استرداد النفط السعودي بالدم البلجيكي
سعدالله الخليل
لم تكن تفجيرات بروكسل الأولى ولن تكون الأخيرة التي تضرب العمق الأوروبي في العهد الداعشي، وكعادتها تركز دوائر القرار الغربي على ما هو سطحي في التعاطي مع القضية تاركة جوهرها، ليس من باب ضعف الإدراك أو قلة الحيلة إنما عن علم ودراية بأن جلّ ما تستطيع فعله يتمثل بحشد الرأي العام للتعاطف مع مصابهم عبر تكريس سلطة الميديا القوية بحملات دعائية وإعلامية تنتهي مع امتصاص موجات الغضب الشعبي التي عادة ما ترافق الأعمال الإرهابية.
من جملة ما كشفته تفجيرات وبروكسل وقبلها تفجيرات باريس وحالة التخبط التي تشهدها كبرى دول القارة العجوز، هشاشة النظام الأوروبي بأشكاله السياسية والأمنية لعجزه عن حماية مواطنيه ومؤسساته من الاستهداف، بالرغم من التقنية العالية والإجراءات الدقيقة المتبعة في قطاعاته العامة والخاصة والتي لطالما كانت مضرب المثل بالدقة عقب أحداث الحادي عشر من أيلول.
الملك البلجيكي فيليب لم يجد في كلمة متلفزة إلا أن يشارك وزوجته الألم والحزن مع مَن فقد قريبًا أو جُرح في الهجمات التي وصفها بالجبانة والبغيضة داعيًا الشعب البلجيكي إلى الإبقاء على ثقته في نفسه مصدر قوة بلجيكا، بحسب كلام الملك. لم يقدِّم الملك البلجيكي لشعبه ما يفسّر تهاوي المنظومة الأمنية رغم التحذيرات المتعددة من وقوع هجمات إرهابية في عاصمته بروكسل، كما أنه لم يُجب عن التساؤلات التي طرحتها الصور الواردة من اقتحام شقة المتهمين والتي يتصدرها علما تنظيم داعش الإرهابي والمملكة السعودية، في صورة تكشف تغاضي الدول الأوروبية عن الدور السعودي الوهابي في ما يجري في قلب القارة العجوز.
على بعد أمتار من مكان التفجير وليس ببعيد عن مقر الاتحاد الأوروبي يستحوذ الجامع الكبير على مساحة من حديقة Cinquantenaire إحدى كبريات الحدائق الأثرية، والتي افتتحت في الذكرى الخمسين لاستقلال بلجيكا عام 1880 والذي صمّم كجناح شرقي في مجمع للمتاحف منحه عام 1967، حيث قدمه الملك بودوان هدية إلى الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز مقابل تدفق النفط بأسعار زهيدة لبلجيكا طيلة 99 عاماً، وحوّله خليفته خالد لما عُرف بالمركز الثقافي الإسلامي البلجيكي. وبموجب الاتفاق سمح الملك البلجيكي بأن تتولى السعودية تدريب الأئمة في بلجيكا ومنح تفويضاً مطلقاً للعائلة المالكة السعودية لنشر رسالة السلفية.
ليس بخفيٍّ الدورُ المشبوهُ للمركز الذي يخرّج 700 طفل سنوياً من حفظة القرآن المشبعين بالفكر الوهابي. وفي الصيف الماضي نشرت ويكيليكس وثائق تضمّنت إبلاغ السلطات البلجيكية السفارة السعودية في نيسان 2012 بوجود مشاكل مع مدير المركز آنذاك خالد العبري، بسبب خطبه السلفية والمعادية للغرب، فأقيل العبري من منصبه بدون ضجة، وهو ما يكشف جانباً من التعامي البلجيكي والتراخي في التعاطي مع الفكر الوهابي مقابل ضمان التدفق النفطي، وربما يفسّر في الجانب الآخر التشدد الأوروبي في فرض العقوبات على إيران ضمن الصفقة السعودية في إطار حربها ضد طهران خلال العقود الماضية.
ليست بلجيكا الاستثناء، فالملك فهد موّل مساجد عدة حول العالم في تورنتو وبيونس أيرس والمالديف وإنجامينا وأدينبره، وفي ملقا مركز ضخم يحمل اسم مركز الملك فهد الإسلامي كلها مكرسة لنشر فكر السعودية، عدا عن المساجد المموّلة من الجمعيات الخيرية السعودية وزكاة رجال الأعمال السعوديين، كمسجد وايت شابل شرق لندن المكوّن من ستة طوابق ويتسع لعشرة آلاف مصلٍّ والذي افتتح عام 2004 بحضور الشيخ عبد الرحمن السديس، كبير الأئمة في المسجد الحرام في مكة ومعروف عن السديس فكره المتطرف الوهابي. ولعل كلام عز الدين غاسي رئيس المجلس الإسلامي الإقليمي في منطقة رون جنوبي فرنسا يكشف حقيقة المساجد المموّلة سعودياً فيقول «عندما تعطيك المملكة مليون يورو بيد تعطيك باليد الأخرى قائمة بما يجب وما لا يجب عليك قوله».
في الولايات المتحدة للمساجد الممولة سعودياً تاريخ لا يقل عن نظرائها في أوروبا ومتهمة بدعم تنظيم القاعدة ونشر أشرطة الفيديو الدعائية التي أنتجها التنظيم ومن مروّجيها آدم غادان سعودي المولد متخرج من مسجد الجمعية الإسلامية في أورانج كونتي بولاية كاليفورنيا الذي بنته السعودية، وأصبح عضواً في مجموعة من المتطرفين المسجد ذاته، وفي لوس أنجلوس عمل فهد الثميري إمام مسجد الملك فهد في كلفر سيتي كدبلوماسي معتمداً لدى القنصلية السعودية في الفترة من 1996 وحتى 2003، لحين منعه من العودة إلى الولايات المتحدة بعد أن أشارت وزارة الخارجية الأميركية لارتباطه بنشاط إرهابي.
بعد ما يقارب النصف من تدفق الفكر الوهابي مقابل النفط السعودي وبعد أكثر من ثلاثة عقود من الإقرار الأوروبي الأميركي بأن المساجد المموّلة من السعودية تشكل أكبر وكر للوهابية في أوروبة والعالم، ومع دورة المال والفكر السعودي في الغرب، فإن الدم البلجيكي وقبله الفرنسي وما سيلحقه يأتي في سياق استرداد المملكة نفطها المتدفق إلى تلك الدول بأسعار زهيدة لعقود.