التحرش «الإسرائيلي» في الجولان في المكان والزمان: ثلاث تسويات على النار وثلاث نقلات استراتيجية

ناصر قنديل

إقدام حكومة الاحتلال على ما يزيد عن اتخاذ موقف أو إصدار بيان تصعيدي واستفزازي حول الجولان، والوصول إلى أعلى مراتب الاستحضار الإعلامي لقضية الجولان عبر عقد اجتماع للحكومة في الأراضي السورية المحتلة، وإصدار موقف يعلن الضمّ النهائي للجولان واعتباره جزءاً تاريخياً لن يخضع للتنازل من الأراضي التي يقوم عليها كيان الاحتلال، هو نقلة استراتيجية على رقعة الشطرنج التي يمثلها الشرق الأوسط خلال لحظة تاريخية تتزاحم فيها النقلات التي تمثل ثقل الدول والكيانات الكبرى المعنية باللعب الاستراتيجي فوق هذه الرقعة.

الواضح للمراقب أن تركيا واقفة على رصيف الانتظار بعد فقدان البوصلة بسقوط مشروع المنطقة الآمنة الذي شكّل محور استراتيجيتها لإمساك جغرافيا حساسة ومؤثرة في خرائط المنطقة، ومثلها مصر الخائرة بين دور القوة الوسطية القادرة على تجسير الهوة بين ضفتين إقليميتين تتيح ظروفها دخول خط الوساطات التي يحتاجانها، خصوصاً من البوابة السورية التي تحتفظ تجاهها بموقف خاص، وبالأخص بالتعاون مع روسيا التي تربطها بينهما علاقة خاصة. لكن كون الضفة المقابلة تعني السعودية التي صار واضحاً أنها نقطة الضعف المصرية تربك القاهرة، فتلبي ما تريده الرياض وتتموضع خلفها بالحد الأدنى من الالتزامات بانتظار تغير السقوف نحو المزيد من المرونة مع إقلاع قطار التسويات، بعد انتقالها من عربة القيادة إلى عربة الركاب، ولو كانت مخصصة لركاب الدرجة الأولى والشخصيات المهمة.

تقف السعودية متماهية مع الرؤيا «الإسرائيلية» في اعتبار المعركة المقبلة هي مع حزب الله، وفي السعي لإقامة نظام إقليمي قادر على تطويق إيران بالتحالفات، التي تضمّ تركيا ومصر وباكستان، والتي كانت القمة الإسلامية في اسطنبول نسخة أولى عن ضعفها وركاكتها، لذلك تقوم السعودية بالتخفف من أعباء حرب اليمن، وتسلم بدور الحوثيين المستقبلي في صيغة حكم تشاركية، بنصيحة «إسرائيلية»، وتخطوان معاً نحو تطبيع واسع وشامل من بوابة نقلة استراتيجية لم تحدث دوياً بحجم نقلة الجولان، لكنها تحمل أبعاداً أشد ثباتاً، هي مضمون ما حمله مشروع الجسر البري بين السعودية وسيناء وامتداده إلى حيفا مع أنابيب للنفط ومسارات لخطوط قطار حديدي سريع للركاب والبضائع، النقلة هنا على رقعة الشطرنج تقفل واحدة من وظائف مضيق هرمز لجهة تحكمه وتحكم إيران عبره بتجارة النفط العالمية، بعدما يصبح منفذ حيفا عبر هذه النقلة هو أضخم منفذ دولي لمبيعات النفط في العالم، وتحجيم لدور مضيق باب المندب تحسباً لمرتبات التسوية اليمنية، والسعي لتعويض مصر مالياً عن خسائر قناة السويس من آثار تحول حيفا إلى مرفأ بحري سعودي للنفط وتجارة الترانزيت.

تعتبر نقلة «إسرائيل» في الجولان تتمة للنقلة الأهم بخط تيران وصنافير الجزيرتين اللتين سلّمتهما مصر للسعودية بمباركة «إسرائيلية» ضمن هذا المشروع، الذي يشكل حلماً «إسرائيلياً» لتعويض الخسائر التي لحقت بها في الملفات الإقليمية، ولأن من مترتبات الخط ضمان الأمن، فالطبيعي أن يتوّج بخطة سلام، تحول دون تعرّض «إسرائيل» لخطر حرب مقبلة، وهذا يستدعي تفاهماً برعاية أميركية، يضمّ مصر وتركيا مع السعودية و«إسرائيل» لجلب السلطة الفلسطينية وحركة حماس معاً إلى تفاوض ينتهي بدولة فلسطينية في غزة وحكم ذاتي متفاوت النسب في مناطق الضفة، وتفاوض طويل المدى على الحدود والقدس واللاجئين، تحت شعار دولة فلسطينية وفق المبادرة العربية للسلام مع وقف التنفيذ. وفي هذا الإطار وحده يمكن للخط الاستراتيجي أن يُبصر النور، ولخدمة هذا التحول الكبير، لا يمكن لسلام أن يمنع الحرب ما لم يتضمّن تسوية للجولان ومزارع شبعا، وهذا ما يفسّر فتح ملف الجولان «إسرائيلياً» من هذا السقف العالي، فهكذا تحجز «إسرائيل» مقعداً على موائد التفاوض، يدشنها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بزيارة موسكو المستهدف الأول بالإعلان «الإسرائيلي» المكرّر بضمّ الجولان، وفي يد نتنياهو استعدادات من نوع إحياء قرار فك الاشتباك للعام 1974 وقبول وساطة روسية للتفاوض بين سورية و«إسرائيل» حول الجولان.

النقلة الثالثة التي تشكل تغييراً جيواستراتيجياً في الخارطة الإقليمية والدولية هي تلك التي أنجزت إيران وروسيا دراساتها التحضيرية وباتت جاهزة للإقلاع نحو التنفيذ، وموضوعها شق قناة تربط بحر قزوين بالخليج، بطول ألف كلم، تصبح بموجبه روسيا على مياه الخليج الدافئة، وتصير هي المورد النفطي المتمّم لإيران لحاجات الهند والصين عبر هرمز، بعشرة ملايين برميل تعوّض النفط السعودي الذاهب عبر حيفا إلى أوروبا، ويصير الخليج عملياً بحيرة روسية إيرانية، بعد هبوط أهميته الاستراتيجية في عيون واشنطن المرتبطة بعبور النفط السعودي الذي سيتحول مساره نحو حيفا، فيما تنجز إيران أكبر أنبوبي نفط وغاز في آسيا نحو كل من الصين مروراً بباكستان والهند ونحو البحر المتوسط مروراً بالعراق وسورية، ويشكل بلوغ النفط والغاز الروسيين عبر أنابيب قزوين ـــ الخليج، شرطاً كافياً لتحميلهما عبر أنابيب إيران إلى الصين والمتوسط عند الضرورة، لتكون القيمة الاستراتيجية للقناة وشبكة الخطوط، نشوء آسيا جديدة، تتجاوز الحاجة لتركيا والسعودية في جغرافيا النفط والغاز وشبكات الأنابيب.

يوحي التحرش «الإسرائيلي» بسقف عالٍ حول الجولان بنيات الذهاب إلى حرب، لكن الدقيق في الموازين، خصوصاً معادلة الردع الجديدة التي أطلقها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله حول تدمير ذاتي لـ«إسرائيل» بمخزونها من الوقود والغازات والمنشآت الكيميائية والبيولوجية والنووية في أي حرب مقبلة، يرجّح كفة توظيف التحرش للتفاوض على مدى راهن بالسعي لإحياء فك الارتباط الذي كان قائماً منذ العام 1974 قبل أن تحتضن «إسرائيل» جبهة النصرة وتضع مشروعها للحزام الأمني في الجولان، والطلب أن يكون الإحياء متضمناً في أي قرار أممي يكرس التسوية السورية، ومدى مقبل عنوانه الاستعداد لمفاوضات تحسم الوضع النهائي للجولان بالتزامن مع نضج طبخة فلسطينية «إسرائيلية» تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، برعاية سعودية تركية خصوصاً وشراكة مصرية شكلية.

محور المقاومة لا يستطيع التعامل مع التصعيد «الإسرائيلي» حول الجولان بصفته تصعيداً إعلامياً، ولذلك أعلنت سورية أن المقاومة خيار سيتصاعد، ولذلك ستكون الرسائل المتتالية تصاعداً في وتيرة المواجهة على جبهة الجولان لرسم توازنات القوة التي ستحكم أي مسار تفاوضي، والمقاومة معنية بمثل ما هي سورية، بمعنى خطر رسم خط أحمر أمامها حاولت «إسرائيل» فرضه يوم اغتالت الشهيد جهاد مغنية ورفاقه، وكان الردع في مزارع شبعا كافياً لإسقاطه. وإيران معنية مثل سورية لأن المستهدف بإسقاط القضية الفلسطينية كعنوان يبقى الشعب الفلسطيني، لكن في التوازنات الراهنة تستهدف إيران لمحاصرة دورها الإقليمي الذي يستمدّ شرعيته من رفع علم فلسطين الذي أسقطه الآخرون ورفعوا بدلاً منه علم «إسرائيل».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى