تسريب انتقائي لـ«أوراق بنما»: اليد الخفية لأميركا

القضايا والاهتمامات الداخلية ترخي ظلالها على معظم نواحي الحياة الأميركية، في ظلّ مناخ تسعير السباق والتنافس الانتخابي بين المرشحين عن الحزبين، لحصد أكبر نصيب من أصوات المندوبين تمهيداً لدخول المؤتمرات الحزبية، في شهر تموز المقبل.

وانشغلت معظم الوسائل مطلع الأسبوع بنتائج وتوقعات الانتخابات في ولاية ويسكونسن التي جاءت حصيلتها مفاجئة للطرفين: خسارة دونالد ترمب وخسارة هيلاري كلينتون.

في ظلّ تلك الاجواء «المشحونة»، تمّ «تسريب» وثائق تتعلق بحسابات مصرفية خارج الحدود الأميركية، لأثرياء وشخصيات سياسية وعالمية، تعرف بـ«أوراق بنما».

سيستعرض قسم التحليل جملة من الأسئلة المرافقة للتسريب: توقيت العملية «عمداً»، ربما لخدمة أغراض ذاتية للمؤسسة الحاكمة، منها طلب الرئيس أوباما من الكونغرس إصدار تشريعات جديدة لردم الهوة القائمة في النظام الضريبي، والإشادة بالنظام الأميركي للحيلولة دون التهرب من الضرائب وكذلك العلاقة العملية بين الأجهزة المصرفية الأميركية ونظيرتها في بنما «الصغيرة»، لحماية سرية معاملاتها المالية.

«داعش» والرئيس المقبل

أعرب معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى عن اعتقاده بهزالة التوقعات الغربية ممثلة في «التحالف الدولي لهزيمة دولة داعش وجيشه قبل انتخاب رئيس أميركي جديد»، مناشداً الرئيس المقبل الإقرار «بعدم نجاح السياسة الحالية ضد عدو خطير يشكل محور اختلالات في خريطة الشرق الأوسط». وأضاف: إنّ المرشحين لمنصب الرئاسة «تجنبوا تقديم أي تعليق جدي: إذ يختبئ الجمهوريون خلف شعارات مُبهمة مثل «اقصفوهم» بينما لم تقدّم هيلاري كلينتون أي تفاصيل محدّدة ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية». واستعرض جملة من الخيارات المُتاحة وأبرزها «الاستمرار في برنامج الإدارة الأميركية الحالي.. أو إضافة بعض الدعم العسكري وتكثيف الضربات الجوية وغارات القوات الخاصة بشكل أكبر… أو تحريك عدد محدّد إضافي من القوات القتالية الأميركية، بما يقارب كتيبتين تضم كلّ منها من 3000 إلى 4000 عنصر». كما أعرب المعهد عن عظيم خشيته من «إمكانية تحقيق الهجوم الروسي ـ السوري ـ الإيراني مكاسب حقيقية ضدّ تنظيم داعش في سورية وانتصار روسيا وحلفائها ضدّ التنظيم قد يشكل تهديداً ليس أقلّ خطراً من تهديد داعش» على النفوذ الأميركي في الإقليم.

في المقابل، اعتبر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الاستراتيجية الأميركية الراهنة «مقيّدة إلى حدّ بعيد في سورية وليبيا واليمن والعراق، نظراً لأنّ أيّ نجاح استراتيجي كبير يتطلب الشروع ببناء مؤسسات الدولة، واستعادة الاستقرار وإحياء مجالات التعاون بين المجموعات الطائفية والعرقية المنقسمة، والأقاليم والعشائر». وأوضح أنّ من شروط تحقيق ذلك «ترسيم أهداف استراتيجية كبيرة وواضحة من شأنها توفير الموارد والخطط والآليات لمساعدة تلك العناصر التي تبدي استعدادها وقدرتها على تحسين أوضاعها».

العراق

اعتبر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية أنّ الكرد المساندين للقوات العراقية بحاجة إلى مساعدة في سياق تضافر جهود الطرفين «لشنّ هجوم على الموصل، على الرغم من معارضة البعض لمشاركة أي طرف آخر باستثناء الجيش العراقي» لتحرير المدينة. وأوضح أنه على الرغم من التطورات الإيجابية التي طرأت على بنية الجيش العراقي «منذ استعادته مدينة الرمادي، إلا أنّ تحديات استعادة الموصل هي أكبر بكثير» نظراً لضخامة حجم رقعتها «فضلاً عن تعثر جهود الجيش العراقي في الهجمات الاستطلاعية». وأضاف أنّ «الجيش العراقي بحاجة إلى مساندة، وإن لم يوفرها الكرد فإنّ الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران أو من القوات التركية» تتأهب لاتخاذ مواقعها القتالية، «لا سيما أنّ الميليشيات الشيعية لا تخضع لسلطة الحكومة المركزية، ومن شأنها مفاقمة موجات العنف الطائفية إن تحركت بأعداد كبيرة خارج مناطقها في بغداد والجنوب».

تونس

وأشار معهد «كارنيغي» إلى توسُّع الهوة بين «النخب السياسية في تونس وعموم المواطنين»، نتيجة التحولات الاجتماعية الجارية، مناشداً الأولى «العمل لاستعادة الثقة مع الشعب، وتقوية المؤسسات الديمقراطية، والتمسك بحقوق المساواة والعدالة الاجتماعية المنصوص عليها في الدستور». وأوضح أنّ استعادة الثقة «شرط أساسي لجهود استعادة شرعية الدولة، كما أنها حيوية للحفاظ على تماسك النسيج الاجتماعي». وحثّ النخب السياسية أيضاً على «الاستجابة لطموحات غالبية التونسيين الذين يتطلعون لدولة أكثر عدلاً، كما جاء في الإجابات الواردة في استطلاعات الرأي».

إيران

استعرض معهد المشروع الأميركي جانباً من الجدل الداخلي في إيران حول الموقف من برنامج تطوير الصواريخ قائلاً: «حتى القوى المعتدلة تؤمن بأهمية برنامج الصواريخ الإيراني، كعنصر أساسي في استرايجية الدفاع، لإدراكها أيضاً أنّ البلاد تفتقر لجيش تقليدي قوي». وعليه، يستنتج بالقول، إنّ القوى الإيرانية المتعددة تعتبر البرنامج الصاروخي «كسلاح ردعي يعتمد عليه كلياً تقريباً للردّ وردع الخصوم كالولايات المتحدة وإسرائيل أو السعودية». واعتبر أنّ قدرات إيران الردعية المتوفرة «محدودة تشمل الصواريخ الباليستية، والقدرة على شنّ عمليات إرهابية وحروب غير متماثلة عبر مجموعة من الوكلاء مثل حزب الله اللبناني، وقدرات أخرى غير تقليدية كتطوير قدراتها في مجال الحرب الإلكترونية». وخلص بالقول إنه «بدون توفر تلك القدرات للردّ، فإنّ إيران ستشعر بأنها مكشوفة استراتيجياً».

الصراع في آسيا الوسطى

اهتمّت النخب الفكرية والإعلامية الأميركية باندلاع الاشتباكات في إقليم ناغورني قره باخ، بين أذربيجان والجيش الأرمني، من بينها مؤسسة «هاريتاج» التي حذرت القوى المختلفة من أنّ «إيران أضحت إحدى القوى القائمة في أوراسيا وتنظر إلى نفسها بأنها تستحق وضعاً خاصاً في المنطقة. كما أنّ كلّاً من أرمينيا وأذربيجان كانتا جزءاً من الإمبراطورية الفارسية يوماً ما، واصطفّت إيران إلى جانب أرمينيا في الحرب السابقة في بداية عقد التسعينيات». وأوضحت أنّ إيران «استغلت علاقتها مع أرمينيا كإحدى السبل لتقويض أذربيجان، وإذا ما قدّر لاندلاع حرب كاملة هناك، فإنّ ارتداداتها ستشمل عموم المنطقة». وحثت المؤسسة صنّاع القرار في واشنطن إلى أنه «ينبغي عليها الانتباه من نشوب حرب اقليمية والتي قد يكون لها تأثير مباشر على المصالح الأميركية، وكذلك على أمن شركاء وحلفاء أميركا».

أما معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى فقد نظر إلى الصراع بين أرمينيا وأذربيجان من منظار صراع أوسع بين روسيا وتركيا، قائلاً: «تتوفر لدى موسكو سبل وفيرة من شأنها استفزاز أنقره، تشمل حالة الارتداد وعدم الاستقرار الناجمة عن أزمة ناغورني قره باخ، إذ تحتفظ تركيا بعلاقات وثيقة مع أذربيجان، ولدى روسيا قوات منتشرة في أرمينيا». وأضاف: إنّ قلقاً عاماً «يسود أوساط المراقبين الغربيين نظراً لإرسال روسيا أنظمة دفاع جوية متطورة لسورية من دون التطرق إلى قدراتها القوية في التشويش وحرمان السيطرة على منطقة آمنة لردع هجوم تركي على أبواب عتبتها الشرقية». وحذر قائلاً إنه في ظلّ عدم السيطرة على تداعيات اشتباكات أذربيجان وأرمينيا «فقد تؤدي إلى نشوب صراع إقليمي مباشر بين تركيا وروسيا».

توقيت مريب وأهداف متعدّدة

في خضمّ الأزمة السياسية الانتخابية، الأسبوع الماضي، واستغراق العديد البحث في أوهام وخطورة تصريحات المرشح دونالد ترمب، برزت مجموعة «الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين» في صدر العناوين والتغطية المصورة لكشفها ما يسمّى «أوراق بنما»، تتضمّن أسماء «لم يُكشف عنها» لأثرياء نافذين وشخصيات سياسية عالمية وشركات لجأت إلى التعامل مع «شركة» في بنما بغية التهرّب من دفع الضرائب.

مشاعر الريبة انتابت العديد من المعنيين والمراقبين، منذ البداية، لناحية التوقيت والأسباب، والجهات السياسية التي تقف خلف تلك التسريبات، لا سيما أنّ مجموعة «الاتحاد الدولي» ذات هوية غامضة وتعرّف عن نفسها بأنها «ذراع لمركز الشفافية العام»، مقرّه واشنطن. أما التمويل فيأتي من أثرياء معروفين بتوجهاتهم الداعمة بشدة للمؤسسة الحاكمة الأميركية، منهم: «مؤسسة فورد الوقفية صندوق الإخوة روكفلر صندوق عائلة روكفلر صندوق كارنيغي صندوق الثري وورين بافيت اتحاد الجالية اليهودية» وتبرعات فردية على رأسها «جورج سوروس ستيفن ميردوخ شارلز لويس الذي سيأتي اسمه لاحقاً »، وقائمة طويلة من أهمّ الشخصيات الإعلامية والسياسية والفكرية والمصرفية.

حملة الترويج للأوراق والوثائق بلغت أشدّها بتحديد حجمها «11 مليون وثيقة ونيف… كأكبر تسريب وثائقي في التاريخ»، قيل إنها ثمرة «قرصنة إلكترونية» لسجلات وملفات مقرّ مكتب «موساك فونسيكا» للمحاماة في بنما، الناشط في تقديم خدمات مصرفية بمعزل عن المراقبة ـ أوف شور، تمّت العام الماضي. أحد مؤسّسي المكتب، رامون فونسيكا أكد أنّ مقرّه «تعرض لقرصنة من قبل أجهزة تعمل من الخارج».

كان لافتاً تمييز مجموعة «الاتحاد الدولي» لنفسها وطرائق عملها بأنها لن تنشر كامل الوثائق المسربة، بخلاف «ويكيليس»، وستقوم بالكشف عن محتوياتها لاحقاً انتقائياً لما تراه مناسباً «في الأيام والأسابيع المقبلة». ووصف مدير المجموعة، جيرارد رايل، أهمية المادة المقرصنة بأنها «تتضمن كلّ وثيقة أصدرها مكتب المحاماة لفترة تمتدّ على نحو 40 عاماً».

وحصلت صحيفة ألمانية، «سود دويتش زايتونغ»، على الدفعة الأولى من الوثائق التي تقاسمتها مجموعة «الاتحاد الدولي… مع أكثر من 100 صحيفة ووسيلة إعلامية، وجهود تحقيق استمرت عاماً كاملاً شارك فيه ما يزيد من 400 صحافي سراً»، بحسب ما أفادت الجهات المسرّبة لها. طاقم كبير من موظفي مجموعة «الاتحاد الدولي» طار من واشنطن إلى ميونيخ، مقرّ الصحيفة الألمانية، لتنسيق جهود وزمان الإعلان. جدير بالذكر أنّ الصحيفة الألمانية عينها كانت تعاونت مع «ويكيليكس» في السابق في ملفات عدة منها تسريبات تخصّ وثائق لوزارة الخارجية السعودية، الصيف الماضي.

السؤال الأبرز حول محتويات الوثائق المسرّبة يتعلق ليس بالشخصيات والمؤسسات الضالعة في النشاط المنسوب لها فحسب، بل الأهمّ في التفاصيل التي حجبت في الإصدار رقم واحد. ما يعزّز تلك الشكوك هو التلميح إلى تورط كلّ من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس وزراء آيسلندا والرئيس السوري عبر أشخاص مقرّبين لهم، وكذلك «مسؤول مالي يُعتقد أنه من حزب الله وأشخاص يدعمون البرامج النووية الإيرانية والكورية الشمالية وشخصيْن يشتبه بأنهما يدعمان رئيس زيمبابوي روبرت موغابي». ولم يشمل الإصدار أيّ شخصية أو مؤسّسة أميركية.

وعليه لا يجوز استبعاد أهداف سياسية وراء الإصدار، حتى لو طالت بعض «وكلاء» أميركا كرئيس أوكرانيا بيترو بوروشينكو، الذي أضحى مادّة مستهلكة بالنسبة لواشنطن، وعبئاً على الدول الأوروبية.

الحكومة الصينية أصدرت ردّاً رسمياً نشرته يومية «غلوبال تايمز» قالت فيه «إنّ الحكومة الأميركية تبقى المستفيد الأكبر من وراء النشر». موقع «ويكيليكس» اتهم الحكومة الأميركية مباشرة «بتمويل» مشروع الوثائق، بالإضافة إلى المياردير جورج سورس، وأنه موجّه ضدّ روسيا والرئيس بوتين تحديداً.

في السياق ذاته، يأتي توقيت الإعلان في الذكرى الخامسة لوثائق «ويكيليكس» وما تبعها من نشر وثائق سرية تتعلق بالحكومة الأميركية، شيلسي مانينغ، ومن ثم إدوارد سنودن الذي أحدث هزات داخل المؤسسة الحاكمة لا تزال أصداؤها فاعلة وقوية إلى يومنا هذا.

من تداعيات وثائق بنما، أميركياً، ما تعتبره الأوساط الليبرالية أنه يصبّ في خدمة جهود التشديدات الرقابية والأمنية التي تمارسها «وكالة الأمن القومي»، محلياً وعالمياً بحجة محاربة الإرهاب والفساد.

بعض النُخب الفكرية الأميركية اعتبرت التوقيت متزامناً مع جهود الرئيس أوباما الحديثة لتطبيق الإصلاحات الضريبية على الأفراد والشركات التي تنوي نقل أعمالها خارج الولايات المتحدة، للتهرّب من الضرائب. واتهم أوباما في خطاب ألقاه يوم الثلاثاء، 5 نيسان، القوانين «سيئة التصميم… والتي أتاحت فرص الاتجار غير المشروع ونقل الأموال على الصعيد العالمي».

من المفارقة أنّ الولايات المتحدة عينها أضحت الملاذ المفضّل للاستثمارات والأرصدة الأجنبية، منذ زمن بعيد، «وجنة ضرائبية» للمستثمرين عبر العالم، نظراً لقوانينها وشروطها الميسّرة.

إلقاء نظرة عابرة على آليات عمل الشركات الأميركية، في الداخل الأميركي، يوضح حجم النفاق الرسمي والادّعاء بمحاربة الفساد. في خطاب الرئيس أوباما سالف الذكر، أوضح أنّ «التهرّب الضريبي هو مشكلة عالمية كبرى».

تشير البيانات الرسمية إلى أنّ شركة «آبل» العملاقة للإلكترونيات تحتفظ بنحو 187 مليار دولار نقداً «في حسابات مصرفية» خارجية أوف شور ، مما أتاح لها التهرّب من استحقاقات ضريبية بمليارات الدولارات، بممارسة علنية.

وكالة بلومبيرغ للأنباء المالية أشارت بوضوح إلى استخدام الأثرياء لولاية نيفادا كملاذ للتهرّب من دفع الضرائب. وقالت مؤخراً: «ترتبط بنما والولايات المتحدة بأمر مشترك: فكلاهما رفض المصادقة على معايير دولية من شأنها تعقيد مهام المتهرّبين من الضرائب وتحويل الأموال للتغطية على أموالهم». يُشار إلى أنّ نحو 100 دولة ومؤسسات عالمية أخرى وافقت مجتمعة، عام 2014، على فرض شروط مشددة على إفشاء معلومات بنكية بالمودعين، والوقفيات واستثمارات أخرى مختلفة، كانت من بنات أفكار مؤسسة اقتصادية أميركية تمولها الحكومة «منظمة التعاون الاقتصادي والتطوير».

يُشار إلى أنّ أشهر الملاذات العالمية، سويسرا وبيرمودا، وافقتا على الكشف عن حسابات زبائنها مع السلطات الضريبية المختصّة لدول متعدّدة، بيد أنّ أبرز رافضي للتوقيع على الاتفاقية كانت الولايات المتحدة وبنما.

الإصدار الأول للوثائق «يؤكد على عمق السرية المتبعة في بنما»، كما توضح مدير «المكتب الأميركي لمكافحة الفساد» بالوكالة، ستيفاني أوستفيلد. وأضافت أنّ بلادها ما هي إلا «منطقة سرية شاسعة كما هو وضع عدد من دول بحر الكاريبي وبنما. لا ينبغي علينا أن نكون ملعباً لأموال العالم القذرة، وهو ما أصابنا راهناً». الحكومة الأميركية، ممثلة بوزارة المالية، تشدّد من قيودها وإجراءات تعقبها للأموال بالعملة الأميركية في الخارج، بينما تتغاضى عن الاستثمارات الأجنبية لديها.

أميركا لا تخشى عاقبة من تجاهلها الصارخ للمعايير الدولية «ولا تطبّق العديد منها، نظراً لنفوذها الطاغي، وهو العنصر الذي يوفر لها عدم التقيّد»، كما أوضح أحد أخصائيّي الضرائب الدولية في واشنطن، بروس زاغاريس. وأضاف إنها بلاده «عملياً هي الدولة الوحيدة التي تستمرّ في تجاهلها المتعمّد. الآخرون مثل بنما حاولوا ذلك، لكن نفوذ بنما لا يبلغ مدى قريباً من السطوة الأميركية».

تجاهل أميركا للمعايير الدولية أدّى بها إلى تسويق نفسها لدى المستثمرين العالميين لإيداع أموالهم في مصارفها وشروط السرية المطبّقة داخلياً، وللملاذات الضريبية في قوانين ولايتي نيفادا وساوث داكوتا، واتباع سياسة «عدم المساءلة» مما يحصّنها من الكشف أمام مصادرها الأساسية.

للدلالة، أوضحت وكالة بلومبيرغ أنّ عائلة روثتشيلد العريقة في المجال المالي أسست «شركة وقفية» في مدينة رينو في نيفادا، يبعد مقرها بضعة أمتار عن شارع الملاهي الشهير. وعليه، تمضي «العائلة» بنقل ثروات زبائنها المودعة لديها من الأثرياء الأجانب من الملاذات المعتادة في بيرميودا إلى نيفادا، التي لا تطبق معايير الكشف عن الأصول المودعة. وكذلك الأمر في ولاية ساوث داكوتا الساعية لاستقطاب الثروات الأجنبية.

أوروبياً، تشتهر إمارة «أندورا»، الواقعة على الحدود الفرنسية الإسبانية بالتسهيلات المقدّمة للأموال المودعة للتهرّب من الضرائب. البعض أشار إلى انتشار اللغة الروسية في الإمارة بشكل واسع، إذ استقطبت العديد من الأثرياء الروس الجدد، وأضحت «تتكلم اللغة الروسية أكثر من الكتالونية الرسمية منذ سنوات».

في المحصلة، ترحب الولايات المتحدة رسمياً بنقل الأموال إليها «من دون أدنى مساءلة»، وتحميها بغلاف قوي لا يخترق من السرية الضرائبية، لا تتوفر في أيّ منطقة أخرى من العالم.

تجاهل أميركي محكم

عن البحث لتحديد المسؤولين عن إدارة الظهر للمعايير المصرفية الدولية تبرز للصدارة إدارة الرئيس أوباما وكذلك وزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلينتون، لاستثناء الولايات المتحدة من عقوبات انتهاك النصوص. فالرئيس أوباما تبنى اتفاقية تجارية مع بنما سمحت بموجبها للتهرّب الضرائبي. كما حثّ الرئيس أوباما أعضاء الكونغرس المصادقة على جملة من الاتفاقيات التجارية، إحداها أُبرمت مع بنما، تتيح بموجبها للأثرياء والشركات الأميركية إيداع ثرواتهم فيها للتهرّب من قوانين الضرائب الأميركية.

يُشار إلى أنّ الاتفاقيات والمفاوضات الدولية بشأنها تشرف عليها وزارة الخارجية الأميركية، ما يعزّز الاتهامات بتورّط المرشحة هيلاري كلينتون، التي قالت عنها صحيفة إنترناشيونال بيزنس ديلي، إنها جهدت عام 2009 في تسويق اتفاقية التجارة الحرة مع بنما وكولومبيا وكوريا الجنوبية، المتعثرة آنذاك، نظراً إلى قلق خصومها من عسر مهمة بنما تعديل قوانينها الضرائبية المخفضة على الاستثمارات الأجنبية، واختراق جدار السرية في قوانينها الناظمة للمعاملات البنكية، فضلاً عن تاريخ بنما الطويل لعدم التعاون مع شركاء أجانب.

وعقب مصادقة الكونغرس على الاتفاقية المذكورة، زهت الوزيرة كلينتون للإنجاز الذي قامت به «إدارة الرئيس أوباما والتي تعمل بكدّ مستمرّ لتعزيز انخراطنا الاقتصادي في عموم العالم، وما هذه الاتفاقيات إلا خير مثال على ذلك الالتزام».

المرشح للرئاسة وخصم كلينتون، بيرني ساندرز، عارض اتفاقية التجارة الحرة محذراً، عام 2011، من عسر إقناع أيّ امرئ بصحة الادّعاء حول توفير الاتفاقية فرص عمل إضافية للأميركيين، مشيراً إلى أنّ الدخل السنوي الوطني لبنما لا يتعدّى واحد إلى عشرة من الناتج الأميركي. وأضاف: «لماذا يتعيّن علينا النظر باتفاقية تجارة حرة قائمة بذاتها مع بنما، تلك الدولة الصغيرة… التي أضحت رائدة عالمياً في ما يتعلق بتسهيل تهرّب الأثرياء الأميركيين والشركات الكبرى من قوانين الضرائب الأميركية»؟

وفق هذه الخلفية، أغفلت «وثائق بنما» تحديد هوية الشخصيات والشركات الأميركية، وأوردت الصحيفة الألمانية التي اطلعت عليها أنّ هناك نحو 200 صورة لجواز سفر أميركي ضمن الوثائق «بعضهم يظهر أنه من فصيلة المتقاعدين الأميركيين الساعين وراء شراء عقارات في كوستاريكا وبنما… كما أنّ هناك نحو 3,500 من المستثمرين في شركات خارج الحدود… ونحو 3,100 شركة مرتبطة بمهنيين في الاستثمار خارج الحدود مقراتها في ميامي ونيويورك ومناطق أميركية أخرى».

بعض كبار الشخصيات الأميركية النافذة تحتفظ بعلاقات وثيقة مع الزوجين كلينتون، وتدير استثمارات مالية لشركات أجنبية. إحداها «مجموعة بوديستا»، التي يديرها الزوجين بوديستا في مجال «البنوك والتجارة والعلاقات الخارجية. توني بوديستا كان أحد ممولي حملة كلينتون الانتخابية، وشقيقه جون ترأس الحملة الانتخابية.

تضمّنت قائمة الأسماء، وفق بيانات مجموعة «الاتحاد الدولي» بعض الشخصيات الأميركية، ومنها من له علاقة بعالم الجريمة والاحتيالات المالية. أحدهم، بنجامين واي، رئيس شركة ضخمة في نيويورك تمّت إدانته العام الماضي بالاحتيال مع شريكه رئيس البنك السويسري، سيريف دوغان أربك. استطاع واين النفاذ من عقوبة اشد بدفع غرامة مالية كبيرة.

ارتضت السلطات القضائية الأميركية بتغريم عدد من كبار المتهمين بمبالغ رمزية مقارنة بما تسبّبوه من ضرر للآخرين والثراء الذاتي الفاحش. ليس هناك من إجراء أو عقوبة تحفِّز السلطات القضائية على إنزال عقوبات سجن طويلة، ما يعزّز المعتقد الشعبي بأنّ ذلك العدد الكبير من الأثرياء لديه نفوذ سياسي واسع داخل المؤسسة الحاكمة الأمر الذي يفسّر أيضاً حرص مجموعة «الاتحاد الدولي» على عدم تحديد أسمائهم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى