من برمانا إلى كسب يبقى القبح قبحاً والجمال جمالاً

جورج كرم

قد لا تختلف الحياة اليومية في القرى الصغيرة بعضها عن البعض الآخر في العالم كلّه، والعامل المشترك الوحيد الذي يجعل من القرية قرية ويميّزها عن المدينة هو بعدها الجغرافي عن التجمعات البشرية الكبرى وما لذلك من تأثير في توافر السلع والمعلومات والاحتكاك بالثقافة العالمية في نواحيها المختلفة، المكتوبة والاستعراضية مثلاً. هذا لو استثنينا بالطبع عصر الإنترنت، فالعالم أطاح بفضل الإنترنت عزلة المتحدات القروية إلى غير رجعة وأنهى مفهوم الحياة فيها وفق ما كنا نعرفها. وتكاد لا تخلو قرية في العالم من خطوط الإنترنت ذات السرعة الفائقة إلى حدّ أن لا سبيل إلى اختلاء المرء بنفسه وحيداً أو ضمن فعالية في أي زاوية من العالم، حتى لو كان في رحلة صيد الخنزير البري مثلاً في بقعة «نائية» تبعد مسافة سفر خمس أو ست ساعات بالسيارة خارج المدينة، فالدليل منظم رحلة الصيد «يبث» ضمن خدماته للمشاركين في الرحلة من هاتفه المحمول مآسي أخبار البورصة والجرائم المروعة والطائرات المدنية المختفية عن الرادار والضائعة في المحيط، مثلما يتعقب الطرائد المتوحشة في الشاحنة العملاقة المسماة «مونستير تراك» في البراري والمستنقعات.


وبينما كنا في الزمان الغابر ننتظر في القرية الأخبار لتأتينا «على ذوق» عرفات حجازي وجاك واكيم وجان خوري، بحسب نكهة العهد الذي كان يتملّق المذيع له مرة في اليوم، الساعة السادسة على القناة «سبعة» التلفزيونية، ها هي الأخبار اليوم تلحق بنا وتطاردنا في المستنقعات البعيدة، ومنها ما هو أشد هولاً من خنزير بري مجنون جريح مبرزاً أنيابه. وعلى سبيل المثال أخبار «سياحة القتل» لمجاهدي «سعود لازغلو» في سورية الحبيبة والفيديو الذي تم تناقله على شبكات التواصل الاجتماعي حديثاً لوحوش على شكل بشر يطلقون النار على أسرى مكبلين من حماة الديار.

فيما أضحى نهر المعلومات «المعلوماتية» المتدفق علينا نوعاً من «الغرق» المحبب إلينا، ولكل منا اهتماماته، وكلها موجودة على أطراف أصابعنا ولوحة المفاتيح «الكيبورد»، لا بد من العودة بالحنين من وقت إلى آخر إلى حياة القرية الضائعة بين أشجار الصنوبر أيام الصغر. وقد يكون الحنين هذا حنيناً إلى أيام الصبا لا أكثر، لكن أخبار القرية بحلوها ومرها تحتل حيّزاً دافئاً في الذاكرة ألجأ إليه كلما ازداد صخب العالم وجنون العصر. والقرية التي نشأت فيها مصيف جميل ويتميّز أهلها بروح دعابة لا مثيل لها، وكنا ننتظر قدوم فصل الصيف بالأيام والساعات لنشارك بفعالياته المتعددة. ولو مزجنا «حب كأس العرق» لدى أهل القرية مع ظرافتهم لحصلنا على مجلد أخبار تضاهي أفلام تشارلي تشابلن ونورمن ويزدوم مجتمعة في فكاهتها، ومنها أنه في إحدى الليالي القروية الطويلة قرر أهل القرية إقامة مباراة «ملك البشاعة» أو ملك قبح المظهر ورشحوا حفنة من الرجال وصل اثنان منهم إلى التصفيات النهائية ولا أذكر من منهما حاز لقب «ملك البشاعة» يومذاك، لكنني أذكر جيداً أن كليهما، بفعل مصادفة ما جمعت بين قبح المظهر وقبح الروح، أضحيا من مسؤولي الأحزاب الإنعزالية خلال الحرب اللبنانية. والمظهر لا يتناغم مع الروح في الحالات كلها، والأخيرة قد تقلب نظرة الناس إلى الأولى رأساً على عقب، وأفضل مثل على ذلك الممثلة الرائعة الجمال سابقاً سكارلت جوهانسون وكنت معجباً بمظهرها الخارجي وأدائها، خاصة أنها من القليلات اللواتي يتمتعن بوزن طبيعي في مدينة ممثلات يشبهن نزيلات معسكرات الاعتقال النازية نحافةً زائدة. وفي موضوع النازية ومعسكراتهم تبيّن لي حديثاً في مقال قرأته أن سكارلت من «أجمل ممثلات هوليوود من اليهود» ولم يؤثر علمي بدين الممثلة على إعجابي بها، خاصة أن لكل منا حقاً في اعتناق الديانة التي تروق له، ونحن نرث الديانات من آبائنا رغم إرادتنا. لم يطل الأمر بعد ذلك كثيراً لتتصدر الصحف أخبار مفادها أن سكارلت جوهانسون تقوم بالدعاية لشركة صهيونية أقيمت على أرض جنوبنا السوري المحتل، فتحول لحظتئذ ذاك الجمال كله التي أغدقته علي الممثلة خلال أعوام إلى قبح لا مثيل له في نظري، وهو أمر يستحيل عكسه، فمن يدعم الصهاينة مرة، يدخل اسمه أو اسمها مجلد القبح بحبر لا يمحوه الزمان. ومن قبحاء زماننا من داعمي الصهاينة أحمد الجربا «السوري» بلهجة سعودية وميشيل كيلو ونزعته «الداعشية» وكل «مفكر» و«مثقف» دعم الهجمة الكونية الاستعمارية على سوريانا، وأخص بالذكر المثقفين الذين وقعوا عريضة في بداية الحوادث في سورية تحت عنوان «مثقّفون لبنانيون مع الشعب السوري» ألقوا فيها باللائمة على الدولة السورية في ما يحصل من حوادث هناك، وأنكروا وجود العصابات المسلحة، موفرين بذلك وقوداً لهجمة الاستعمار علينا، وفي سياق الأزمة السورية تطول لائحة العمالة التي أضحت اليوم تضم عشرات ألوف الأسماء التي ستخلّد في القبح والعار ومنهم بسمة القضماني التي كانت تمضي فصل الصيف في قريتنا سنوياً، وكنا لأسباب هورمونية على ما يبدو لي اليوم «مفتونين بجمالها» وأراها اليوم تجمع كلّ بشاعة الصهيونية والاستعمار في شكلها وروحها في آن واحد.

علماً أن ميزة الحياة القروية المنقرضة كانت تجمع بين قرى العالم كلّه النائية، فما الحال لو حصرنا المقارنة بقرى سورية الجبلية وحدها، لوجدنا عندئذٍ أن الحياة القروية في ربوع سورية الجبلية متطابقة إلى حد بعيد. والبعد عن المدينة الذي يجعل من القرية قرية لا يقاس بالأمتار والكيلومترات في الحالات كلها، فالكيلومترات السبعة عشر القليلة التي تفصل بين قرية برمانا وبيروت مثلاً لم يكن سهلاً طويها على الطرقات المتعرجة الجبلية، مع ما يرافق ذلك من انسداد وفتح الأذنين كل بضع دقائق بسبب اختلاف الضغط الجوي خلال الرحلة والدوخة والغثيان في السيارة بسبب المنعطفات القاسية واهتزاز السيارة في المطبات ورائحة المازوت والبنزين، هذا إذا لم ترتفع حرارة المحرك في طريق العودة والسيارة «تشد طلوع»، ما يضيف إلى الرحلة ساعة من الشقاء في الحر أو البرد في انتظار أن يبرد المحرك لتكمل السيارة رحلتها. وقد تكون القرى النائية متباعدة جغرافياً، لكنها تنتمي إلى جسم قومي واحد اسمه سورية، وقريتي الجميلة الضائعة في أحراج الصنوبر في متن الجبل اللبناني تشعر اليوم بألم «ضيعة ضائعة» أخرى لها أخت اسمها كسب، على حدود لواء الاسكندرون السوري المحتل، رائعة الجمال مثل قريتي دخلت إليها أقدام «قروغان» القبيح محاولة النيل من جمالها السوري الأبي، ولن ترتاح قريتي وقرى سورية كلها قبل أن ترحل آخر قدم قبيحة عن كسب وعن التراب السوري كلّه.

كاتب سوري من جبل لبنان، موقعه على الإنترنت www.gkaram.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى