف جميل في الدقيقة 65، إذ استغل تمريرة كرول العرضية وأدخل الكرة في الشباك ببراعة بعد تسديدة نصف هوائية.
وتألق كرويف وزملاؤه أيضاً في مباراة النهائي، وأبهروا العالم بالتمريرات القصيرة واللعب الجماعي الرائع. وسجلوا هدف المباراة الأول من ركلة جزاء بعد سلسلة من اللمسات الباهرة، ومن دون أن يتمكن الألمان من لمس الكرة ولو مرة واحدة، إذ تمت عرقلة الداهية كرويف في منطقة العمليات من طرف هوينيس بعد أن راوغ فوجتس، وكلف نيسكنز بتسديد الكرة معلناً هدف المباراة الأول ومن دون أن يلمس الألمان الكرة ولو مرة وحيدة. رغم ذلك لم يستطع المنتخب البرتقالي الحفاظ على هذا التقدم طويلاً، حيث أحرز منتخب البلد المضيف هدف التعادل من ركلة جزاء أيضاً قبل نهاية الشوط الأول بدقيقتين فقط نفذها بنجاح جيرد مولر . وتعذر على الكتيبة الهولندية في شوط المباراة الثاني اختراق الدفاع الألماني بقيادة سيب ماير، وضاع منها لقب عالمي كان في المتناول. رغم ذلك تم اختيار يوهان كرويف أفضل لاعب في الدورة.
وقد أعلن كرويف خلال دورة ألمانيا نيته عدم المشاركة في الكأس العالمية التالية بالأرجنتين لرفضه الابتعاد عن أسرته مدة طويلة. وقرر بعد ذلك إنهاء مسيرته الدولية مبكراً لكثرة المشاكل بينه وبين الاتحاد الهولندي.
نجومية مستحقة
رغم ذلك واصل كرويف التألق مع الأندية، وحاز بين 1971 و1973 كأس أوروبا ثلاث مرات متتالية برفقة نادي أياكس. ثم انتقل بعد ذلك إلى إسبانيا وانتزع برفقة برشلونة لقب الدوري بمجرد انضمامه إلى الكتيبة الكتالونية.
أعلن كرويف اعتزاله كرة القدم سنة 1978، بيد أنه عاد للميادين في أيار 1979، وكان ذلك في الولايات المتحدة الأميركية، ثم عاد بعد ذلك لإسبانيا حيث انضم لصفوف نادي ليفانتي الذي كان يلعب في دوري الدرجة الثانية الاسباني. ورجع كرويف في صيف 1981 إلى ناديه الأصلي أياكس، واستطاع الفوز معه بلقب الدوري وكأس هولندا من جديد.
ثم التحق سنة 1983 بنادي فاينورد، خصم أياكس وغريمه التقليدي، وفاز معه أيضاً بالثنائية. ورغم بلوغ كرويف عتبة الثلاثين، فقد تم اختياره أفضل لاعب في هولندا مرتين متتالين سنتي 1983 و1984 ، قبل أن يعتزل كرة القدم نهائياً سنة 1984.
وعاد المعلم إلى برشلونة
وتحمل كرويف مسؤولية تدريب نادي أياكس موسم 1985-1986 رغم افتقاره للتجارب الفنية اللازمة والإعداد الملائم، وفاز معه بالمزيد من الألقاب كأس أوروبا للأندية الفائزة بالكأس سنة 1987 وساهم في اكتشاف العديد من النجوم من أمثال دينيس بيركامب وأرون وينتر وبرايان روي والأخوين روب وريتشارد ويتشج.
ثم غادر كرويف نادي أياكس مرة ثانية، وأسندت له بعد ذلك مهمة تدريب نادي برشلونة الإسباني. وتمكن من إعادة ترتيب أوراق النادي الكتالوني بعد أن أبعد عدداً كبيراً من اللاعبين واستقدم آخرين. وقد استطاع ترك بصمته على أداء النادي في وقت وجيز، وأهدى عشاق كرة القدم مجموعة قوية اشتهرت بين الجمهور باسم فريق الأحلام. وقد نال برفقة برشلونة لقب الدوري الإسباني أربع مرات متتالية، وحاز معه كأس أوروبا سنة 1992.
انفصل كرويف عن نادي برشلونة سنة 1996، بعد أن قضى معه مدة 8 سنوات. وقد اضطر إلى الإقلاع عن التدخين بعد العملية الجراحية التي خضع لها سنة 1991، ثم عاودته المشاكل الصحية بدءاً من 1997، فقرر الابتعاد عن التدريب إلى الأبد مخلفاً وراءه موروثاً ضخماً من اللاعبين والألقاب.
انتهت بذلك مسيرة هذا اللاعب الخارق والفريد، الذي قال عن تجربته برفقة الكتيبة البرتقالية: «لقد أثبتنا للعالم أن بإمكان اللاعبين الاستمتاع بكرة القدم، وأن كرة القدم مناسبة للضحك وقضاء أوقات شيقة. أمثل جيلاً أثبت للعالم أن الجمع بين اللعب الجميل والمتعة والألقاب أمر ممكن وفي المتناول.»