العصبيات… هل ستشكل حتمية مقبلة للدول العربية؟
د. هلا علي
قبل ربع قرن انتشرت نظرية «نهاية التاريخ» على يد فرنسيس فوكوياما الذي نادى بالحتمية الديمقراطية في كتابه الشهير «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» المنشور عام 1992. اليوم نجد نظريته الجديدة وحتمية الانحطاط السياسي التي نشرها عام 2014 في مجلد ضخم مكوّن من جزءَين موسوم بـ»النظام السياسي والانحطاط السياسي».
فبعد أن قال فوكوياما في نهاية القرن المنصرم بحتمية الديمقراطية الأميركية، مبشراً بسلام الليبرالية الأميركية، يرى اليوم أنّ الانحطاط السياسي هو مصير المؤسسات الأميركية لأنّ النظام الذي من المفترض أن يجلب الرخاء قد أصابه الفساد، وبالتالي أنتج حالة من الانحطاط والفشل.
الحديث عن الحتميات التاريخية يقودنا بالضرورة الى السؤال: اذا كانت حتمية أوغست كونت انتهت بالعلم، وحتمية ماركس انتهت بالاشتراكية، وحتمية فوكوياما انتهت بالليبرالية، فما هي الحتمية التي تنتظر حركة التاريخ في الدول العربية؟ وما هو المصير السياسي والاجتماعي لهذه الدول؟ واذا كانت حركة التاريخ عند ماركس حلزونية، وعند ابن خلدون وتوينبي دائرية تكرارية، وعند ليفي شتراوس حركة قفزات ووثبات في جميع الاتجاهات، فما هو شكل ونمط حركة التاريخ في المنطقة العربية؟ وهل يمكن التكهّن بحتمية ما للعقود المقبلة انطلاقاً من المرحلة الراهنة بكلّ ما فيها من تعقيدات وتشابكات؟
الإجابة عن هذا السؤال انما تنطلق من العناصر الثلاثة المقومة للدول، وهي كما حدّدها فوكوياما: القوة الاقتصادية، قوة القانون، والمساءلة المؤسساتية.
توفر أحد هذه العوامل لا يكفي لتأسيس منظومة سياسية ديمقراطية، فالقوة الاقتصادية وحدها لا تكفي كما الصين، وضعف القانون أدّى الى أزمات اقتصادية وغرق في الديون كما اليونان، وشدة الانشغال بالمساءلة كما حدث في الولايات المتحدة الأميركية أنشأ ترهّلاً بيروقراطياً أنتج مجموعات صغيرة عملت على تكريس الفساد، وبالتالي غياب المساءلة.
هذه هي بالضبط حالة الانحطاط السياسي التي تحدّث عنها فوكوياما كحتمية القرن الحادي والعشرين. علينا أن ننتبه إلى أن أميركا التي صدّرت أسباب الرخاء إلى العالم كله ستصدّر أسباب الفساد والانحطاط بالضرورة.
الحالة العربية ليست بعيدة عما حدث ويحدث في الخارج الأوروبي أو الأميركي. الدول العربية الآن في القاع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. يُضاف الى ذلك حالة الاضطراب والحرب منذ اندلاع أحداث ما سمّي بـ»الربيع العربي». الانحطاط السياسي في الدول العربية يتبدّى جلياً في الضعف حيال الصراعات الدينية والمذهبية، وفي الحركات الارتدادية إنْ جاز التعبير لدى مجموعات عديدة ذات الانتماءات الإثنية والمذهبية والطائفية والعرقية المختلفة سعيا لإثبات وجود سياسي واجتماعي ما. هذا النمط من الحركة التاريخية لا يمكن ان يندرج تحت اسم التطوّر التاريخي بمعنى النشوء والارتقاء، ولا تحت مسمّى التقدّم التاريخي بالمعنى السوسيوثقافي. هو ليس الا مجرد تعبير عن ردود أفعال لا عن أفعال. هي محاولات للخروج من مأزق تاريخي لكن بآليات خاطئة. الحالة الأوروبية من الحروب والاقتتال أنتجت معاهدة ويستفاليا التي أنهت سنوات طويلة من الحروب. فما الذي ستتمخض عنه الصراعات في الدول العربية؟ النهوض من القاع مطلوب اليوم، وهذا لا يحققه ارتداد الى انكفاءات ضيقة، انتماءات اثنية ودينية ومذهبية، وأحلام انفصال ونزعات اقليمية وشوفينية وتقوقع. إنّ خصوصية العصر اليوم لا تسمح بالحركة الدائرية للتاريخ بالمعنى الخلدوني. لا يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه. فالغرب يتحدّث اليوم عن إلغاء الحدود والتخوم، في حين ينادي البعض في الدول العربية بالمزيد من الحدود. ينبغي أن تتشكل حتمية المرحلة المقبلة انطلاقاً من تصوّر نمط الخروج من المأزق.
يقول فوكوياما: «نحن نعرف شروط عمل منظومة جيدة وكفوءة، لكننا للأسف لا نمتلكها».
هل يحق للنخب العربية، التي ما زالت موجودة، وإنْ تراجعت حيناً وأحبطت حيناً آخر، أن تقول: «نحن نعرف شروط عمل منظومة جيدة وسنعمل على امتلاكها بما يتناسب وخصوصية التحوّلات الكبرى والحاسمة التي تمرّ بها دول عربية؟».
شروط الوصول الى منظومة غير فاسدة، ومنتجة، تتلخص باعتقادي بالتالي: «دولة المواطنة، الإقرار بالتعددية بمختلف أبعادها، وصرامة تطبيق القوانين». إنّ ترك الصراعات المسيّسة والمعسكرة دون ضبط، سيفسح في المجال واسعاً أمام عودة العصبيات التي ستغرق الشعوب وتستنزف الحكومات في حروب لا منتهية.