دور قادة الدول المتخلّفة وأموالهم في التخريب!

محمد ح. الحاج

عقود ثلاثة بدأت بنظرة شك إلى حركة الرئيس الراحل حافظ الأسد التي أعطت انطباعاً بانقلابه على الاشتراكية الماركسية وإبعاده رموزها من حزب البعث، وانتظر الغرب خطوته في اتجاههم لكنه لم يفعل.

بعد تشرين 1973 فهم بعضهم أنّ له مشروعاً مختلفاً، وأنّ له سياسة مستقلة حيال قضايا وطنه وأمته، فوُضع تحت المجهر وبدأت الرسائل والرسل. عشرات المبعوثين وساعات طويلة من المباحثات، ورسائل بمختلف الوسائل… توّجوها بتحريك أدواتهم في لبنان وموافقة السادات واعتقدوا أنهم سيورّطونه، كما حركوا أدواتهم في الداخل انطلاقاً من عمان وبغداد، فكان حازماً أكثر من المتوقع. ضربهم في لبنان، وقمع أدواتهم في الداخل… واستمرّ الرسل والرسائل، وزاره كبار قادتهم، كما التقاهم في البلد المحايد. تدخلوا في لبنان فكان ردّه موجعاً دفع بهم إلى الخروج! كان مطلوباً منه أن يستسلم تحت يافطة السلام مع العدو، وكان ترغيب وترهيب. بقي صامداً ولم يبدّل تبديلا، أما قراره في المشاركة بما سمي حرب تحرير الكويت فكان له برنامجه الخاص: حماية جزء من الجيش العراقي الذي واجه القوات السورية، وفرملة الهجوم بحيث لا يجتاح العراق كاملاً وإسقاط النظام الذي سبق للأسد أن نصحه بالانسحاب فلم يستجب. ويؤيد كثر الرأي القائل بأنه نجح في فرض رؤيته، وهكذا حمى العراق. راهنوا على انتقاله إلى العالم الآخر فربما يكون تطويع البديل أيسر، انتقل إلى الرحاب الأعلى، وخرجت بعض الصحف بعنوان: مات ولم يوقّع!

مقدّمات الفوضى

لم يطل الأمر بعد انتقال الأسد الكبير، إذ توافق الحرس القديم على تسليم الراية للأسد الشبل الذي عاش أدق تفاصيل مشروع والده، وكان أميناً على خطه الوطني القومي. ولأن دراسته في الغرب وصداقته مع بعض قادته منحته فرصة سنوات ثلاث ليستقر به الأمر، كان فيها تحت المجهر، وتكثفت الاتصالات به، لكنّهم وجدوا فيه الخَلَف الصلب الأمين لمن سلف، فما حاد عن نهجه، ولا أوحى لهم أنه تأثر بما يسمونه بـ«حضارتهم». وعلى نهج رسائلهم زمن الأسد الأب بدأوا مرحلة جديدة من الرسائل والرسل، وساعات طويلة من المباحثات لم تسفر عن نتائج تخدم مشروعهم، والكلّ يعلم أن في مقدّم اهتمامات الغرب تثبيت الكيان الصهيوني وفرض قبوله على محيط يرفضه ويراه جسماً غريباً وشاذاً في جسد الأمة… لهذا السبب أخذت الرسائل منحى جديداً تصاعدياً.

حراك خارجي اتخذ شكل العداء السافر وتجسد في لبنان، وفي مصر إلى حد ما، وفي الداخل عام 2003 من خلال حركة صدام بين عشائر البدو وأهالي محافظة جبل العرب السويداء ، واضطرت الدولة إلى تحريك فرقة من الجيش لمنع الصدام… وتمّ تطويق الحدث، وفي 2004 تحرك الأكراد في الشمال الشرقي على خلفية مفتعلة، ووقع الصدام مع مكوّنات أخرى من الشعب ومنها رموز الدولة ومؤسساتها، وعلى أثرها تنادى السوريون وتمّ تطويق الحدث واستجابت القيادة للكثير من المطالب.

عام 2005 كانت الرسالة الأعنف، اغتيال رئيس وزراء لبنان وهجمة دولية على ما أسموه بـ«نظام الاستخبارات السوري» واتهام سورية بأنها وراء الحادث وما تبع ذلك من تجييش على الساحة اللبنانية والتهديدات الدولية، التي كان جوهرها العمل لإخراج الجيش السوري من لبنان بالقوة، فكان قرار الرئيس الحكيم بالانسحاب وما تبع ذلك من تقديم الدولة الأدلة والبراهين عن أن لا مصلحة لسورية في مثل هذه الظروف أن تشارك أو تخطط لعملية اغتيال بهذا المستوى وأنها مؤامرة خارجية، وأدى تخبّط الجهات الخارجية في اتهامها حيناً المقاومة الفلسطينية، وحيناً آخر المقاومة اللبنانية حزب الله ، إلى كشف جانب من الحقيقة، وأن الغاية إخراج سورية من لبنان. وفي العام نفسه وقعت حوادث صدام مذهبي في منطقتي القدموس ومصياف بين مكوّن ينتمي إلى جذور واحدة، إسماعيلية وعلوية، وكان واضحاً أن أصابع خارجية ومحلية كانت وراء العملية تمهيداً لأمر أخطر في مصياف وقف القوميون الاجتماعيون سدّاً بين الطرفين فمنعوا الصدام والبعض لم يدرك ذلك. وتبع ذلك صدام مماثل في محافظة اللاذقية بين المرشديين والعلويين ولم يكن بريئاً، رغم أن الغالبية كانت تفسر تلك الصدامات بكونها عادية ومحض مصادفة، ولم يخطر في بال هؤلاء أنها بتحريض ودفع من الخارج وبأدوات داخلية.

في قراءة متأنية لهذه الحوادث يمكن للمحلل الخروج بنتيجة أقرب إلى الواقع، وهي صرف ما يسمى بـ»الأقليات» عن الوقوف بجانب الدولة، نظراً إلى اتهام كل منها السلطة بالوقوف إلى جانب الطرف الآخر، أو لا مبالاة الدولة حيال مصالح هؤلاء، أو تهميشهم. كذلك زرع بذور الفرقة والبغضاء بين مكوّنات الشعب الواحد، وفي الوقت ذاته تلتزم الدولة بهذه القاعدة بغض النظر عن النشاط المتزايد للحركة الوهابية التي وصفتها المناهج الدراسية بأنها «حركة إصلاحية». وتحت ستار هذه الحركة تنشط حركة «الإخوان المسلمين» وتهيّئ نفسها للانقضاض على السلطة بدفع من الخارج وتحت ستار كثيف من الدعاية التي تشيطن الدولة، وترافق ذلك مع تصريحات خطيرة لقائدين من المحيط العربي، أطلقها حسني مبارك أولاً وتلاه عبد الله بن الحسين، حول أن إيران تقوم بحركة «تشييع» في المنطقة السورية تمهيداً لوضع يدها على المنطقة. أما السبب الرئيسي فهو حركة المقاومة التي أذلّت الكيان الصهيوني عام 2006 بعد طرده من لبنان عام 2000، والمؤكد أن تصريح الرجلين صدر بناء على طلب المحفل الأعظم وليس ذاتيّاً من منطلق إيماني بحت.

«القوس الشيعي» من طهران إلى بيروت عبر بغداد ودمشق هو تحريف للمصطلح الصهيو أميركي «محور الشر» أو «الدول المارقة»، وكان العراق يومذاك تحت الاحتلال الأميركي. التطوير حصل بعد الخروج الأميركي من العراق وتقديم خلاصة آراء مراكز البحوث في الغرب التي تنصح بامتناع دول الغرب عن التدخل العسكري المباشر عقب تجربتي الناتو في أفغانستان والعراق وما تكبدوه من خسائر، والتركيز على إثارة حروب داخلية بأيد محلية وأموال نفطية مكدسة في بنوك الغرب، واعتماد التناقضات بمختلف أشكالها، العرقية والطائفية والمذهبية، ولا نرى عجباً في صمت الغرب عن استهداف المسيحيين بالتهجير فالغاية تبرّر الوسيلة، ونعلم أن قادة الصهيونية العالمية تآمروا وضحّوا بألوف اليهود لتحقيق المخطط الموضوع قبل أكثر من مئة عام، بغية كسب التعاطف وشفقة الرأي العام البسيط.

«الفوضى الخلاّقة» مثلما أسماها غلاة القادة في الغرب، ومسميّتا «الشرق الأوسط الجديد» و»الشرق الأوسط الكبير» ما هما سوى تجسيد لهذا المشروع الذي تحققه الفوضى الهدّامة في بلادنا وما يجاورها. بلى، هي خلاقة لأهل الغرب، تخدم مصالحهم وتحقّقها وتهيّئ أفضل الظروف لفرض الدولة اليهودية. خلاّقة لأنها رابحة، فلا خسارة دماء ولا أموال، وهنا يتمثل الدور العربي وقادة الدول المتخلّفة المتخمون بأموال النفط والغاز، إذ يُهيّأ إليهم أنهم يعملون لحماية عروشهم وتحقيق ذواتهم، غير عابئين بأنهم مجرد بيادق على رقعة يديرها عتاة الماسونية العالمية، وبأنّ كراسيهم الأكثر قابلية للتزحلق والسقوط، وبأن الأموال التي يتربّعون عليها هي في صناديق لا يملكون مفاتيحها، وبأن الأسلحة التي يفرضها الغرب عليهم ويقبض أثمانها من عائداتهم هي لقتلهم في النهاية بعد القضاء على شعوبهم وإذلالها بعد إفقارها.

قد يعي هؤلاء القادة واقعهم إن لم يكونوا على إدراك تام به، لكن وعيهم بلا فائدة، فهم ما كانوا ولن يكونوا أصحاب قرار إنما مجرد رعاة على رأس قطعان من البشر ساهموا في تدجينها وقضوا على قادة الرأي والوعي فيها، أو شرّدوهم في أصقاع الدنيا لتحتضنهم الدوائر الخارجية المختصة، تدجن بعضهم فيكون البديل ما حصل للبعض، وبينهم على سبيل المثال الشلبي وكرزاي، وحتى السيسي، ومئات بل ألوف لم يظهروا على الشاشة حتى الآن، بل في اللحظة المناسبة، ولا يفاجئنا ظهور المزيد منهم.

إنّه الواقع المرير الذي تعانيه الشام، والعراق، واليمن، ومصر، وليبيا، وقد يقوم غداً في الخليج وغيره… وهذا استكمال لمشروع ينفّذ بالفعل المسبق التخطيط. والردود عشوائية. حتى ردود الفعل بلا تخطيط هي فاقدة التأثير… وأين الثريا من الثرى!

ما يحصل في المحيط يتجسّد الآن في غزة، فيصبح القاتل توصيفاً «معتدى عليه»! والقتلى الأبرياء هم المعتدون!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى