«قبل الجنون بقليل»… مروية مبتذلة لا تسلم مفاتيحها إلا لناقد مثقّف!
النمسا ـ طلال مرتضى
لإيجاد حلّ في أيّ متوالية عددية، لا بدّ من وضع الحدّ الأول كمرتكز أساس، ومنصة انطلاق للقبض على الناتج، والذي يأتي مكوّناً من مجموعة علائق متفاوتة ومتشعبة في حيواتها، كدلالة محسوسة مبنيّة على عدّة ركائز تفضي بالنهاية إلى الأجوبة المراد تشريحها، من أجل الإمساك بالخيط الرفيع الذي هو أس الحكاية.
في المروية «قبل الجنون بقليل» للروائي عبد الغفور خوى، والصادرة عن «مؤسسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع» البيروتية ـ 2016، لم تكن الحكاية مفتاح القصيد، والتي تنحاز ثقافياً إلى أدب اليوميات الذي انسلّ من تحت عباءة السيرة الذاتية وميثاقها، وهو التدوين اليومي، بشكل متصل أو منفصل بأسلوبية تعود لأنا كاتبها، المعني بما يدور في مخيلته أو في فلكه.
وهنا يصبح القارئ ملزماً أن ينحو صوب الحامل الثاني للمروية، ألا وهو اللغة، حين يعرف أن جلّ قصة المروية، «صابر» الشاب الريفي المتعلم الذي هجر بلدته، ذات الطبيعة القاسية، والمدقعة بالفقر، متجهاً صوب المدينة بحثاً عن سبيل للخلاص، في المجمل هي الحكاية الممجوجة، بتناسل مكوناتها، والتي باتت تشبه مكوّن الأفلام الهندية.
فبعد سقوط الحامل الأول، يعلن القارئ هجرته صوب التلذذ بحامل اللغة، لينجو بنفسه، حيث السرد الشائق، دراما القول، افتعالات النصّ القادر على تحميل ذاته فنياً، المترع بالاستعارات، والمتواريات، الإسقاطات والتي تفضي بالنهاية كمجموعة إلى حبكة منتقاة بعناية عارف.
يختال الآن في رأسي سؤال يعاجلني الطرح، ماذا لو يتلمس القارئ أياً ممّا سبق الإشارة إليه، سقوط الحكاية، وتقوقع اللغة حول مفرزها العادي؟
سؤال وجيه، يطرق باب المخيلة في مطلع الصفحة 20، ماذا يريد الكاتب؟ استنتاجاً، هو سؤال القارئ المباح، فالقصة الحال، سوف تنتهي بتماهي بطلها في المدينة العامرة، أو الصدم بين فطرية الريف وغباء المدينة، هو يقول: «احتوتني، سيطرت على كلّ أقاليم تفكيري، صرت متماهياً مع قصيدة المكان الماء، الشمس، الرمل، أغنيات البحر».
لكنها المدينة التي لا تقبل فضيلة التغيير، كيف وفارسها، قادم من مدرجات شعبة الفلسفة والمشبع بأفكار التغيير والأحلام الجميلة من رأسه إلى أخمص قدميه؟
كان عليه التوقف طويلاً أمام هذه النقطة، النقاء لا ينفع مع هذا الغول، بالمؤكد أن
تشيخوف كان محقاً عندما قال: «كلما زاد نقاء الشخص، كلما زاد تعاسة».
ثمة حدس ما في القول، يجرّ من يماشيه إلى حالة تمرّد، قد توصل مفتعلها إلى مفازات الجنون، وما الضير في الأمر، وصموئيل بيكيت قال: «إن الجميع يولدون مجانين؟» الفلسفة لا تتعارض مع أياً من هذه الحالات، كما الحب في قول شكسبير: «ما الحبّ إلا جنون؟».
وهنا تبدأ جردة حساب في مخيلة «صابر» الراوي الضمنيّ، لتنتهي باجتراع حامل ثالث هيولي ذاتي، من خلال استذكار دور الفرد في انطلاق عملية التغيير، الذي تحدث عنه توماس كارلايل في كتابه «الأبطال وعبادة البطولة» الذي لا يقيم فيه أيّ وزن للجماهير أمام قدرات الأفراد الخلاقين من أمثال دانتي وشكسبير ومارثن لوثر والرسول محمد. وهو مدماك أوّل وخارطة طريق، كما الخوض في غمار «مئة عام من العزلة» قد يفضي إلى بعض الحلول ولو كانت منقوصة، كان من الطبيعي أن يستنتج هذا، لأنه ليس بكامل، قد يخطئ وقد يصيب، تيمناً بقول المسيح: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولاً بحجر».
كيف وكلّ هذه المسائل تحتاج إلى مفاتيح، بل تحتاج إلى بحر يكتم فيه «صابر» أسراره، وهنا تنطبق حالته الآن على حالة «أوكتافيا» في رواية «عزازيل»، ولربما تشبه تفاصيل حكاية، النوتي العجوز في رواية «زوربا».
في الكثير من الأحايين، تتداخل لواعج الفرد في بعضها، فيذهب نحو مقارنات لربما لا قيمة لها في هذه المرحلة، وذلك حين تداخلت عند «صابر»، ملامح وجه حبيبته «عُلية» مع ملامح «ليليان» في مروية عبد الرحمن منيف «قصة حبّ مجوسية».
يسأل «صابر» في سرّه: هل تحتاج هذه المرحلة إلى غابور مولينار، عاشق غبرييلا السافل، المتهتك في رواية النار بين أصابع امرأة، الذي يظهر شجاعة ورجولة زائفتين على الأقل؟».
بيُسرٍ وصل «صابر» في نهاية المطاف إلى قناعة مقبولة، بأن هذا الحوت العظيم ـ المدينة ـ ليس كبلدته الفقيرة، وأنه لن يستطيع الوقوف أمام مدّه، فحلمه تكسر هنا، ولا بدّ من إعادة تركيب جديدة لتشكيل حلمه الأوّل، حلمه الأعظم، أتعرفون ما حلمه الأعظم؟ هو الذي قال عنه عناد الزكرتاوي في رواية «النجوم تحاكم القمر»: «أن أعيش في عزلة داخل كوخ في قلب غابة لا سبيل لمخلوق إليها».
رغم قناعته الكاملة بقول الياس نخلة لمنصور عبد السلام في رواية «الأشجار واغتيال مرزوق»: «إن الإنسان من دون الآخرين لا يساوي ذبابة».
أمام مروية مبتذلة الحوامل، متداعية اللوازم، تنحو في سهلها الممتنع إلى المباشرة، تستدعي الناقد العليم إلى تشكيل رؤية قرائية ممعنة في التفاصيل الدقيقة والعميقة، لأكثر من عشرين مروية أدغمها الكاتب في تلافيف مرويته، قبل النطق بحكم نقديّ صارم تجاه «قبل الجنون بقليل».