«داعش»… نهاية حقبة «الذئب الوحيد»

كتب ماثيو ليفيت في «فورين بوليسي»:

أوضحت تفجيرات بروكسل أنّ حجم التهديد الذي يشكّله تنظيم «داعش» بالنسبة إلى الغرب يفوق كثيراً ما كان يَعتقد معظم الغربيين سابقاً. فلم يعد هذا التهديد محصوراً بتطرّف حوالى خمسة آلاف مواطن أوروبي كانوا قد تركوا راحة منازلهم وأمانها ليحاربوا في صفوف تنظيم «داعش» في سورية والعراق ومؤخراً في ليبيا، ولم يتّسع ليشمل فقط تنفيذ ما يُسمّى بمخططات «ذئب وحيد»، وهي عبارة عن هجمات ذاتية التنظيم يقوم بها متطرّفون محلّيون.

فقد أثبتت تفجيرات بروكسل أنه من الواضح بشكل مؤلم أن تنظيم «داعش» عازم على التخطيط لتنفيذ هجمات أكثر حنكة وفتكاً بكثير من أحداث العنف المحدودة وتوجيهها في الغرب.

وسيكون مفهوماً لو عبّر الشعب عن قلقه ومخاوفه إزاء هذا الخطر المتفاقم، ولكن لا يحقّ لمسؤولي مكافحة الإرهاب في الغرب أن يُفاجأوا به، فكلّ من يتابع الوضع عن كثب وبشكل كافٍ لاحظ أنّ توسّع قدرات تنظيم «داعش» كان واضحاً منذ أكثر من سنة.

وبعد أن باشر التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة بشنّ هجمات ضدّ أهداف تنظيم «داعش» في آب 2014، دعا المتحدث بِاسم الجماعة أبو محمد العدناني أنصارَ التنظيم إلى تنفيذ هجمات إرهابية على أساس فردي تستهدف الغرب قائلاً: «إذا قدرت على قتل أو ذبح كافر أميركي أو أوروبي وأخص منهم الفرنسيين الأنجاس أو أسترالي أو كندي أو غيره من الكفار المحاربين رعايا الدول التي تحالفت على داعش، فتوكل على الله واقتله بأيّ وسيلة أو طريقة كانت».

ومنذ ذلك الحين، يحاول أنصار تنظيم «داعش» والمتعاطفون معه تلبية دعوته. وقد سبّبت هجمات كانون الثاني 2015 في باريس على مكاتب المجلة الساخرة «شارلي إيبدو» وعلى محل بقالة لبيع منتجات موافقة للشريعة اليهودية بعض الارتباك، إذ تبيّن ارتباط بعض مرتكبيها بتنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» في حين كان بعضهم الآخر متأثراً بتنظيم «داعش». ولكن عند مراجعة هذه الأحداث، يتبيّن أنّ هؤلاء «الأصدقاء الأعداء» الإرهابيين التابعين إلى التنظيمين على التوالي اللذيْن كانا يقاتلان بعضهما البعض في حرب في سورية ، لا يزالون جزءاً من ظاهرة «المجرم المنفرد». ومع أنّهم يمكن أن يكونوا قد استوحوا أفعالهم من جماعات مقرّها في الشرق الأوسط، إلا أن هذه الأخيرة لم تكن هي التي تُوجّههم.

وعقب هول هذه الهجمات ضاع رهج نقطة التحوّل المحورية في إرهاب تنظيم «داعش» في أوروبا، أي المخططات التي ردعتها مداهمات جرت في فيرفيرس، بلجيكا، بعد أسبوع من هجمات «شارلي إيبدو». وفي الواقع، شكلت هذه المداهمات لحظة حاسمة بالنسبة إلى مسؤولي مكافحة الإرهاب الأوروبيين والسلطات البلجيكية بشكل خاص التي أطلقت عملياتها بناءً على معلومات مفادها أنّ الخلية تخطط لتنفيذ هجمات وشيكة وواسعة النطاق في بلجيكا.

وخلال المداهمات عثرت الشرطة على أسلحة نارية أوتوماتيكية، ومركّب ثلاثي الأسيتون ثلاثي فوق أكسيد الكربون TATP المتفجّر، وكاميرا تُثَبَّت على الملابس، وعدداً من الهواتف الجوالة، وأجهزة لاسلكية يدوية، وأزياء شرطة، ووثائق هويات شخصية مزورة، ومبالغ كبيرة من المال. واستناداً إلى معلومات من أجهزة الاستخبارات الأوروبية والشرق أوسطية، أحبطت المداهمات «هجمات إرهابية كبرى» كانت ستُنفَّذ في بلجيكا على الأرجح، على الرغم من أنّ التحقيقات في نشاطات المجموعة شملت عدة بلدان أوروبية بما فيها فرنسا واليونان وإسبانيا وهولندا. وقد قاد العملية المواطن البلجيكي عبد الحميد أباعوض، وذلك من مخبأ في أثينا في اليونان عبر هاتف جوال، في حين عمل أعضاء المجموعة الآخرين في عدة بلدان أوروبية أخرى حسب ما أفاد به المحققون. ووفقاً لتقييم استخباري قامت به وزارة الأمن الداخلي في الولايات المتحدة، أشارت العناصر التي ضُبطت أثناء تفتيش مساكن تابعة للخلية إلى أنّ خطط المجموعة قد تكون قد شملت استخدام الأسلحة الخفيفة والعبوات الناسفة أجهزة تفجير ارتجالية ، فضلاً عن انتحال شخصية عناصر من الشرطة.

وسرعان ما بدأت السلطات تقتنع بأنّ التهديد الذي يواجه أوروبا لم يعد يقتصر على مجرمين منفردين متأثرين بالجماعة، بل أصبح يشمل مقاتلين إرهابيين أجانب مدرَّبين وذوي الخبرة يتولّون تنسيق الهجمات بقيادة تنظيم «داعش» في ولايات قضائية متعدّدة.

وسرعان ما ركّزت السلطات على القبض على قائد المخططات البلجيكية أباعوض، الملقب بأبي عمر البلجيكي، إلا أنّه تمكّن من تضليل السلطات رغم عملية مطاردة واسعة النطاق في جميع أنحاء أوروبا، وهرب من بلجيكا إلى سورية، ثم عاد إلى بروكسل. وتفاخر أباعوض في وقت لاحق بهروبه في مقابلة مع المجلة الدعائية «دابق» التي يصدرها تنظيم «داعش» قائلاً: «اسمي وصورتي كانا على الأخبار ومع ذلك كنت قادراً على البقاء في أرضهم، التخطيط لعمليات ضدهم، ثم المغادرة بأمان إذا تحتَّم عليَّ ذلك».

وأصبح التهديد الذي يواجه أوروبا يتخذ شيئاً فشيئاً شكلاً أكثر وضوحاً. ففي نيسان 2015، ألقت السلطات الفرنسية القبض على أحد عناصر تنظيم «داعش» كان قد طلب مساعدة طبية بعدما أطلق النار على نفسه عن طريق الخطأ. ووجدت السلطات في شقّته أسلحة وذخائر، وملاحظات على أهداف محتملة، من بينها كنائس، والتي كان قد طُلب منه استهدافها من قبل شخص ما في سورية، وذلك وفقاً للمدعي العام في باريس فرانسوا مولان. وأفاد تقرير استخباراتي أميركي بأنّ علاقة كانت تربط منفّذ العمليات التابع لتنظيم «داعش» بأباعوض، وأنّه أعرب في وقت سابق عن رغبته في السفر إلى سورية.

وبحلول أيار 2015، خلصت سلطات إنفاذ القانون الأميركية إلى أنّ تغيراً كاملاً قد طرأ على طبيعة التهديد الإرهابي الذي يشكّله تنظيم «داعش». وفيما لا تزال التهديدات صادرة عن مجرمين منفردين متأثرين بتنظيم «داعش»، استنتج تقييم الاستخبارات الأميركية أنّ عمليات تنظيم «داعش» في المستقبل سوف تشبه مخطط فيرفيرس المدروس الذي تمّ تعطيله. وأثبت ذلك المخطط «ذو طابع متعدد الولايات القضائية» لمسؤولي مكافحة الإرهاب الأوروبيين والأميركيين أهمية تبادل المعلومات بين الوكالات الوطنية، إلا أنّ تنفيذ الإصلاحات اللازمة قد يتطلّب وقتاً طويلاً.

وتسارعت وتيرة مخططات تنظيم «داعش» التي يديرها عناصر أجانب في صيف 2015. ففي منتصف آب، ألقي القبض على رجل ـ كان قد عاد مؤخّراً من رحلة دامت ستة أيام إلى سورية ـ أثناء محاولته تنفيذ هجوم على حفل موسيقي في فرنسا. وأخبر الرجل الشرطة أنّ مَن أمَرَه بتنفيذ الهجوم هو رجلٌ تنطبق صفاته على أباعوض. وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، تمكّن جنود أميركيون في لباس مدني من السيطرة على مسلّح كان يحاول تنفيذ هجوم ضدّ قطار «تاليس» يتجه من أمستردام إلى باريس.

إلّا أنّ الحظ كفّ عن الابتسام عندما ضرب إرهابيون باريس في 13 تشرين الثاني 2015. وقد شكّلت تلك الهجمات المتعددة والمنسقة خروجاً عن المخططات السابقة لتنظيم «داعش»، وذلك على مستوى التدريب ومدى إحكام أمن العمليات التي نفّذها المهاجمون. ووفقاً لنشرة الاستخبارات الأميركية، أظهرت هجمات باريس في تشرين الثاني، قدراً أكبر من التنسيق واستخداماً لتكتيكيات متعدّدة، مما أدّى إلى سقوط عدد من الضحايا يفوق الأعداد التي سُجلت في الهجمات السابقة لتنظيم «داعش» في الغرب. وسرعان ما لاحظت قوات إنفاذ القانون أنّ نوع التكتيكيات والتقنيات والإجراءات المتبعة في تلك الهجمات هو النوع الذي يجب أن يتوقّعه الغرب من الآن فصاعداً.

ووفقاً لتقرير مكافحة الإرهاب الصادر عن جهاز الشرطة في الاتحاد الأوروبي «يوروبول»، أظهرت هجمات باريس والتحقيقات اللاحقة تحوّلاً من جانب تنظيم «داعش» تجاه اكتساب طابع عالمي في حملته الإرهابية. وأشارت «يوروبول» إلى أنّ التنظيم طوّر إدارة خارجية للعمليات دُرّبت لتنفيذ هجمات على غرار تلك التي تقوم بها القوات الخاصة في البيئة الدولية. وحذّر جهاز الشرطة أوروبا بوضوح تام قائلاً: «لدينا كلّ سبب لنترقّب قيام تنظيم داعش أو إرهابيين متأثرين بتنظيم داعش أو أي مجموعة إرهابية أخرى متأثرة بالدين بتنفيذ مرة أخرى هجمات إرهابية في مكان ما في أوروبا، ولكن في فرنسا بشكل خاص، بهدف إسقاط أعداد كبيرة من الضحايا بين السكان المدنيين».

وإذا لم يتّضح تطوّر التهديد الذي يشكله تنظيم «داعش» على أوروبا بشكل تامّ بعد هجمات باريس، فقد ظهر بوضوح كامل على إثر تفجيرات بروكسل. وفي حين تدرك أوروبا على نحو تام مدى هذا التهديد، فلا تزال غير جاهزة للتعامل معه، ويشمل ذلك أوجه القصور في قدرات الدول الأوروبية على مكافحة الإرهاب، فضلاً عن جهودها لدمج الجاليات المهاجرة في المجتمعات الأوروبية الكبرى التي تعيش فيها.

وتم التأكيد على التحدياتَ التي تواجه مكافحة الإرهاب من خلال عدم استطاعة الأجهزة الأمنية القبض على صلاح عبد السلام لنحو أربعة أشهر بعد هجمات باريس في تشرين الثاني. وعلى نطاق أوسع، أظهر التقرير الأخير الذي أصدره منسق الاتحاد الأوروبي لشؤون مكافحة الإرهاب، عدم قيام جميع الدول الأعضاء بإنشاء اتصالات إلكترونية مع الإنتربول عند معابرها الحدودية. وكان التقرير صريحاً على نحو غير معهود، معتبراً أنّ تبادل المعلومات لا يعكس التهديد حتى الآن. وسجّلت قواعد البيانات الأوروبية كمثال فاضح 2786 مقاتلاً إرهابيّاً أجنبيّاً فقط تمّ التأكد منهم رغم أنّ التقرير أشار إلى تقديرات موثوقة بسفر حوالى خمسة آلاف مواطن أوروبي إلى سورية والعراق للانضمام إلى تنظيم «داعش» وجماعات متطرفة أخرى. والأسوأ من ذلك أنّ أكثر من 90 في المئة من التقارير الخاصة بالمقاتلين الإرهابيين الأجانب الذين تمّ التأكد منهم صدرت عن خمس دول أعضاء فقط في الاتحاد الأوروبي.

إلا أنّ تحديات الإندماج الاجتماعي لا تزال مهمة أكثر صعوبة. ففي بلجيكا بشكل خاص، إن ما يُعقّد الحوكمةَ هو نظام الحكومة الفدرالي المتشدد الذي لا ينقسم على مستويات الحكم المحلية والإقليمية والفدرالية فحسب، بل أيضاً وفقاً للجغرافيا واللغة والثقافة. بيد أن إيجاد حلّ لمشكلة الجاليات المهاجرة المحرومة من حقوقها في أوروبا عموماً، وهي مشكلة طال تجاهلها، سيتطلّب وقتاً ومالاً لا يتوافر منهما ما يكفي.

إن هاتين المجموعتين من التحدّيات ـ مكافحة الإرهاب والاستخبارات من جهة، والاندماج الاجتماعي والاقتصادي من جهة أخرى ـ ترتبطان بشكل معقّد. فلا تؤدّي العوامل الاقتصادية دوراً أساسياً في التطرّف وفقاً لما أفادني به مسؤولون بلجيكيون، بل أنها عنصراً معززاً قوياً يغذّي أزمة هوية ترتكز على نقص الفرص، والعائلات المحطّمة، والضعف النفسي، والتوتر الديني والثقافي. ومع نسبة بطالة تصل إلى 30 في المئة، ليس من المفاجئ أن يكون معظم البلجيكيين الملتحقين بتنظيم «داعش» من مرتكبي الجرائم الصغيرة. فعلى سبيل المثال، إن أحد المجنِّدين في مولنبيك، المسجون حالياً، كان قد اقترب من الشباب المحلي في المساجد المنتشرة في الأحياء وأقنعهم بالتبرع بقسم من غلة جرائمهم الصغيرة لتمويل سفر المقاتلين الأجانب إلى سورية.

إن مرتكبي الجرائم الصغيرة اليوم هم الانتحاريون المحتملون غداً. وهؤلاء لن ينفّذوا هجماتهم في مناطق الحرب البعيدة بل في قلب البلاد التي تربوا فيها. وكان التقييم الاستخباري الأميركي الذي صيغ بعد هجمات باريس في تشرين الثاني قد أنذر أنّ انخراط عدد كبير من منفذي الهجمات وقادة المجموعات المقيمين في عدة بلدان في مخططات مرتبطة بتنظيم «داعش» قد يخلق عقبات هائلة أمام كشف النشاطات السابقة للعمليات وتعطيلها. وهذه هي الحالة بالتأكيد لكنها ليست سوى نصف المشكلة، إذ يبقى التحدي الأكبر الذي تواجهه البلدان الأوروبية الآن هو مواجهة إرهابيي تنظيم «داعش» من الأوروبيين الذين يجري إعدادهم اليوم داخل حدودها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى