د. جورج جبّور

في 11 نيسان 2016 الاثنين المقبل يعقد في هيروشيما اجتماع وزاري يحضره وزير خارجية أميركا السيد جون كيري. من الثابت أنّ الوزير الأميركي لن يغادر المدينة اليابانية التي شهدت، في لحظات قليلة، أكبر مقتلة للبشر عرفها التاريخ، الا بعد أن ينحني أمام نصب تذكاري يخلد الضحايا. سيكون أرفع مسؤول أميركي قائم بالمسؤولية ينحني أمام نصب يتحدّث عن جريمة أميركية. قبله قام الرئيس كارتر بالزيارة بعد تقاعده. وحين زرت هيروشيما قرأت ما خطه الرئيس كارتر عن الجريمة – المأساة. لم يترك في نفسي كبير أثر، لم يرتفع الى اعتذار صريح واضح.

في 23 أيار 2016، قبل أشهر من الانتخابات الرئاسية الأميركية، يقوم الرئيس أوباما بزيارة اليابان. قبل شهرين بالضبط من موعد الزيارة أخذت تتوالى التسريبات عن اعتزامه الاعتذار. حسناً يفعل إذ ينحني أمام النصب التذكاري ويعتذر.

في 31 تموز 2013، قبل نحو من ثلاث سنوات، كتبت مقالاً في جريدة «البعث» السورية وفي جريدة «الحياة» اللبنانية، قلت فيه إنّ الرئيس أوباما سيكون جديراً بجائزة نوبل للسلام إذا زار اليابان «لكي يقدّم هو شخصياً الى أحفاد ضحايا القنبلتين اعتذاراً عما فعلته أميركا في آب 1945». هكذا يبدو وكأنّ الرئيس الأميركي في طريقه للاستجابة الى نصيحة قدّمها له سوري، نصيحة من المرجح انه لم يسمع بها. بل من يدري؟ لعله فعل. ظهر المقال عشية الذكرى السنوية للقنبلة التي ألقيت على هيروشيما، وهو موعد تراقبه أميركا، وظهر في وقت كان الرئيس أوباما يستعدّ لتوقيع قراره تعيين ابنة الرئيس كيندي سفيرة إلى اليابان، وهو قرار أثار اهتماماً عالمياً.

في كلّ حال، سمع الرئيس أوباما بنصيحتي له، او لم يسمع، ليس هذا الأمر، ما يهمّني هنا هو ما سيرد في الفقرة التالية… ما يهمّني هو إسماعي له نصيحة جديدة موعدها ايام قليلة قبل موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية.

ما كان وعد بلفور ليصدر في 2 تشرين الثاني 1917 لولا رسالة تأييد – شفهية او كتابية حملها الى اللورد بلفور، وزير خارجية برطانيا آنذاك، قاض أميركي شهير هو براندايس، مقرّب من الرئيس ويلسون، وذكره مخلّد في جامعة تحمل اسمه. اقترنت جريمة تهجير الفلسطينيين باسم بلفور ووعده، وهذا أمر حق. الا انّ ثمة اشتراكاً جرمياً في الوعد بين الرئيس الأميركي وبين الوزير البريطاني. لم ينل الرئيس ويلسون نصيبه العادل من اللوم العربي والعالمي. بل انّ جريمة الرئيس الأميركي تتفوّق على جريمة الوزير البريطاني، لأنّ الاول كان صاحب نظرية حق الشعوب في تقرير مصيرها، ولم يكن الثاني من دعاة ذلك الحق. في جريمة الرئيس الأميركي عنصر خداع. دعا الى احترام حق الشعب في تقرير مصيره بنفسه أوائل عام 1918، وحرم الفلسطينيين من هذا الحق قبل ذلك الموعد بأقلّ من ثلاثة أشهر. هل كان مغفلاً؟ كلا بالتأكيد. هل مارس الخداع؟ في الأرجح. بل ولعله اندفع خطوات أبعد في ممارسة الخداع علينا، نحن ابناء «البلاد السورية المنفصلة عن الدولة العثمانية» حسب نصّ المادة الثانية من مشروع الدستور السوري الذي وضعه المجلس التأسيسي السوري عام 1928 . في اوائل عام 1919 اعلن نيته إرسال بعثة الينا تستطلع آراءنا في مستقبلنا. فعل. في صيف 1919 أتتنا بعثة منه، هي تلك المعروفة باسم لجنة كينغ – كرين، وعلقنا عليها الآمال. بل انّ أحد اعلاميينا طلع علينا بنظرية مؤدّاها انّ الرئيس ويلسون «هو الوالد الثالث للبشرية بعد آدم ونوح» جريدة حلب، ربيع 1919 .

كان الرئيس ويلسون يعلم لا ريب بأننا نرفض وعد بلفور، واننا نريد الاستقلال. الا انّ رسالته الى بلفور كانت سرية. اعتمد على سرية رسالته ليخدعنا بإرسال بعثته، هو الذي أسّس سمعته الأخلاقية على أساس مناهضته للاتفاقيات السرية، وأبرزها في التداول آنذاك هي اتفاقية سايكس بيكو. وأكمل الرئيس ويلسون خداعه لنا بإهماله تقرير بعثته الذي علّقنا عليه الآمال.

يفصح عنوان المقال عن الهدف منه. إنه ليس فقط حث الرئيس الأميركي على تقديم اعتذار الى اليابانيين. انه حث له لتقديم اعتذار الى الفلسطينيين ايضاً. وهو أمر يتطلب جرأة أكبر، والتزاماً ادقّ بالقيم الإنسانية العليا. ليس في أميركا من معارضين جادّين للاعتذار رغم ما يُقال عن ألم عميق مستقرّ في النفس الأميركية نتيجة الهجوم الياباني على بيرل هاربور. الا انّ اعتذار الرئيس أوباما الى الفلسطينيين، وقبل أيام من الانتخابات الرئاسية، سوف يطيح بحزبه، وربما انه يطيح به مباشرة مانعاً إياه من استمراره رئيساً. لماذا اذن أقدم له النصيحة بشأن الوعد المشؤوم الظالم الذي شرّد شعباً من ارضه، وأنا أعلم صعوبات تنفيذ تلك النصيحة؟

للاعتذار مهابته وحساباته. لن يعيد الحياة الى الضحايا اعتذار يقدّم الى أحفادهم. الا انه تطهير للنفس، ورفض للباطل، وقطيعة مع الظلم. انه فعل شجاعة في مغالبة الذات. في الشأن الياباني تبدو نتيجة المغالبة محسومة. لا يتطلب الأمر جرأة استثنائية. وليس الأمر كذلك في الشأن الفلسطيني. انه يتطلب جرأة استثنائية كبرى، وانفتاحاً صريحاً على اتجاهات صاعدة في الرأي العام الدولي تؤمن بأنّ ظلماً كبيراً لحق بالفلسطينيين وما يزال. لكن رجل الدولة هو الذي يرى الى أيام أبعد من أيام الانتخابات الرئاسية. فإن فعل، فلن يكون رجل دولة فقط، بل رجل الإنسانية. لن يستحق فقط جائزة نوبل للسلام، بل يستحق جائزة سلام من كلّ إنسان ضعيف.

قد يُقال: أمِن سورية تأتي النصيحة؟ «عليكم أنفسكم» كما في القرآن الكريم. وأقول بلى. منا كان حمورابي. وفي قيظ الصحراء ولد حلف الفضول. لنا تاريخنا في حقوق الإنسان، ولن نفقد حقنا في توجيه النصح.

رئيس الرابطة السورية للأمم المتحدة

وسابقاً: خبير مستقلّ لدى مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى