الأسد يرسم خارطة ما بعد تدمر
ناصر قنديل
– قد يمر وقت طويل قبل أن ينتبه كثير من المتابعين وربما بعض المعنيين، الذين يعيشون نبض اللحظة السورية من مواقعهم المختلفة، إلى أن مساراً نوعياً جديداً رسم خارطة طريق الحرب والحل السياسي في سوريا، بفعل العملية العسكرية النوعية والاستراتيجية التي نفّذتها وحدات خاصة مدرّبة ومجهزة من الجيش السوري تساندها وحدات نخبة منتقاة، ولكن رمزية لجهة العدد من الحلفاء، وحشد احتياطي من قوات شعبية معدّة لتعبئة وملء الفراغات التي تتركها القوات المتقدمة لدى توغلها في مناطق جديدة وتحريرها، وبدعم جوي كثيف ومركّز من سلاح الجو الروسي بمشاركة فعالة من الطيران السوري.
– كل الأحداث المفصلية التي تغيّر نوعياً في وجهة الأحداث لا تترك آثارها فوراً، ولا نتبيّن نتائجها كحصيلة فورية لها، بل نبدأ ننتبه أن شيئاً مختلفاً يحدث راسماً إطاراً جديداً لتطورات الأحداث ما بعده، فحيث كنا نشهد تجاذباً وسخونة في النقاش حول مفردات تحل مكانه سلاسة وانسيابية، وحيث تكون الأولويات تبحث عن تعريف مشترك تصير أمراً تلقائياً حاضراً، وحيث الحرب كرّ وفرّ تصير بوجهة تطور واحدة لحساب تعزيز صورة منتصر ومهزوم، وحيث حقائق يقابلها إنكار، تصير الحقائق ساطعة ويخفي المتنكّرون لها وجوههم ويغيبون تدريجاً عن المسرح، أو يتواقح بعضهم من رجالات كل الفصول فيركبون الموجة، ويتموضعون على ضفة النصر ويتحدثون بصورة فاجرة عن واقعية سياسية تقوم على التأقلم مع المتغيرات، ويتحوّل كثير من المشككين إلى مصفّقين، وتتحوّل الحرب إلى مباراة نصف الملعب فيها خالٍ من الجمهور، حيث التصفيق لجهة واحدة والمشجّعون كلهم في ضفة واحدة.
– ما فعلته معركة تدمر يشبه ما فعلته حرب العَلَمَيْن في الحرب العالمية الثانية، حيث بات ثمة سيناريو واحد لمستقبل الحرب والحل السياسي في سوريا، هو الذي لخصه الرئيس السوري بشار الأسد بقوله، خلافاً للاعتقاد بأن انتصارات الجيش السوري قد تؤخر روزنامة الحل السياسي، فإن هذه الانتصارات تسرّعه، لأن الذين يعرقلون الحلول وعلى رأسهم السعودية وتركيا ستتكفل الانتصارات بإسقاط رهاناتهم وأوهامهم حول فعالية بدائلهم بالتغيير في وقائع الميدان. والحل السياسي بالتالي سيتقدم على إيقاع الانتصارات، والمزيد من الانتصارات، وكان وزير خارجية أميركا جون كيري قد قال إن حرب تدمر تقع ضمن مفهوم الهدنة والحل السياسي، اللذين تستثنى داعش والنصرة منهما، وتقع ضمن المفهوم المتفق عليه للحرب على الإرهاب. وبالتالي فهي عمل عسكري يحظى بالإجماع الدولي ويفرض على الخصوم تموضعاً جديداً ولغة جديدة تكفّل بالتعبير عنها الأميركيون والأوروبيون والأمين العام للأمم المتحدة.
– عدا عن كل العناصر العسكرية التي تمنح العملية قيمة استثنائية في الحرب والقيمة الجغرافية لتدمر بتوسطها خطوط الربط والوصل بين محافظات سوريا وجهاتها الأربع، وخطوط النفط والغاز، وخيارات العبور من الحدود وإليها، ففي تدمر تقرر مصير مشروع داعش، ولذلك رمى التنظيم بكل ثقله للفوز بالمعركة، ولم يكن لديه أي مجال لقبول خيار الانسحابات التكتيكية التي يعتمدها في المواجهات الصعبة والمتعبة. فخسارة تدمر تجعل الحرب على أبواب معاقل التنظيم المصيرية والوجودية في الرقة ودير الزور، وخسارة تدمر بالنسبة لداعش تعني سقوط الرؤية والخارطة لمستقبل حربه في سوريا، فلا قيمة توفرها له السيطرة على دير الزور والرقة في الإمساك بالجغرافيا السورية بدون رأس الرمح المستند إليهما في تدمر، للربط بالقلمون فلبنان، أو القلمون فقطع حمص والساحل وحلب وحماة عن دمشق ومحاصرتها بين فكي كماشة من جهة القلمون فالزبداني فالقنيطرة ومن جهة مقابلة البادية والحدود العراقية الأردنية وحمص وأريافها، ولذلك يمكن القول عسكرياً إن معركة مصير داعش خيضت في تدمر، ولا يمكن للعسكريين الإستراتيجيين قراءتها بغير هذه العين، ولذلك ارتضى التنظيم أن يضع ثمن الدفاع عن تدمر خمسمئة قتيل وما فوق الألف جريح، وهو الرقم الأعلى لخسائره في أي معركة من معاركه منذ ولادته وسيطرته على أجزاء من جغرافيا سورية والعراق.
– شاهد العالم كله هذه الحرب وعرف أن الآلاف من الجنود والضباط السوريين كانوا عمادها ومعهم مئات من الحلفاء، وأن النيران السورية كانت غطاء التقدم بإسناد نوعي واحترافي لضربات محسوبة قام بها سلاح الجو الروسي، وأن عشرة أيام شكلت المدة الفعلية للمعركة بعد اكتمال عمليات التقرب في عشرة مثلها، وهو زمن أكثر من قياسي بالقياس للهدف المنجز، وأن خمسة وسبعين شهيداً للجيش السوري وثلاثة شهداء لحزب الله وشهيد ضابط مراقبة روسي، قدّموا تضحيات غالية لا تقدر بثمن، لكن المقياس العسكري بارد للأسف في الحروب ويقول إنه قياساً بالهدف وخسائر داعش، والفارق بين وضعية المهاجم والمدافع، يتوقع أن تكون كلفة النصر في تدمر بألف شهيد على الأقل، والكلفة البشرية كما حجم الدمار المحدود والزمن القياسي، تعتبر إعجازاً بمقاييس الحروب.
– الصورة التي قرأها المحللون الإستراتيجيون، أن داعش خاض معركة وجوده وبين أيديه أعلى ما يمكن أن يتوفر ويتاح له في أي معركة أخرى لينتصر، فخلفه مدى جغرافي مريح لقواعده الخلفية، والتحصينات المبنية وتلك التي تتيحها الصحراء من جهة والتلال المعقدة والمتشابكة استثنائية بالنسبة للمدافعين، وحجم القوة البشرية أعلى ما تستوعبه جغرافيا القتال، والأسلحة الفعّالة والمعدات والذخائر كلها متاحة، والمعنويات والإرادة والعزيمة على تحقيق النصر، كلها أسباب لن تكون بالنسبة ذاتها في أي معركة أخرى. وبالمقابل خاض الجيش السوري معركته هذه وخلفه خطوط إمداده ومعه حلفاؤه، ويحوز دعم وتغطية جوية مميزة ونوعية ومحترفة، وبالتالي تقابل طرفان في مواجهة وضع كل منهما فيها أفضل ما لديه، وتتيح ظروفها لكل منهما أن يرسم مصيره المستقبلي عبرها، ولن يتوفر له أفضل منها بعدها إن خسرها، ولذلك تقابلت إرادات الاستبسال حتى النصر على ضفتَيْ الحرب، وحسمت الدماء والتضحيات والعزائم من يقف على ضفة النصر في هذه المواجهة، ولكن أيضاً في ما سيليها، وقالت إن القصف الجوي الذي مضى عليه عشرون شهراً من طائرات التحالف على مواقع داعش لم يحقق نصراً واحداً، بينما القصف الجوي الذي يخدم قوات تتقدّم وتملك القدرة والأهلية والإرادة والعديد والعتاد لتحقيق النصر يصير شريكاً حقيقياً في بلوغه.
– في حرب تدمر، قال الرئيس الأسد والجيش السوري وحلفاء سوريا، إن للحرب على الإرهاب طريقاً واحدة، هو طريق تدمر، وليس أي طريق جرت تجربته وثبتت محدوديته وعدم قابليته للتكرار من جهة، وكلفته العالية من جهة مقابلة، كحال معركة عين العرب كوباني، أو ثبت فشله كحال معارك قوات سوريا الديمقراطية في بلوغ معبر التنف، أو انهيار بناه قبل دخول الحرب، كما حدث بالذين درّبتهم واشنطن واستسلموا في أرياف حلب قبل أن يطلقوا الطلقة الأولى بعدما كلفوا الخزينة الأميركية ملايين الدولارات، ولذلك وضعت حرب تدمر العالم ودول المنطقة وقوى عديدة أمام خيارات حاسمة، قوامها أن النصر على داعش ممكن ولكن له خارطة طريق واحدة، تعزز فرص الحل السياسي في سورية، ومن لا يريد الانضمام إلى المسار الذي رسمته تدمر يعلن بوضوح وقوفه على ضفة داعش والإرهاب.
– بعد تدمر سيُذكر اسم الرئيس الأسد والجيش السوري في الإعلام الغربي وعلى ألسنة الدبلوماسيين الغربيين، وفي أورقة المفاوضات الدولية الكبرى بلغة جديدة. وبعد تدمر سيتم النظر دولياً لجماعات المعارضة، خصوصاً «الرياضية» منها، وفقاً لمعادلة نريد تدمرَكم لا تذمُّركم!
– كلما تحقق المزيد من الانتصارات ستصير الحلول السياسية أقرب، وكلما اقترب النصر على داعش سيضرب داعش في الغرب أكثر، وكلما تفاقم خطر الإرهاب ارتفعت نسبة الفهم هناك أكثر، وفي يوم ليس ببعيد سيكتب اسم الرئيس الأسد في صحيفة غربية مهمة في مقالات تقارن بينه وبين الجنرال شارل ديغول ودوره في الحرب العالمية الثانية في تحقيق النصر على النازية، وستُذكر في هذه المقالات جماعات «المعارضة المسلحة» ودعاة الثورة، كجماعة فيشي!