تقرير
كتبت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية:
كيف سيكون حال العالم لو افترضنا أن الرئيس هاري ترومان الذي حكم في البيت الأبيض بين عامي 1945 و1953 أو الرئيس دوايت آيزنهاور الذي امتدت فترة حكمه بين عامي 1953 و1961، شاركا في الانحرافات السياسية الخارجية التي تسبّب فيها الرئيس باراك أوباما أو التي يضمرها المرشّح الأكثر خطورة بكثير دونالد ترامب؟
لقد استند حكم أوباما إلى اختبار تجربة الانسحاب من الشرق الأوسط، هذه المنطقة التي طالما اعتبرتها الولايات المتحدة منطقة حيوية لمصالحها. ويعتزم ترامب أيضاً التعجيل في عملية الانسحاب هذه بحيث تشمل العالم أجمع، لأنه يرى «أننا أصبحنا دولة فقيرة الآن»، وهي العبارة التي أدلى بها لمجلس تحرير إدارة صحيفة «واشنطن بوست» الأسبوع الماضي.
وقد حكمت الظروف على أوباما بالتراجع أو عكس اتجاه تجربته تلك، ولكنّها شملت على أي حال الانسحاب من العراق، مع العمل بخطط لتنفيذ انسحاب آخر مشابه من أفغانستان. كما تخلى عن ليبيا تماماً بعد التدخل العسكري، وإطاحة الدكتاتور الذي كان يحكمها، وتخلّى عن دعم ما سمّي «الربيع العربي»، ورفض تقديم المساعدة للمقاتلين السوريين الذين يحاربون بشار الأسد الذي عبّر عن رغبته في رحيله.
وقد اتبع أوباما سياسته هذه لأنه كان مقتنعاً، وفقاً لما قاله مراسل مجلة «آتلانتك» جيفري غولدبرغ، من أن الرئيس قال له: «لا يمكن ضبط الأمور في الشرق الأوسط، لا في هذا الوقت، ولا خلال الأجيال المقبلة». وذلك لأن دول المنطقة من غير المحتمل أن تنجح في تحوّلها نحو الديمقراطية، ولا أن تصبح دولاً ناجحة من النواحي الاقتصادية. وأشار أيضاً إلى أنه لا يشعر بوجود علاقات سياسية مهمة في آسيا، وأن الناخبين الأميركيين المجهدين من كثرة الحروب، يعارضون فكرة الاحتفاظ بقوات عسكرية في تلك المنطقة.
وتخيل الآن لو أن ترامب تبنّى مثل هذه الاختبارات السياسية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وعقب الدمار الكبير الذي سبّبه الصراع، فقد كان الأميركيون يكرهون الحروب في تلك الفترة أيضاً أكثر مما كانوا عندما تسلم أوباما مقاليد السلطة وأصبح رئيساً. وكان عدد من الأميركيين يعتقدون أن الوقت قد حان لعودة القوات العسكرية إلى أرض الوطن، ومغادرة أوروبا واليابان، والانصراف للاهتمام بمشاكلهم الخاصة، بما فيها التهديد السوفياتي. ولم تقدم المعطيات التاريخية في ذلك الوقت إلا القليل من الأمل على أن تتحوّل اليابان وألمانيا إلى دولتين ديمقراطيتين حقيقيتين. وعلينا أن نتذكر أيضاً أن الولايات المتحدة كانت في ذلك الوقت أكثر فقراً مما هي عليه الآن.
وعلى رغم هذا، قرّر الرئيس ترومان الاحتفاظ بالقوات العسكرية في ألمانيا واليابان. وهو الأمر الذي لم يكن يلقى إلا معارضة ضعيفة من الناخبين الأميركيين. وقرر الكونغرس باقتراح من الرئيس، تخصيص مليارات الدولارات التي يتم تحصيلها من دافعي الضرائب الأميركيين لإعادة إعمار البلدين. وتعهد بالبقاء فيهما لفترة سنوات أدّت إلى ولادة المؤسسات الديمقراطية.
وعندما وضعت الحرب الكورية أوزارها عام 1953، كان الأبعد عن التصوّر أن تتحوّل كوريا الجنوبية في يوم من الأيام إلى شريك تجاري مهم وحليف سياسي واستراتيجي للولايات المتحدة على رغم ما يعتري نظامها الديمقراطي من خلل. ولهذا السبب، قرر الرئيس آيزنهاور الاحتفاظ بقواته العسكرية هناك، وبقيت لأكثر من ستة عقود مع وجود معارضة محلية طفيفة لبقائها. ونحن نعلم الآن أن الحضور المتواصل للقوات الأميركية ساعد في إحلال السلام في أوروبا وشرق آسيا لأطول فترة عبر التاريخ.
وعلى عكس ما حدث في تلك التجارب القديمة، فإن التبعات التي أدّى إليها سعي أوباما إلى تخفيض النفقات العسكرية، كانت كارثية بكل معنى الكلمة. فقد أدّى ضعف الاستقرار السياسي في العراق إلى تجدّد الحروب الطائفية وتحويل البلد إلى دولة فاشلة. وتفكّكت سورية بسبب صراع أدّى إلى مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين، وأدّى إلى ما أطلقت عليه الولايات المتحدة أسوأ إبادة جماعية في التاريخ. ووجد الإرهاب فرصته السانحة للانتشار، وبدأت قوافل المهجرين والنازحين في تهديد الاستقرار في القارة الأوروبية كلها. وعلينا أن نتذكر أن مياه البحر فقط هي التي تفصل ليبيا عن إيطاليا أصبحت هي ذاتها غارقة في الفوضى بعد ظهور المؤشرات، على أن تنظيم «داعش» قد وضع لنفسه قدماً هناك.
وعلى رغم هذه الإخفاقات، فإن في وسعنا القول إن الولايات المتحدة لا يزال فيها سياسيون من النوع الذي يفضل القيام بالعمل المضني لإعادة إحياء مآثر القيادة في الولايات المتحدة وتقاليدها، بدءاً من الرؤساء ترومان وكنيدي وريغن وكلينتون، وهي التقاليد التي تتعرّض اليوم للخطر.