بين تركيا وحلب… تاريخ وجغرافيا
منذ بداية الأزمة في سورية والحرب فيها وعليها، برزت معادلة خاصة بين تركيا وحلب. فقد ظهر أنه بقدر ما يتوقف مصير صمود سورية على صمود حلب، ويتوقف انتصارها على الانتصار في حلب، ظهر أن تركيا هي بيضة القبّان في مستقبل فريق الحرب على سورية، وهي حصان الرهان الذي من دونه لا أمل بالتقدّم نحو الفوز بهذه الحرب، رغم أن تركيا ليست الطرف الأكثر مالاً كالسعودية، ولا الأفعل قراراً كأميركا، بل لأن أميركا والسعودية صاحبتا الحل والربط لحجم ما تملك كل منهما من قدرات سياسية أو دبلوماسية وعسكرية بالنسبة إلى أميركا، ومالية ودينية وإعلامية واستخبارية عبر قدرة تشغيل تنظيم «القاعدة» بالنسبة إلى السعودية. لا تجد هذه القدرات منفذاً إلى سورية لتصير قوة في ميدان التغيير من دون البوابة التركية ـ حلب التي تشكل العاصمة الثانية بكل معانيها السياسية والاقتصادية والجغرافية والعسكرية في سورية، برزت كصمام أمان للدولة السورية، بمثل ما برزت دمشق كعنوان بقاء. ففي أسوأ الظروف التي عاشتها الدولة السورية، كان النجاح ببقاء دمشق صامدة يعني بقاء الدولة، والنجاح بمنع سقوط حلب يعني الأمل بانتصار الدولة. ولذلك، كانت لحلف الحرب على سورية معادلة تقوم على أن الفوز بإخراج الدولة كلياً من حلب نصف انتصار، وخطوة نوعية للتقدّم نحو دمشق حيث النصر الكامل.
لا يمكن الإمساك بالخناق حول عنق حلب إلا من تركيا، ولا يمكن الرهان على إسقاطها إلا عبر تركيا. ولأن لدى تركيا مشروعاً يتأسس على توظيف الحاجة الأميركية لملء الفراغ الاستراتيجي المفترض أن ينشأ في أعقاب الانسحاب الأميركي من العراق وأفغانستان، عنوانه العثمانية الجديدة، التي كانت قد حققت بفوز الإخوان المسلمين في كل من مصر تونس وتقدّم التنظيم نحو مواقع أمامية في اليمن وليبيا والأردن وفلسطين وسورية، ووجود قيادته في أنقرة في قمة السلطة، فإن فوز تركيا بحلب أو خسارة تركيا للرهان الحلبي، يشكلان المعادلة التي تقرّر، أن دمشق باتت مهدّدة بالسقوط أو أنها صارت على أبواب النصر.
لهذا كله، سيجد أيّ مؤرّخ عسكري للحرب في سورية وعليها، أن الخط البياني لجولات هذه الحرب التي شهدت مدّاً وجزراً على مساحة عشرات جبهات القتال المنتشرة فوق الجغرافيا السورية، يمكن قراءة مسارها من وضع حلب، وسيكون من السهل توصيف وضعية طرفي النزاع بكل ما يمثلان محلياً وإقليمياً ودولياً من وضع جبهات القتال في حلب وحولها، ولذلك حفرت أسماء بلدات مثل جسر الشغور والباب وأعزاز وخناصر مكانة مميّزة في الحرب، لأنها تشكل بوابات حلبية نحو دمشق ونحو تركيا. فكلما بدا أن بوابات حلب إلى دمشق مفتوحة كان تقدّم الدولة السورية تعلو أسهمه بانتظار إغلاق بوابات حلب التركية. وكلما بدا أن بوابات حلب إلى تركيا كان إضعاف الدولة السورية ينتظر إقفال بوابات حلب الدمشقية، ولذلك كان بقاء البوابات مفتوحة بالاتجاهين يعني توزاناً سلبياً ينذر بالانفجار، وانفتاح إحداها وإغلاق الأخرى يعني تقدّماً نوعياً لفريق من الفريقين نحو النصر.
جبهة حلب التي تشكل رئة تركيا للتنفّس في الحرب السورية تدخل مرحلة نوعية حاسمة هذه الأيام، بعدما تلقّت تركيا ضربات نوعية أصابت مشروعها الإقليمي ونسخته المفصلية الخاصة بسورية، في الكبد، ودخل المشروع التركي حالة الاحتضار، بعد الموت السريري، وصارت رصاصة الرحمة حلبية بامتياز. فقد خسرت أنقرة رهانها العثماني من مصر إلى تونس، وهي تجهد للحفاظ على موطأ قدم للإخوان في التسويتين الليبية واليمنية، وفي فلسطين تعلن حماس فك ارتباطها بالتنظيم العالمي للإخوان لضمان بوابتها مع مصر إلى غزة. وفي الأردن يكمن الإخوان لأنهم فقدوا البيئة المحيطة المنشطة، بين الدفتين المصرية والسورية. وفي سورية صار الإخوان منضوين تحت عباءة «جبهة النصرة» في معظمهم، وبعضهم صاروا «دواعش»، ومشروع المنطقة الآمنة الذي شكل المخلب التركي لتهشيم الجغرافيا السورية صار في خبر كان، وصار بديله مقايضة اللاجئين بالمال الأوروبي، والرهان على حصان «جبهة النصرة» وتسويقه دولياً كقوة عسكرية وسياسية، تشكل الشريك السوري في الحلّ السياسي والحرب على «داعش» معاً، قد سقط سقوطاً مدوياً، باستثناء «النصرة» من الهدنة، بقرار صادر عن مجلس الأمن بحسم أمرها إلى غير رجعة كتنظيم إرهابي.
جاءت انتصارات الجيش السوري، والموقف الروسي الحاسم، في شمال سورية لتضع مستقبل الدور التركي على المشرحة، وتهدده بالنهاية القريبة، وحوصر التمدد التركي في سورية بجيب محدود. وشكلت الهدنة فرصة نجح الجيش السوري بتوظيفها في حسم تدمر، المعقل المفصليّ في مشروع «داعش»، كما شكلت فرصة لتأجيل استحقاق معركة حلب الفاصلة، وبالتالي معركة إنهاء الحضور التركي في الجغرافيا السورية، بعدما قرّرت «النصرة» رفع راية اسم «الجيش الحرّ» لحماية مواقعها في حلب وأريافها، والرهان على حرب تدمر لاستنزاف الجيش السوري في فترة الهدنة، لكن الحسم السريع لتدمر، فرض على «النصرة» رمي القناع جانباً، وتسريع معركة حلب لحماية معقلها الأخير في إدلب.
كما تدمر، حرب من ضمن مفهوم الهدنة التي تستثني «داعش»، حلب حرب ضمن مفهوم الهدنة التي تستثني «النصرة». وبعد حلب، لن يكون لتركيا في سورية إلا ذكريات تاريخ مؤلم وجغرافيا موجعة..
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.