حروب بوتين الاستباقية…
أحمد بدور
منذ البداية، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يدرك انّ الهدف النهائي لكلّ حروب اميركا في الشرق الأوسط هو روسيا، وبدرجة لاحقة الصين. لذلك، كانت عينه وقلبه دائماً على سورية، وفي كلّ خطوة او مفاجأة كان يطلقها في ما يتعلق بسورية، كانت تنطلق معها حملة كبيرة من التأويلات والتفسيرات التي تدور بمعظمها حول فكرة واحدة ألا وهي التخلي الروسي عن الرئيس بشار الاسد.
الكثيرون لم يدركوا أبعاد الحلف الذي عقده الرئيس الأسد مع الرئيس بوتين في عام 2007، حيث اعتبره البعض عابراً، وآخرون اعتبروا انه سيسقط عند اول إغراء يقدّم لروسيا. إلا أنّ الأزمة السورية اثبتت انّ هذا الحلف غير آيل للسقوط لاعتبارات عضوية تتعلق بتركيبة هذه العلاقة، إذ إنّ سقوط هذا الاتفاق الحلف سيسقط معه الطرفين لا واحدا دون الآخر.
فالرئيس الاسد حين زار موسكو في 2007، مع تصاعد الأزمة الجورجية، كان يدرك انّ خطوة التحالف مع روسيا سوف تغضب الغرب الذي استنفد كلّ وسائل الإغراء الممكنة معه، فالرجل رفض وعود أميركا بتقديم المساعدات الخيالية، ورفض أيضا بناء أنبوب الغاز القطري الذي كان يهدف الى محاصرة الاتحاد الروسي الصاعد على أنقاض الاتحاد السوفياتي السابق، إذ كان لسلعة الغاز تحديداً دور مهمّ في إعادة إنتاج اقتصاد روسيا الجديدة وانتشاله من الهاوية التي سقط فيها. هذه السلعة ساهمت الى حدّ كبير بإعادة بناء علاقة اقتصادية هائلة مع أوروبا، خصوصا العلاقة مع ألمانيا التي أنتجت تقارباً كبيراً بين هاتين الدولتين، وقد كانت أوكرانيا بوابة هذه العلاقة الاقتصادية مع أوروبا ومعبراً لتصدير الغاز اليها، لذلك رأينا سلسلة «الثورات الوردية» التي طاولت هذا البلد، التي وإنْ كان عنوانها المطالبة بالحرية، إلا أنها في الحقيقة كانت تهدف الى محاصرة روسيا في اقتصادها وإيقاف تصدير الغاز منها الى أوروبا، حيث كان يعوّل على الغاز القطري الذي كان من المفترض ان يمرّ في الأراضي السورية في ما لو وافق الرئيس الأسد على إغراءات أمير قطر الغازي ، إلا انّ رفض الرئيس الأسد جعله في مواجهة قاسية مع الغرب.
فالرئيس بوتين يدرك ذلك، ويدرك ايضاً انّ الرئيس الأسد بتحالفه معه قد وضع نفسه ووضع سورية في مواجهة مع الغرب، وهي مواجهة خطرة خاضها سابقاً الرئيس اليوغوسلافي ميلوزوفيتش وانتهت الى تقسيم يوغوسلافيا ومحاكمته، ولم تستطع روسيا حينها ان تفعل له شيئاً. وكذلك يدرك الرئيس بوتين انّ الرئيس الأسد حين عقد هذا الحلف معه إنما وضع سورية على خط الزلازل، وانّ مصير سورية قد يكون بنتيجة هذه المواجهة كمصير يوغوسلافيا، وهنا لا نعني انّ موقف الرئيس بوتين في دعم الرئيس الأسد هو مسألة وفاء مقابل وفاء، وإنما هذا الموقف، إضافة إلى الوفاء، هو عبارة عن مصلحة دولة مقابل مصلحة دولة، وبالتالي هي مصلحة روسيا العليا اولاً واخيراً، فسقوط الدولة السورية وتقسيمها يعنيان بداية القتال على أسوار روسيا، فـ»الإسلام الجهادي» لن يكتفي بسورية، وسورية، بالنسبة لأصحاب هذا الفكر، ما هي إلا محطة على طريق الوصول الى موسكو، فالشيشاني والقوقازي والايغوزي عندما أتوا الى سورية لم يأتوا الا لكي ينطلقوا من بعدها الى عمق آسيا، وخاصة موسكو وبكين، فسورية بالنسبة الى هؤلاء ليست سوى محطة وقاعدة لوجستية تؤمّن التزوّد بالحشد البشري وباكتساب «الشرعية الدينية» لمتابعة الكفاح ضدّ روسيا، لذلك عندما يدعم بوتين الأسد إنما يدفع القتال عنه وعن كلّ آسيا، فإذا سقطت سورية سوف يجد نفسه يقاتل في شوارع موسكو، فلا عجب حين نجده مع كلّ استحقاق مفصلي يلجأ الى مفاجأة من العيار الثقيل تقلب المشهد رأساً على عقب، فمنذ بداية الأزمة السورية كان الفيتو المزدوج الروسي والصيني في مجلس الأمن، ومن ثم أتى الاتفاق الكيميائي السوري الذي قلب المشهد وسمح بتزويد سورية بأسلحة أكثر تطوراً، وأيضاً جاءت المفاجأة الأخرى الصاعقة المتعلقة بالتدخل عسكرياً في سورية، وآخر هذه المفاجآت سحب جزء من هذه القوات الروسية من الميدان السوري، وذلك بهدف حماية المحادثات في جنيف التي استُجلِبت اليها المعارضةُ السورية بالإكراه، لأنّ رهان هذه المعارضة هو على الإدارة الأميركية الجديدة القادمة وعلى تغيير موقفها من الأزمة السورية بحيث يكون أكثر تطابقاً مع مصلحتها.
لا شك انّ الرئيس بوتين لاعب سياسي من الطراز الأول يعرف كيف يستثمر العسكر في تحصيل المكاسب السياسية، وانْ كان من المبكر تحديد كامل نتائج هذا الانسحاب وأهدافه، الا انه من الأكيد أنه يأتي في سياق المواجهة الكبرى في المحافظة على سورية وعلى مصالح روسيا فيها، وحتى لا يجد الرئيس بوتين نفسه بعد حين، يقاتل في شوارع موسكو.
كاتب سياسي ومحامٍ في القانون الدولي