غرائب الانتخابات الأميركية لاختيار المرشح الرئاسي
انشغال واشنطن بكلّ ما تمثله من قوى متعدّدة بتطوّرات السباق الرئاسي أضحى تقليداً طويل الوطأة، بيد ان ما يضفي عليه بعض الجدية، في الجولة الحالية، ارتفاع حدة المناورات السياسية داخل أروقة الحزب الجمهوري الذي أطلقت قياداته حملة شرسة لحرمان المرشح دونالد ترامب الفوز باغلبية بسيطة من المندوبين، قبل المؤتمر الحزبي المقبل.
سيتوقف قسم التحليل امام المناورات المتعددة، التي تجري في العلن هذه المرة، وسبر اغوار النظام الانتخابي في المرحلة الابتدائية، من خصائصها قيام الفائز بها حشد اغلبية الاصوات داخل المؤتمر لصالحه، وفي الجولة الاولى. مسألة «تعيين» المندوبين في المؤتمر يحق لهم التصويت اسلوب متبع منذ زمن بعيد، على الرغم من جملة التحفظات عليه نظرا للتناقض الواضح بينه وبين فوز المندوبين عبر اصوات الناخبين.
التدخل الأميركي في «الشرق الاوسط»
أصدر معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى دراسة تناول فيها تاريخ التدخلات العسكرية الأميركية في «الشرق الاوسط»، مستعرضا العوامل التي كانت تغذي انضاج القرار ونتائجها في كل مرحلة على حدة. واوضح انه «من أجل سبر أغوار العمليات العسكرية المحددة، ينبغي وضعها في إطار الاستراتيجية العامة الشاملة، مما يعكس المصالح الكامنة والتوجهات الرئيسة لتحقيقها». واضاف انّ «الاستراتيجية الأميركية الشاملة نحو المنطقة تبلورت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية واضعة نصب عينيها اعادة البناء والتأهب للدفاع عن نظام عالمي ليبرالي التوجه». وخلص بالقول انّ «الشرق الاوسط.. شذّ عن تلك الرؤيا».
العراق
ناشد مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية صناع القرار «ايلاء أهمية اكبر للحرب الصغيرة الدائرة في العراق.. لا سيما وان تنظيم الدولة الاسلامية هو الاشد وحشية واعنف حركة سياسية على مر التاريخ». ونبّه المعنيين الى ان داعش «أضحى يشكل مصدر تهديد على اكبر مراكز تصدير النفط العالمية، وايضا على استقرار الاقتصاد العالمي.. وعقب سيطرته على مدينة الموصل فإنّ اغلبية المواطنين الذين عانوا من تنظيم الدولة هم في العراق».
المملكة السعودية
أشاد معهد المشروع الأميركي بالعلاقة الثنائية بين واشنطن والرياض «على الرغم من مسلك السعودية نظراً لما تمثله من حليف رفيع المستوى». واستهلّ دراسته لطمأنة الفريق السياسي «الواقعي» الى انه «لا يتعين على المرء التحلي بمحبة السعودية كي يرى قيمة التحالف معها.. كما انّ الاشارة الى سجل السعودية المشين في انتهاك الحقوق الانسانية كمبرّر للتقرّب من إيران، لا قيمة له. وذكّر صناع القرار في الفريقين انّ جملة من التغييرات طرأت على السياسة السعودية «في اعقاب تعرّضها لردّ عنيف من تنظيم القاعدة داخل اراضيها»، اذ انّ «المعضلة الاساسية الماثلة من دعم المجموعات الاسلامية المتشددة لا تكمن في الرياض، بل في انقره والدوحة واسلام اباد».
مضائق تيران وصنافير
تناول معهد واشنطن لدراسات الشرق الادنى تخلي مصر عن سيادتها في جزر ومضائق تيران وصنافير الى السعودية مقابل «ما يقرب من 22 مليار دولار.. وقناعة جمهور المصريين بأنه تمّ التوصل الى مواءمة غير مستساغة مع «إسرائيل» حول مسألة الجسر» المزمع انشاؤه لربط مصر والحجاز برا. وزعم المعهد ان «القوات المصرية 1949 احتلت جزيرتي تيران وصنافير بعد ان وصلت القوات الاسرائيلية الى ساحل البحر الاحمر»، دون تقديم المسوغ التاريخي لما قبل حرب فلسطين. واضاف انّ «اسرائيل تنظر بعين العطف لاعلان السعودية التزامها بشروط اتفاقيات كامب ديفيد وابقاء الجزيرتين منزوعتي السلاح.. وانّ اكبر نقطة ضعف في الوقت الحالي هي المعارضة الداخلية في مصر». كما أشاد المعهد «بالعلاقة القوية بين مصر واسرائيل.. التي لم تُثِر اي اعتراض شريطة ان لا تؤثر الصفقة على النقل البحري والملاحة الخاصة باسرائيل». وختم بالقول انّ «السعودية واسرائيل يتشاركان وجهات النظر مماثلة.. اذ تشير آخر التطورات المتعلقة بمضيق تيران الى ان خططهما ذات المصالح المشتركة آخذة في الاتساع».
تركيا
سلط صندوق مارشال الالماني اهتماماته على حالة الاستقطاب الحادة في تركيا، مستنداً الى استطلاعات الرأي المتعدّدة التي أوضحت «هوة تباعد اواصر العلاقات الاجتماعية بين مؤيدي ومناصري الاحزاب المختلفة.. وعبر نحو 79 عن شعورهم بغربة الانتماء لحزب سياسي معين.. وترأس حزب الشعوب الديمقراطي قائمة المستطلعين بالاقلاع عن تأييده بنسبة 44 ، مقابل 22 لحزب العدالة والتنمية». واضاف انّ نتائج السلوك الاجتماعي العام جاءت مقلقة لناحية «عدم سماح الأهالي زواج مختلط لابنائهم من حزبين مختلفين او السماح للاطفال اللهو مع اقرانهم الذين ينتمي اهاليهم لحزب او احزاب اخرى». وخلص بالقول ان ارتفاع معدلات الكراهية «واقامة حواجز اجتماعية تعسر مهمة التعاون بينها، ان لم تكن مستحيلة».
سباق التسلح
انفردت مؤسسة هاريتاج بمطالبة الحكومة الأميركية معارضة المساعي الدولية «لوضع قيود على نظم الأسلحة الفتاكة ذاتية الحركة التي تملأ ساحات القتال»، معللة معارضتها نظراً لأنها «أحدث أسلحة تمّ تطويرها على مدى التاريخ العسكري التقني.. وتمثل آخر نماذج ما توصلت اليه دورة التواصل التقني.. من القوس والرمح وانتهاءا بالقاذفات وصواريخ كروز وطائرات الدرونز».
فاقد «الديمقراطية» لا يعطيها
يفاخر النظام السياسي الأميركي بفرادته في تطبيق نموذج الديمقراطية التمثيلية التي تؤدّي لانتخاب ممثليها تصاعدياً، وبنظام جمهوري يشارك في انتخاب رئيسه كافة المواطنين الذين «تنطبق» عليهم المعايير المرسومة مسبقاً. كلّ دورة انتخابية تقريباً تؤدّي لإقصاء أعداد متزايدة من الناخبين نظراً لعدم استيفائهم الشروط المشدّدة مستهدفة الاقليات بشكل خاص، ومنهم قطاع كبير من المفرج عنهم بعد قضاء فترة حكمه. توزيع الدوائر الانتخابية، في مناطق سكنية وكثافة معينة أمر دأب عليه الحزب الجمهوري منذ عهد الرئيس ريغان يصبّ في نهاية المطاف برفع قيمته وتمثيل الحزب وهي جديرة بالمراجعة.
«الصراع» الفريد الدائر حالياً بين قيادة الحزب الجمهوري والمرشح دونالد ترامب، له ما يبرّره. فالقيادة التقليدية أخفقت في مواكبة الإرهاصات والغضب الشعبي لدى قطاعات واسعة من المجتمع، وتخلفت عن تقديم «بديل» معقول لترامب الذي يمثل ويجاهر بولاء وسياسات ومكنونات الحزب الحقيقية: التعصّب والتزمت والإقصاء والتباس القيم وحتى الكذب والافتراء على العلن، فضلاً عن تمثيله الدقيق لشريحة كبار الأثرياء، عصب الحزب.
ترامب حث الجمهور الانتخابي على المطالبة بإدخال «إصلاحات» واسعة في تركيبة وتوجهات الحزب تحول دون التقهقر والانزواء. مطلبه يلقى صدى واسعاً لدى شرائح اجتماعية واسعة، بعضها وهي الاقلية، ادركت انّ جذر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية يكمن في السياسات النيوليبرالية المتبعة من قبل الحزبين والتي فاقمت التردّي الاجتماعي وضمور الطبقة الوسطى.
نتائج تصويت الناخبين وفق صيغة «الديمقراطية التمثيلية»، في الجولة الراهنة، تشير الى فوز كلّ من دونالد ترامب ومنافسه بيرني ساندرز في مرحلة التصويت الابتدائية او التمهيدية. في المقابل، فاز كل من المرشحين هيلاري كلينتون وتيد كروز بالمرتبة الثانية لكنهما حصدا اغلبية أصوات «المندوبين»، الذين سيشكلون الفيصل في مؤتمري الحزبين، على التوالي.
تناقض النتائج، بين التمثيل والمندوبين، هي احدى ظواهر الشذوذ الانتخابي في النظام الأميركي، القائم على تراكمات تجارب سياسية طويلة تمزج بين التصويت والتمثيل التقليدي، من ناحية، وبين الصفقات والمساومات التي تدور خلف الابواب المغلقة. يضاف اليها، في الجولة الراهنة، حالة الشلل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وما آلت اليه من تنامي امتعاض وقلق وغضب شعبي واسع يجري توجيه بوصلته ضدّ كلّ من له صلة بواشنطن، الحاضنة السياسية. وبدأت عوارض ضعف مسلمات النظام برمته تتجسّد في مشقة الطريق الانتخابي لمرشح مستقلّ لا ينتمي للسلطة.
في سالف الأيام من النظام الأميركي، أدّت صعوبة التنقل وعناء التحرك السريع بين المناطق المختلفة الى استخدام المندوبين وسائل تقليدية بامتطاء ظهور الخيل للوصول الى مكان انعقاد المؤتمر الحزبي لانتخاب المرشح الرئاسي، وربما لم تكن كتلة المندوبين على بينة مسبقة لهوية المرشح. بالمحصلة، استنبطت قيادات الحزبين تقديم لوائح ترشيح متعددة وعقد تفاهمات بين أقطاب متباينة قبل ان يرسوا الاختيار على مرشح رئيسي يحظى بأغلبية أصوات بسيطة.
تيسّر وسائل التنقل والاتصالات في العصر الراهن وفر سهولة المتابعة للناخبين. التزمت قيادات الحزبين المحلية، في ولايات متعددة، بممارستهما تعيين مندوبي الولاية المعنية دون الحاجة لاجراء انتخابات تمهيدية، واستمر الأمر ساريا حتى مطلع عقد الخمسينيات من القرن الماضي. تميز المندوبون بحرية الادلاء بالتصويت وليس وفق لوائح معدة مسبقا، وهم غير ملزمين بالتصويت لمرشح بعينه.
تحول كمّي
أدّت التطورات الاجتماعية في ستينيات القرن المنصرم الى تعاظم زخم الاهتمام بالمشاركة الانتخابية، بشكل عام، وشوهد تنامي عدد الولايات التي اعتمدت اجراء دورة الانتخابات التمهيدية في العقد التالي. وتمّت مقايضة المندوبين المحتملين بالتزامهم التصويت لصالح المرشح الأقوى في عدد اصوات الناخبين، في المؤتمر الحزبي، والتي عادة ما يطلق عليها عملية الاقتراع الأولى. بعض الولايات تشترط من مندوبيها التزام التصويت لذات المرشح لجولتي اقتراع تاليتين.
ليس مستهجناً ان يميل المندوب للتصويت الى جانب خياره الحقيقي وان تعارض مع توجهات قيادة الحزب. لحسم الأمر وعدم حدوث خروقات في اللحظات الأخيرة، استنبطت آلية تجمهر المندوبين للإدلاء باصواتهم علناً بين أقرانهم. يشار الى انّ المرشح ترامب تغاضى عن أهمية ومحورية «نظام التجمهر» المعمول به.
لا يسع المرء الا الاشارة لقواعد بالية لانتخاب المندوبين يستند اليها كلا الحزبين، تعود الى «العصور البيزنطية ومبهمة»، تتيح للقيادات المتنفذة إلغاء وإبطال مفعول أصوات جمهور لا ترغب به، خاصة في تدفق أصوات الأقليات في مقاطعات انتخابية يحتدم صراعهما حولها.
في هذا الصدد يبرز الى الواجهة جولة الانتخابات الرئاسية عام 2002، التي دشنت ولوج الرئيس جورج بوش الابن، وما رافقها من «تزوير بالجملة وإقصاء متعمّد لجمهور كامل من الناخبين»، مما مهّد الأرضية لصعوده المشكوك به، والذي لم يستطع الحزب الجمهوري حسمه إلا عبر المحكمة العليا بتركيبة أغلبية القضاة من المحافظين.
الانتخابات التمهيدية واختيار المندوبين
بداية، تجري الانتخابات التمهيدية حصراً في الولاية المعنية، وهي اشبه بمحاولات جسّ النبض الشعبي تمهيداً لبلورة خطاب الحزب السياسي والاستعداد للمنافسة بين الحزبين الرئيسيين. آليات انعقادها تتحكم فيه قيادات الحزبين المحلية، حيثما وجدت، بالتنسيق والتعاون مع سلطات الولاية المعنية التي تفرض رسوماً مالية لانعقاد الجولات تتعهّد بها قيادات الحزبين.
تشرف لجان الحزبين على إجراء الانتخابات، ومن ثم مفاضلتها لتصويت الناخبين، اما وفق المسجلين لدى قوائم حزبية معلنة، او توسيع الدائرة ليساهم فيها كلّ الناخبين من حزبيين ومستقلين. كما تتحكّم قيادات الحزبين المحلية بسنّ القوانين والإجراءات الانتخابية، وفق تصوراتها الخاصة، لا سيما آلية توزيع المندوبين والنسب المحددة لكلّ مرشح. لا شك انّ عقد المؤتمرات التمهيدية عملية تنطوي عليها كلفة مالية عالية، وقد تفضل القيادات المحلية الغاء انعقادها بالمرة، بحيث يتمّ «انتقاء» المندوبين وفق صيغة التجمهر بكلفة متدنية.
لتوضيح الآلية الانتخابية «الشاذة»، على المرء افتراض ولاية محددة عدد مندوبيها 50 والذين سيشاركون بالمؤتمر الحزبي. توزيع المندوبين على المرشحين يتمّ بعدة طرق: احداها تصويت كامل فريق المندوبين للمرشح الحائز على أغلبية الأصوات، ولو بأغلبية بسيطة، او التوزيع النسبي وفق نسبة فوز كلّ مرشح. البعض آخر من الولايات يُلزم كتلة معينة من المندوبين التصويت لصالح مرشح محدّد بينما يكافأ الفائز في دائرة انتخابية محدّدة بالحصول على 3 أصوات إضافية من المندوبين.
يدلي المندوبون بأصواتهم وفق الآلية السابقة في الجولة الأولى من الاقتراع، وفي الجولات التالية يطلق سراحهم للتصويت كيفما شاؤوا.
حقيقة الأمر انّ مشاورات مكثفة تجري قبل واثناء عقد جولة الاقتراع الاولى، داخل المؤتمر، تأخذ بعين الاعتبار التوازنات السياسية للقوى والمصالح المتعدّدة، وتشهد «تفاهمات» محددة لتوفير عناء الذهاب لجولة او جولات اخرى من الاقتراع. هذا في الأوضاع الاعتيادية، اما في حالة الانقسام والتشرذم والاستقطاب الحادّ داخل صفوف الحزب الجمهوري، للدورة الحالية، فإنّ دور المندوبين يتعاظم اكثر من أيّ وقت مضى وتبذل جهوداً مضنية لتفادي ايّ ثغرات او اختراقات غير محسوبة.
للمقاربة في المشهد الحالي، فاز المرشح دونالد ترامب بالانتخابات التمهيدية، بينما تنوي قيادات الحزب الجمهوري، المحلية والمركزية، الاصطفاف خلف منافسه تيد كروز على الرغم من «التزام» وفود المندوبين التصويت لجانب ترامب، في الجولة الأولى. عند هذه النقطة المفصلية، يلعب الوفد المؤيد لكروز دوراً استثنائياً بحيث يحرم ترامب من الفوز الواضح في الجولة الأولى، ويفرض ذهاب المؤتمر الاقتراع للمرة الثانية حيث يتمّ «تعويم» المندوبين، او إطلاق سراحهم، لاستقطاب العديد منهم الى جانب التوجه الرسمي.
في جولة الانتخابات التمهيدية استطاع الفريق المؤيد لتيد كروز حشد عدد اكبر من المندوبين عبر آلية «التجمهر»، التي تغاضى ترامب عن استغلالها مما أفقده مراكمة أوسع لمندوبيه، وأضحى كروز متفوّقاً عليه في عدد المندوبين.
بعبارة أخرى، فوز ترامب بالأصوات الانتخابية في ولاية محدّدة لم يتمّ ترجمته بعدد مماثل من المندوبين، بل حشد كروز مؤيديه وانصاره لجولة التجمهر الانتخابي التي أسفرت عن اختيار المندوبين.
من اللجان بالغة الأهمية في المؤتمر الحزبي، للفريقين، تبرز لجنة إرساء قواعد اللائحة الداخلية، التي تحدد شروط استيفاء المندوبين للتصويت داخل المؤتمر. الأمر الذي برع فيه كروز بحشد مؤيديه مبكراً في عضوية تلك اللجنة للتأثير على سنّ قوانين العضوية الجديدة خدمة له.
من ضمن القواعد «الشاذة» ايضاً، يوكل المؤتمر الحزبي المصادقة على الصيغة النهائية لاختيار المندوبين الى لجنة اعتماد الأوراق، والتي قد تمارس ضغوطاً إضافية لتعديل الكفة لصالح المرشح المفضل، تيد كروز، بالتلطي وراء ثغرات هامشية في اختيار مندوبي الولاية المحدّدة. حينئذ، يتقلص عدد مندوبي ترامب مقابل تصاعد في أعداد مندوبي كروز، ويمضي المؤتمر في عقد جولة اقتراع ثانية تتيح بموجبها للمرشح كروز الفوز النهائي.
التفت ترامب الى تلك الآلية مبكراً في الانتخابات التمهيدية وأطلق تهديدات موجهة لقيادات الحزب الجمهوري يعدهم فيها بالنزول الى الشوارع وإعلان حالة العصيان على التوجهات المنوي اتباعها لحرمانه من الفوز في الجولة الأولى من الاقتراع. وربما يتفاقم الأمر لدرجة عزوف مؤيدي ترامب المشاركة الكلية في الانتخابات الرئاسية العامة، تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، مما يؤشر الى فوز محقق لمرشح الحزب الديمقراطي.
لا شك انّ هناك «أسلحة» إضافية في جعبة قيادات الحزب الجمهوري لإقصاء ترامب او إلحاق الهزيمة به داخل المؤتمر، بيد انّ تداعياتها السياسية قد تفوق ميزاتها بأضعاف. المغامرة بانعقاد مؤتمر الحزب الجمهوري في ظلّ التوازنات الراهنة وتحدّي المؤسسة حالة الغضب الشعبي عينها تنذر باختلال الميزان لصالح القوى الشعبية للناخبين كأفضل تعبير عن تلك التوجهات.
في ما يخصّ كروز، قيادات معتبرة داخل الحزب لا تخفي مدى الحقد والعداء ضده، ابرزهم السيناتور ليندسي غراهام، الذي يعدّ الخصم اللدود لكروز في أروقة الكونغرس. لكنه اعلن دعمه لكروز بتحفظ بعد صفاء الاختيار على مرشحين اثنين، ترامب وكروز.
تتنامى تكهّنات الطرفين، ترامب والقيادة التقليدية، لإضفاء صيغة المنتصر قبل الولوج الى المؤتمر العام. ترامب، من جانبه يؤكد ثقته بنيله الأغلبية المطلوبة من أصوات المندوبين، 1237، معززاً قناعته بتصريح احد اكبر دهاة الحزب الجمهوري، نيوت غينغريتش، الذي صرّح حديثا بتوقعه نيل ترامب العدد المطلوب ضامناً بذلك ترشيحه من الجولة الاولى للاقتراع، ويتيح له فرصة التنفس للمناورة بحشد أكبر عدد ممكن قبل المؤتمر.
ان لم يحالف الحظ ترامب، وهو ما تسعى اليه قيادة الحزب بشكل وثيق، فانّ فرص تيد كروز تصعد عالياً، وهو الذي يعوّل على جولة اقتراع ثانية.
في المقابل، تشير أحدث استطلاعات الرأي أجرتها شبكة ان بي سي للتلفزة انّ ترامب ماضٍ في تتويجه مرشحاً عن الحزب الجمهوري، ولا يفصله عن المرشحة هيلاري كلينتون سوى نسبة بسيطة لا تتعدّى 2 من أصوات الناخبين.
داهية الحزب الجمهوري كارل روف رسم خريطة انتخابية بيّن فيها النواحي التي ينبغي على ترامب التركيز عليها من أجل الفوز على المرشحة كلينتون، في الانتخابات العامة.
الشرائح الواعية في الحزب الجمهوري قد تلتقط اللحظة وتصطف وراء ترامب، استناداً الى بيانات الاستطلاعات وتصريحات قادة حزبيين سابقين، على الرغم من التحفظات الراهنة، لاعتبارات الوفاء للحزب.
مندوبون فوق العادة
من خصائص الحزب الديمقراطي وجود شريحة معينة من المندوبين يطلق عليها «مندوبون فوق العادة»، جنباً الى جنب مع المندوبين بطريق الانتخاب. تعيين وتحديد عدد المندوبين أولئك يتمّ عبر قيادة الحزب المركزية، وتضمّ شخصيات سياسية وعسكرية وفكرية خدمت سابقاً في السلك الحكومي ضمن ولايات رئاسية للحزب الديمقراطي، وآخرين يشغلون مناصب عليا ومواقع حساسة في ولايات متعددة. كلينتون، بحكم موقعها ونفوذ آل كلينتون في اوساط الحزب، تتمتع بتأييد اغلبية عدد ذلك الرهط من المندوبين، مقارنة باغلبية الأصوات «الشعبية» التي فاز بها منافسها بيرني ساندرز.
المندوبون فوق العادة يشاركون أعمال المؤتمر الحزبي بكامل شروط العضوية، وفق الصيغة المستجدة في عقد السبعينيات كآلية وفاء لكبار القوم، والتي رمت آنذاك لحرمان المرشح جورج ماكغفرن الليبرالي والمعادي لحرب فييتنام من الفوز بترشيح الحزب. واستمرّ العمل بتلك الصيغة منذئذ لتعزيز توجهات القيادة الحزبية وتوجهاتها كي تبقي سيطرتها على مداولات وسياسات الحزب.
من سخريات الصيغة المذكورة راهناً انّ المرشح بيرني ساندرز والفائز بأغلبية أصوات الناخبين في ولايات متعددة يتخلف عن منافسته كلينتون في عدد المندوبين لصالحه.
تجدر الإشارة الى انّ تلك الفئة من المندوبين غير ملزمة بتأييد كلينتون، وفق اللوائح الداخلية سارية المفعول. من الجائز، نظرياً، ان تنقل تلك الفئة ثقل تأييدها من كتف لآخر وفق ميل اتجاه الرياح، كما حصل في انتخابات عام 2008 بين باراك أوباما وهيلاري كلينتون: الأول فاز بتأييد أغلبية أصوات تلك الفئة من النخبة، والثاني فازت بالأصوات الشعبية.
ذات الأمر، مندوبون فوق العادة، ينطبق على الحزب الجمهوري الذي وعت قياداته منذ زمن بعيد ضرورة استنباط آليات جديدة لضمان استمرار قيادة الحزب بايدي النخب التقليدية للمؤسسة الحاكمة. بيد انّ دور تلك الفئة ونفوذها في مداولات المؤتمر الحزبي تتخلف بعض الشيء عن نظيرتها في الحزب الديمقراطي.
تشكيلة وفد الولاية، ايّ ولاية، لمؤتمر الحزب الجمهوري تضمّ رئيس الحزب المحلي وعضوين من صفوف اللجنة الوطنية للحزب، بشكل تلقائي. وعادة ما يدلون بأصواتهم لصالح مرشح الحزب الذي فاز في ولايته في جولة الانتخابات التمهيدية.
يتشاطر الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، في تردّي مكانتهما عند الناخبين وعزوف القواعد الشعبية عن تقبّل السياسات والقوالب الجاهزة، نظراً لفشل سياستيهما في تبنّي وممارسة إصلاحات داخلية، سياسية واقتصادية. وعليه، يعتبر المرشحين المتناقضين، ترامب وساندرز، من خارج نفوذ الفئة الحاكمة والمسيطرة ويجاهران بعدائهما لتوجهات القيادات التقليدية.
كما يتشاطران في تصميم قيادات حزبيهما على استبعادهما مبكراً من نيل أغلبية أصوات المندوبين، وتطبيق قواعد صارمة نحوهما. تنامي مشاعر الغضب والإقلاع عن التأييد الأعمى لشرائح متعددة من الجمهور الانتخابي ينذر بتلقين قيادات الحزبين دروساً قاسية وربما تصيب النظام الانتخابي في الصميم تؤدّي الى صيغة تمثيلية أفضل من المسلمات الراهنة.