الشعر العظيم في «جناس عابر»… صار رسولاً!
النمسا ـ طلال مرتضى
الحصول على «بيضة الرخّ» ـ كتابه ـ حلم صعب المنال ومستحيل. أجزم بالقول إنّه كـ«حلم إبليس في الجنة» ـ كتابه ـ إسقاط، لأن «الطريق إلى جبل الشمس» ـ كتابه ـ وعرة ينقصها الدعاء، والصلاة الخالصة في «المقام المحمود» ـ كتابه ـ درءاً لمن «تشرب النمور من عينيها» ـ كتابه ـ الناعسات الهدل.
اعترف ملء الكلام، أنني لست قوياً بما فيه الكفاية. لكنني قادر على اصطياد «قمر أريحا» ـ كتابه ـ بنفثة حبر. الحبر شغلي، غوايتي، وصيرورة مستدامة لحكاياتي.
لست آبهاً بكل ما تقدّم، أنا أراودكم الخطيئة، سأوقّع هنا من دون وجل، وأقول ستأتي التي أشتهيها ـ كتابه ـ على متن «جناس عابر» ـ كتابه ـ للكلام، ولو كره صعاليك الشعر.
الشاعر الدكتور محمود عثمان، وقّع مجموعته الشعرية الجديدة «جناس عابر» الصادرة عن دار «نلسن للطباعة والنشر والتوزيع» ـ بيروت 2016. والتي تضمّنت عدداً من القصائد النثيرة، اقترب جلّها من الحالة الإيمانية الإنسانية التي سمت بها روح الشاعر، بعيداً عن سلطتَي التقعير والتقعيد نحواً. ولعلّها بدع تقصده الشاعر، حين قدّم قصائده بلبوس لا يشبه إلا أناه:
أبانا الذي في السموات
ليتقدّس اسمك
أعطنا خبزنا كفاف يومنا
من الكآبة
اجعلني زبوناً دائماً
لباعة الورود.
أرادها رسالة، تفضي عن مضمرها من دون تكلف، وعياً يعلم وبحساسية مفرطة على أيّ الأوتار يضرب. وهذا ما ترك خطابه جماهيراً حين نحى بسهله الممتنع ـ الفخ ـ بتوجيه نداء إلى الله:
أريدُ أن أوشوشك
ليس كمثلك شيء
أناديك مجازاً
أنت لليتيم أبٌ
للأرملةِ خليل.
أناديك مجازاً
افتح الدرفة
الزناة في دارك
هيّئ الطست والصابون والبخور
وجنودك الملائكة وطهّرهم
افتح الدرفة
الحجارة في أيديهم
وبيت رحمتك من زجاج.
إيذاناً بسقوط الكفّة لصالحه على حساب متلقيه الظمأ، عندما قبض على الأخير من خلال الدور الذي اجترعه في تصوير الحدث، ممسرحاً أفكاره ملء الحواس من دون ممانعة بسلطة الاستلاب:
المسيح على خشبة المسرح
المسمار يدندن
يقبل لحمك الحي.
لنقل مجازاً هو العبث التخييلي، المبنيّ اختزالاً ـ ضبط الفكرة ـ على حضور ذهنيّ متّقد ـ لحظة الوعي في القصيدة. مزج الواقعة مع الشعر ـ وهو الطرق الذي ابتدعه لتثبيت عظاته/ فكرته في ذهن قارئه.
تأسيساً نجح الشاعر بمماهاة قصيدته في الحالة العمومية، لتنجو بمصداقية دائمة، من خلال تناوله موضوعات تقترب من وجدان الناس وتنقر على لبليب وجعهم وأهوائهم، عندما حايث نصّه المنثور بما يشبه علائقهم ومكوّناتهم بكلّ صور اليومي المعاش وإسقاطاته، من دون تورية، لتبقى ملامسة الحال الإنسانية المسموحة:
أهبط من جبال الرغبة
تقودني شهوتي إليك
جائعاً
هيّئي القدح.
جسدي الخمر وروحي القربان
ترفعين ساقيك في الظلام يا حبيبتي
ضارعة إليّ!
أسقط من أعلى دمي
تفاحة إليك
أدخل الجنة وأقتل الشيطان.
ولأن اللغة لعبته ونافذته المشرّعة إلى الحرية، ظلّ يستثمرها حتى الرمق الأخير، مقتنعاً بقوّة الشعر العظيم. فتح «أوكازيون» الحكي ليكسر قيدها بالخطاب:
اشتهِ ما شئت يا فتى
وغازل مَن شئت
فالحياة فرصة أخيرة
أوكازيون.
كلّ امرأةٍ هي استعارةٌ
كل حبٍ جناسٌ عابرٌ
والعمر مجازٌ جميل.
«جناس عابر»، ديوان الحياة بتناقضاتها كلّها. نقدياً لم يحمل على كاهله المفتاح النقدي «التجاور» ـ كسر النمط ـ كي يتحاجج النقّاد حول مفاتن القول فيه. بل ترك لدلالاته أن تشي بما لم يقل:
لأنني شربت
من صدر أمّي
حليباً ممزوجاً بالعسل
أقول لكِ
كلاماً جميلاً يا حبيبتي.
في الكلام عبرة كانت تتماثل، تتضادّ في مواطن ما من مفازات القول، من دون إغفال بلاغتها الوصفية ـ توظيف التقنيات الشعرية، كالجناس والطباق والاستعارة ـ كحامل كلّي للقصائد:
في عصر الأنبياء المزيّفين
لم يكن مؤمناً بالمذاهب والطوائف
بل كان يمدّ يده مباشرةً
ويصافح الله.