بين أَسْر الرئاسة وأَسْر التشريع…
هتاف دهام
لم يطرأ أيّ جديد في المواقف السياسية على جبهة التشريع مع بدء العقد العادي للمجلس النيابي في 15 آذار الماضي، وعلى هذا الأساس بقي كلّ فريق على متراسه يتمسك التيار الوطني الحر وحزب القوات بإدراج قانون الانتخاب بنداً أول على جدول أعمال أيّ جلسة، وعدم اعتراف حزب الكتائب بكلّ أنواع التشريع في غياب رئيس الجمهورية، وحزب الله يشدّد على أنّ تفعيل المجلس النيابي مسألة وطنية، باستثناء تيار المستقبل الذي يبدو أنّ عدوى التقلبات الجنبلاطية انتقلت إليه. فبعد أن تعهّد رئيس تيار المستقبل عشية جلسة إقرار القوانين المالية ومكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب بعدم حضور أيّ جلسة تشريعية مستقبلاً، لا يتصدّر قانون الانتخاب جدول أعمالها، أكد رئيس كتلته فؤاد السنيورة لـ«السفير» أول أمس «تأييد مبدأ تشريع الضرورة فإذا كان ممنوعاً انتخاب الرئيس وممنوعاً التشريع… فما هو المسموح؟»، ليبقى القرار الفصل في تحديد مسار الجلسة لرئيس المجلس النيابي نبيه بري الذي رأى أنّ النصاب التشريعي والميثاقي متوافران وأنه ماضٍ في هذا الاتجاه، موضحاً بحسب ما ينقل عنه زواره لـ«البناء» أنّ مفهوم الانعقاد الدائم لا يصحّ إلا في حال التئام الجلسة بهدف الرئاسة، أما إذا لم يحصل هذا الالتئام فليس هناك من انعقاد حصري بالانتخاب من دون الدور التشريعي.
إنّ مقاربة مسألة التشريع حال خلوّ سدة الرئاسة، وفق وجهة نظر عضو تكتل التغيير والإصلاح وزير العمل السابق سليم جريصاتي «يجب أن تتمّ حتماً من زاويتين دستورية وسياسية. من الزاوية الدستورية لا يجوز التشريع في غياب رئيس الجمهورية، ذلك أنه مرجعية أساسية خصّها الدستور بصلاحية الطعن لدى المجلس الدستوري بأيّ قانون يعتبره رئيس الجمهورية مناهضاً للدستور، يعني ذلك أنه لا يمكن أن يقرّ قانون في ظلّ انعدام هذه المرجعية التي ناط بها الدستور، وخاصة مرجعية الرئيس الطعن بالقانون وقد سبق للمجلس الدستوري اللبناني أن أصدر في عام 2005 قراراً بإبطال القانون الرامي إلى كفّ يد المجلس الدستوري عن النظر بالمراجعات العالقة لديه، وأورد سبباً من أسباب الإبطال التي أوردها في قراره وهو أنه في حينه كان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يترأس حكومة معتبرة مستقيلة، وبالتالي كان يتوجب عليه أن يصرّف وحكومته الأعمال بالمعنى الضيق، على ما ينص عليه الدستور. واعتبر المجلس أنّ الطعن عمل يخرج عن مفهوم تصريف الأعمال بالمعنى الضيق، وأنّ مرجعية من المرجعيات التي نص عليها الدستور في المادة 19 للطعن لم تعد قادرة على الطعن». وبالتالي، فإنْ هذا السبب بحدّ ذاته حسب ما يؤكد جريصاتي لـ«البناء» هو مبطل للقانون الذي صدر في ظلّ حكومة مستقيلة أو معتبرة مستقيلة، وما يُطبق على رئيس الحكومة يُطبق بالأولوية على رئيس البلاد في حال غيابه، لأنه الشخص الأكثر أهلية للطعن أمام المجلس الدستوري، فضلاً عن أنه دون سواه يمارس صلاحية ردّ القانون وهي كصلاحية الطعن لصيقة بشخصه.
لا يمكن التشريع، كما يقول وزير تكتل التغيير والإصلاح نفسه، في حال غياب رئيس الجمهورية ولا يعود السبب إلى ما أورده حزب الكتائب من أنه لا يجوز التشريع، لأنّ المجلس يعتبر هيئة انتخابية وليس هيئة اشتراعية حال خلوّ سدة الرئاسة، في حين أنّ الدستور ينصّ على أنّ المجلس الملتئم لانتخاب الرئيس يتحوّل هيئة ناخبة ولا يجوز أن يقوم بأيّ عمل تشريعي أو سواه حال الالتئام.
أما تشريع الضرورة فهو، وفق جريصاتي، متأتٍ عن مبدأ الظروف الاستثنائية أو «الضرورات تبيح المحظورات»، وبالتالي يتيح التشريع الطارئ والضروري حال خلوّ سدة الرئاسة، أيّ التشريع المتعلّق بالمصلحة العليا للدولة اللبنانية، وفي مقدّمة ذلك القوانين التي تعيد تكوين السلطة أو تنبثق عنها السلطات الدستورية صحيحاً على غرار قانون انتخاب أعضاء مجلس النواب المنشود والمنتظر على أحرّ من جمر طوال فترة التمديدين، والذي يجب أن تتوافر فيه مقتضيات وثيقة الوفاق الوطني أو التشريع المالي الملحّ أو التشريع الذي يقطع مرور الزمن المسقط لحقوق الدولة.
ومن الزاوية السياسية، يتابع الوزير جريصاتي، أنه عندما يأسر المجلس النيابي الاستحقاق الرئاسي ويطيح بميثاقيته، بمعنى أنه لا يأخذ بإرادة المكوّن المسيحي الوازنة بعد اتفاق معراب يعني أنه يتخطى الميثاقية، في ملء الفراغ الرئاسي، ويفقد بالتالي ترفَ التشريع العام وغير الملحّ، كذلك إنّ الأولوية تبقى لإقرار قانون انتخاب ميثاقي ينبثق عنه مجلس نواب تتوافر فيه صحة التمثيل وفاعليته، فيبادر إلى انتخاب الرئيس فيؤمّن الجميع النصاب ويُذعن لنتيجة التصويت، بمعنى آخر من يأسر الرئاسة بصورة غير ميثاقية، يأسر التشريع عملاً بميثاقية المواقع الدستورية. لقد ولّى زمن الالتفاف، كما يجزم جريصاتي، على حقوق المكوّنات التي يتألف منها هذا الوطن في هذه المرحلة الانتقالية من حياتنا الدستورية التي تدوم منذ 1926 وترسّخت، طائفياً ومذهبياً، باتفاق الطائف والانقلاب عليه واختزال مضامينه.
أما رأي عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب علي فياض في الشأن الدستوري نفسه، فيؤكد الحاجة إلى استكمال الدور التشريعي للمجلس النيابي وعدم جواز تعطيله في ظلّ الشغور الرئاسي، حيث رأى فياض في حديث لـ«البناء» أثناء خروجه من عين التينة «أنّ الاتفاق على آلية تنظيم انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء يوفر للعملية التشريعية في المجلس النيابي قدرتها على الاستمرار، انطلاقاً من اكتمال عناصرها التشريعية التي يشكل دور رئيس الجمهورية أحد مرتكزاتها، أخذاً بعين الاعتبار صلاحياته في إصدار القوانين وردّها». والحجج التي يسوقها البعض، وفق فياض، لتعطيل المجلس النيابي لا تشكل اجتهاداً مقنعاً لأنّ دور البرلمان كهيئة ناخبة جرى تحديده قبل عشرة أيام من انقضاء ولاية الرئيس، مما يعني أنّ تاريخ انقضاء ولايته الرئاسية يشكل قيداً زمنياً على المجلس كهيئة ناخبة منعقدة بصورة دائمة، إذ لا يُعتقد أنّ المشرّع قد فتح مرحلة الانعقاد الدائم من دون قيد زمني، فضلاً عن أنّ الشغور الرئاسي بما يتسبّب من ضرر في حال إطالته زمنياً يستدعي التعاطي معه على قاعدة حصر الضرر وليس تعميمه. وبالتالي لا يجوز تحويل الشغور الرئاسي إلى أزمة نظام ودولة وتعطيل شامل للمؤسسات، لأنّ هذا يتنافى مع منطق إدارة الدولة وتوفير المصالح العامة للمواطنين، وعلماً أنه في حال الأخذ بالمنطق الدستوري الذي يستند إلى الشغور الرئاسي في تعطيل المجلس النيابي يمدّ نفسه بالضرورة إلى تعطيل الحكومة، مما يعني تعطيلاً شاملاً لأجهزة الدولة ولا يصحّ بأيّ وجه من الوجوه، وكلّ هذا بحسب فياض لا يتناقض مع أولوية انتخاب الرئيس والتسالم من معظم القوى على تشريع الضرورة.
أما حزب الكتائب، فموقفه أعلنه منذ اليوم الأول لنهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان، حيث اعتبر من الناحية الدستورية بعيداً عن أيّ اعتبار سياسي أو أيّ اصطفاف أنّ المجلس يتحوّل هيئة ناخبة ويمتنع عن التشريع إلى حين انتخاب رئيس. ولأنّ موقف حزبه دستوري، كما يراه وزير العمل سجعان قزي، في حديث لـ«البناء» فإنه لا يمكن تعديله خصوصاً أن لا أولوية أهمّ من انتخاب رئيس، وليس الكتائب مَن يعطل نصاب جلسة التشريع فهناك أحزاب أخرى ترفضه أيضاً ولا يجب تحميل الصيفي وحدها هذه المسؤولية. أما أزمة النظام فهي قائمة قبل الخلاف على التشريع ومستمرة معه، ولن تنتهي إذا انعقدت الجلسة، ولن تحل إلا بانتخاب رئيس والدعوة إلى هيئة حوار وطني لمناقشة النظام اللبناني وما يجب أن يعدّل فيه ليصبح أكثر ملاءمة مع الواقع الجديد، كما أكد قزي.