ما الذي يجعل «أمّ الدنيا» تحتاج إلى دولة كانت خطأً تاريخياً؟

شارل أبي نادر

عندما تجد أنّ جامعة عريقة تأسّست أغلب كلياتها في أوائل القرن الثامن عشر لتندمج في أوائل القرن التاسع عشر تحت اسم «جامعة القاهرة»، بعد أن حضنت في تاريخها نخبة من المثقفين والأدباء والمبدعين أمثال مصطفى كامل وسعد زغلول ومحمد فريد وغيرهم، تمنح شخصاً مثل الملك سلمان دكتوراه فخرية، حيث لم يحصل على هذا الشرف إلا قلة قليلة من رجال التاريخ الحديث أمثال الرئيسين الأميركي روزفلت والفرنسي جيسكار ديستان والملك المغربي الحسن الثاني، تستطيع أن تستنتج ماذا تعاني مصر كدولة وكسلطة وكشعب في هذه الأيام الصعبة التي تمرّ فيها.

للوهلة الأولى، وبعد أن تطلع على المعطيات والأسباب التي أوردها مجلس الجامعة المذكورة، والتي تبرّر هذا المنح الاستثنائي، حيث تصف شخصية الممنوحة له هذه الدكتوراه الفخرية بـ«الشخصية العالمية المحورية، والمشهود له في المحيط العربي والدولي بإسهاماته البارزة في خدمة العروبة والإسلام والمسلمين»، تشعر أنك تستمع إلى خطبة يلقيها الممثل المعروف عادل إمام خلال مسرحية هزلية بمشاركة نخبة من أبطال الكوميديا المصرية، والمعروفين بأسلوبهم الطريف عند تصويرهم للواقع المرير بطريقة فكاهية مخالفة لحقيقة الأمر بالكامل.

لاحقاً… وبعد أن تستمع إلى القسم الثاني من ديباجة مجلس الجامعة لمنح هذه الدكتوراه، والذي يتضمّن: «جلالة الملك المساند لمصر ولشعبها بسبب دوره في دعم جامعة القاهرة وإطلاقه مشروعاً تاريخياً لتطوير مستشفيات الجامعة بما يؤدّي إلى تمكينها من أداء رسالتها نحو مجتمعها المصري ومحيطها العربي»، تعلم أنّ أصول منح هذه الدكتوراه قد تغيّرت في هذه الأيام وأصبحت لا تُمنح بل تُشترى شراءً، وهي غالية الثمن من الناحية المادية فقط، لدرجة يصعب على أية شخصية الحصول عليها مهما كانت تتمتع بالمواصفات المعنوية التي تخوّلها ذلك، إلا إذا كانت من أصحاب الثروات الطائلة.

في الحقيقة، لا يمثل الموضوع فرصة للتهكّم أو للهزء، لا سمح الله، بل يمثل لحظة تأمّل وتحليل ودراسة لما وصلت إليه مصر، الدولة العريقة صاحبة لقب «أمّ الدنيا» عن جدارة وعن استحقاق. تلك الدولة التي تمتدّ بتاريخها إلى آلاف السنوات حيث الحضارة واكبت نشأتها وتطوّرها، وحيث الثقافة طبعت جامعاتها ومعاهدها العلمية والفكرية، وحيث تدفعك هذه اللحظة إلى التساؤلات التالية:

ما الذي يجعل هذه الدولة العريقة الضاربة في التاريخ مثل مصر أن تقف هذا الموقف المخجل لتاريخها ولحضارتها؟

ما الذي يجبر هذه الأمة التي كانت ولفترة طويلة منبراً وصوتاً وموجّهاً للعرب، ورائدهم في الفكر والسياسة والثقافة، تقف ذليلة تمدّ يدها إلى رأس نظام أصبح متهماّ رئيساّ في خلق ودعم وتصدير الإرهاب عبر الشرق والعالم؟

إنها الحاجة… إنه الفقر…. إنها الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تضغط على مصر الدولة والشعب بعد أن ضُرب قطاعها السياحي والذي كان المصدر الأساس لتماسك اقتصادها ومدخولها القومي، هذا القطاع الذي ينزف اليوم ويحتضر بسبب الإرهاب التكفيري الذي وضع السياح الأجانب والعرب هدفاً رئيساً له في معركته على أرض مصر، هذا الإرهاب الذي لا يمكن إلا أن يكون مسؤولاً عنه بطريقة أو بأخرى هذا النظام الذي مُنح رأسه هذه الدكتوراه الفخرية.

إنه الخوف… الخوف من الإرهاب الذي يحصد يومياً عشرات الشهداء من أبناء مصر العسكريين والأمنيّين والمدنيين في معركة شرسة تخوضها «أمّ الدنيا» في سيناء والأقصر وغيرها ضدّ عدو لا يبدو أنه متمكّن هكذا بقوته الذاتية، ضدّ عدو لا يمكن أن يقارع ويواجه الجيش وقوات الأمن في مصر بهذه القدرة اللافتة إلا إذا كان مدعوماً من دول وأنظمة تظهر بصماتها واضحة في أذرع هذا الإرهاب الممتدّ إلى العراق واليمن وسورية ولبنان وأغلب دول ساحل أفريقيا الشمالي. بصمات واضحة وضوح الشمس. بصمات ليست بعيدة عن تلك البصمات التي سوف تلامس هذه الدكتوراه الفخرية التي ستمنحها عفواً، ستبيعها اليوم جامعة القاهرة إلى بطل من أبطال العرب والمسلمين، إلى بطل من أبطال اليمن المظلوم المدمّر، إلى بطل من أبطال الموصل المخطوفة، إلى بطل من أبطال حلب المنكوبة، إلى بطل من أبطال نينوى المهجرة، إلى بطل من أبطال اللجوء الذليل لملايين السوريين إلى أوروبا وإلى أقاصي العالم.

وأخيراً… ليست صدفة أن تكون دولة كـ»أمّ الدنيا»، تاريخها مليء بالثقافة وبالحضارة وبالعلم وبالأدب، مكبّلة ومرتهنة هكذا، ومضطرة لأن تتقبّل وتستقبل وباحتفال تاريخي رأس نظامٍ نشأ على خلفية مدسوسة من قبل مستعمرين لصوص نظام ظهر على حقيقته حارساً لبني صهيون الغزاة المجرمين نظام سمح لنفسه أن يتطاول على المقاومة الشريفة الوطنية والقومية والإسلامية وينعتها بالإرهابية في الوقت الذي لا يمكن لأيّ مراقب موضوعي مستقلّ إلا أن يستنتج مسؤولية هذا النظام الواضحة في نشوء ورعاية ودعم الإرهاب في الشرق وفي العالم. فالقرار الدولي الصهيوني وبمساعدة وتنفيذ إقليمي معروف يقضي بأن تبقى مصر مرتهنة، فقيرة ومغلوبة على أمرها، لكي لا يتسنّى لها أن تتحرّر وتفكر كما يرغب أبناؤها بصراحة، لناحية التعبير الصريح عن العداء للكيان الصهيوني وقطع التواصل غير الطبيعي مع هذا العدو الذي اغتصب الأرض العربية ودنّس المقدسات الإسلامية والمسيحية.

عميد متقاعد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى