عيد بطعم النصر والحزن والألم
راسم عبيدات ـ القدس المحتلة
حلّ العيد في ظلّ حرب عدوانية همجية يشنها الاحتلال الصهيوني على شعبنا وأهلنا في قطاع غزة. سقط فيه مئات الشهداء من الأطفال والنساء والشيوخ والمقاتلين والمقاومين وحتى من الصحافيين والمسعفين والأطباء… عدا عن ألوف الجرحى والمنازل والمساجد والمستشفيات ومدارس الأمم المتحدة التي لم تنج من الدمار، في أبشع مجازر ترتكب في العصر الحديث، وبمباركة ومشاركة وتواطؤ من رأس المؤسسة الدولية المفترض أن تكون في مقدم مديني العدوان وقتل الأبرياء من الأطفال والنساء والمدنيين. فتلك المراجع الدولية تتشدق بالقيم ومبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها والدفاع عن الشرعية الدولية ومواثيقها واتفاقياتها، وفعل فعلها وحذا حذوها عربان النفط والكاز ومشيخاتهم المنهارة، فاقدة كرامتها وقرارها السياسي، فهم يختزلون القضية الفلسطينية والمقاومة إلى خلافاتهم مع حركة حماس والوضع الفلسطيني الداخلي.
رغم الألم والحزن في هذا العيد، إلاّ أننا للمرة الأولى في تاريخنا نذوق طعم النصر والحرية. بلى، غزة انتصرت بصمودها ومقاومتها وبالتحام شعبها مع مقاومتها، وبوحدتها الميدانية. كما انتصرت بدعم جماهير شعبنا، في القدس أولاَ حيث شعلة الانتفاضات الدائمة وصانعة الحدث، هي والداخل الفلسطيني الذي راهن العدو على أنه استطاع «أسرلته» وتهويده وإخراجه من دائرة الفعل والحركة الوطنية، ليكتشف أن فلسطينيي الداخل رأس الحربة في الدعم والإسناد والمقاومة. صنعوا الحدث بامتياز وفي جدارة واستحقاق، وهم أوصلوا رسالة ليس للعدو فحسب بل للمنهارين والمتخاذلين والقائلين بثقافة النعاج وإدخال الهزائم، مؤكدين على أنهم عرب فلسطينيون أقحاح منتمون إلى قضيتهم ووطنهم وعروبتهم. هم أهلنا وشعبنا في الضفة الغربية، وقفوا ليقولوا آن الأوان لإسقاط التنسيق، وآن الوان لكنس مشروع أوسلو الذي دمر شعبنا وقيمنا ونسيجنا المجتمعي وقتل فينا روح المقاومة والعزة والنخوة. وآن الأوان لمغادرة نهج المفاوضات العبثية التي جعلتنا ندور مثل حمير الساقية حول أنفسنا. مفاوضات عمقت جروحنا وأزمتنا وانقسامنا وزادت من ضعفنا وكانت مظلة وغطاء للعدو لكي يستكمل خططه ومشاريعه في زرع الاستيطان وتكثيفه على طول مساحة فلسطين التاريخية وعرضها.
شعب يشعر بالعزة والفخر ترد له كرامته، فرغم الألم والحزن على شهداء مجزرة الشجاعية، رأينا أهالي الشهداء يحتفلون بأسر المقاومة جنديّاً من جنود الاحتلال ويوزعون الحلوى، وبينهم من فقد عائلة بأكملها. هذا شعب الجبابرة، شعب «نموت واقفين ولن نركع». وما أنجزت المقاومة في غزة، وانتفاضة شعبنا في القدس والداخل والضفة، ما لم تنجح المفاوضات العبثية في إنجازه خلال عشرين عاماً إذ أذلتنا تلك المفاوضات ومرّغت كرامتنا بالأرض، وبات المناضل يشعر باغتراب في وطنه ويعيش حالة من القهر الداخلي، متلقياً الصفعة تلو الصفعة، غير قادر على الرد. احتلال يستبيح كل شبر وزقة وزاوية في أرضنا، يغتال، يعتقل، يدمر، يهدم ويغلق، ومطلوب منا عدم الرد! المرجل كان يغلي وينبئ بأن الانفجار آت لا محالة… بدأ العدوان على شعبنا الفلسطيني من الخليل تحت ذريعة خطف حماس ثلاثة مستوطنين وقتلهم، ولا تزال قضية اختفائهم وقتلهم مريبة، استغلها الاحتلال ليشن عدوانه على قوى المقاومة في الضفة الغربية، وهدفها ليس أمنيّاً وليس لإعادة المستوطنين المخطوفين، بل لفرض مشروع سياسي على شعبنا بعد تطويع إرادة المقاومة وكسرها، وكان واضحاً أن ذلك يستلزم كسر قوى المقاومة الفلسطينية وأجنحتها العسكرية وتصفيتها، لإمرار المخطط والمشروع السياسي، وظنّ الاحتلال متوهّماً أن ما يتعرّض له شعبنا هناك من حصار أضعف المقاومة وأنها ليست قادرة على الصمود والمواجهة، لكنه اكتشف أنه دخل مستنقعاً، وأن لديه فشلاً استخبارياً وعسكرياً كبيراً، فقدرات المقاومة العسكرية شهدت تطوّراً نوعياً على صعيد خلق معادلة توازن الرعب من خلال الصواريخ التي طالت معظم مدن العدو في الداخل الفلسطيني، وما أحدثت من خلخلة وتآكل في جبهة العدو الداخلية حيث الهلع والخوف من صواريخ المقاومة ووقوع أكثر من ثلاثة ملايين مستوطن ومحتل تحت مرمى الصواريخ الفلسطينية والتزامهم في الملاجئ. ولم تبق غزة هي المحاصرة، بل أضحت المقاومة قادرة على محاصرة دولة الاحتلال من خلال شل حركة مطار اللد وما يُحدث من خسائر اقتصادية كبيرة للعدو، خاصة في قطاع السياحة والفنادق والمطاعم وغيرها، ناهيك عن التخبط والخلاف وتبادل الاتهامات على المستويين السياسي والعسكري، وتضاف الى ذلك كفاءة المقاومين الفلسطينيين العالية وقدرتهم على تنفيذ عمليات نوعية خارج حدود قطاع غزة، حتى بلغ الأمر حد إطلاق طائرات من دون طيار.
إن الاحتلال الذي كان يُمارس دوماً عدوانه ويفرض شروطه، فَقَدَ في هذا العدوان تلك الميزة، فالممسكة بالدفة هي المقاومة التي رفضت التهدئة إلاّ بشروطها، ما ضاعف من غضب الاحتلال وتخبطه فلجأ الى ارتكاب المزيد من الجرائم والمجازر في حق المدنيين مستهدفاً مدرسة للأنروا احتمى فيها المدنيون، لأجل الضغط على المقاومة كي تقبل بالتهدئة، لكن الجماهير وأهالي الشهداء والجرحى المهدمة بيوتهم يقولون بصوت واحد: لا تهدئة من دون شروط المقاومة، ولا تهدئة من دون رفع الحصار عن قطاع غزة.
بلى، عيد يحمل بشائر النصر، وللمرة الأولى أشعر بنشوة النصر وبأن شعبنا يقترب من تحقيق أهدافه والانعتاق من الاحتلال. ما حدث في قطاع غزة إنجاز ونصر بامتياز يُبنى عليه مستقبلاً، وسيغير الكثير من المعادلات والتحالفات. إبداع المقاومة وصمودها علم يجب أن يدرّس لجميع حركات التحرر والثوريين في العالم، ليس على الصعيد الفلسطيني فحسب، بل على الصعيد العربي. هذا النصر رسالة إلى العرب العاربة والمستعربة بأن من يملك الإرادة والخيار قادر على صنع الانتصار، ومن لا إرادة ولا قراراً فمهما اقتنى من أسلحة متطورة لن يصنع نصراً بل مزيداً من الذل والاستجداء، فالصمود والنصر يحتاجان الى ثقة بالذات وإلى إرادة وقرار مستقل ورؤيا واستراتيجية واضحة، ومن يرهن قراره وحمايته للخارج لن يكون حراً يوماً، بل يبقى عبداً ذليلاً.
مقاومتنا في القطاع وانتفاضتنا في الضفة والقدس والداخل رفعت من معنوياتنا حتى أصبحت تعانق السماء. أعادت إلى شعبنا المعنويّات وبثت فيه روح المقاومة، بعدما اغتالها أوسلو والقائمون عليه طوال عشرين عاماً، إذ حاولوا كي وعي شعبنا وتقزيمه وتطويعه. لكن الشعب يهزمهم اليوم ويهزم مشاريعهم، ويحمل العيد رغم الحزن والألم طعم الانتصار.