رجا لـ«البناء» و«توب نيوز»: لا أمن لهذه الأمّة ولا أمان إلّا بانتصار فلسطين والإجهاز على الكيان الصهيوني
حاوره سعد الله الخليل
لم تعد تكفي المقابر ولم تعد تتّسع الملاجئ. لم توفّر طائرات العدو لا مدارس ولا ملاجئ ولا مساجد ولا كنائس. تحوّلت المدارس إلى ملاجئ فمقابر… لا عجب، ففي القاموس الصهيوني القتل كما التدمير والحرق. في زمن الموت تحوّلت برادات الخضار إلى برادات حفظ الجثث. أعيتها الكهرباء المقطوعة فتحوّلت إلى خزانات موت.
في غزّة لا لون يطغى على اللون الأحمر ولا رائحة سوى رائحة الدم. كلّ ما يدبّ على الأرض أضحى هدفاً «مشروعاً» لمن لا يعترف بالشرائع ولا بالقوانين… وحده السلاح صاحٍ يصرخ في وجه من به صمم. ولكن، يبدو ألّا حياة لمن تنادي. ربما يسمعون بعد سقوط الشهيد رقم 2000، وربما لن يسمعوا أو لن يستمعوا، لا عجب ولا استغراب في زمن أصبح فيه الإنسان مجرّد رقم في عدّاد، تمتلئ الصفحة فتُقلب، ويبدأ العدّ من جديد.
«البناء» التقت المسؤول الإعلامي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة أنور رجا، وكان حوار عن القضية الأساس، وعن المقاومة والبطولة والشهداء. عن غزّة العزّة، وعن صمود أهلها الميامين، وأيضاً عن بعض عرب متخاذلين ومتواطئين، وعن صهيونية بغيضة تظنّ أنّها التنين، ولا تعلم أنّ أمتنا صرعت في التاريخ أكثر من تنين.
بعد ما يقارب الشهر على العملية العسكرية، كيف ترون هدف العدو الصهيوني من هذا العدوان؟
هدف العدوان الأول والنهائي يكمن في ضرب روح المقاومة وثقافتها. العدو يرمي إلى أن يشعر الفلسطيني بأنه محبط ولا غطاء له، و بأنه معلق بين السماء والأرض، وبأنّ البحر من أمامه والعدو من ورائه. هذا الهدف المعلن والواضح، ومن يريد أن يقرأ ويحكّم عقله يدرك أن العدو الصهيوني بدأ يأخذ طابعاً متسارعاً في مسعاه منذ العدوان العالمي على سورية وعلى محور المقاومة. والمعركة متواصلة منذ عقود لكنها تكثّفت منذ العدوان على لبنان 2006، إذ واجه حزب الله العدوان البربريّ وانتصر بمعنى الانتصار الذي أفشل مخطّط العدو. ثمّ جاء ما يسمى بالربيع العربي، وكان مدبّر له. واليوم بدأت تتكشف الحقائق لمن لا يدرك أو لمن لا يقتنع إلا حين يلمس لمس اليد. فهيلاري كلينتون تتحدّث في مذكّراتها، ونتنياهو يعلن عن حلف «إسرائيلي» ـ عربي على خلفية ما يجري في غزّة، والهدف الانقضاض على رأس الرمح الذي يمثله الشعب الفلسطيني في المواجهة. لكن الرمح متعدّد الرؤوس، وقضية الصراع العربي ـ الصهيوني قضية أمة. ومن يتحدّث من منطق النزاع الفلسطيني ـ الصهيوني يدخل في الحماقات وعقلية الإفساد، وجرّبوا ضرب الحاضنة باستهداف سورية. فشلوا خلال ثلاث سنوات والآن عبر العدوان على غزّة.
غزّة منطقة منكوبة، إلى أيّ مدى الشعب الفلسطيني قادر على التحمّل؟
هناك من يقول إنّ العين لا تقاوم المخرز. والواقع يقول إنّ قتل آلاف الفلسطينيين والدمار الهائل ليسا إلا لتركيع المواطن الفلسطيني وإذلاله. الضريبة كبيرة والجرح نازف، ولا بدّ أن نوفر مقوّمات الصمود. ونمتلك جزءاً من تلك المقوّمات، وتحالف المقاومة قائم، والمعركة تقول إن المقاومة انتصرت وكسرت شوكة العدو وكبرياءه، وبدأ الحديث عن الجيش الصهيوني غير القادر على القتال، والجندي المدلل الذي يقاتل من وراء الدروع والدبابات. ومع بدء المواجهة يبدأ الصراخ. لقد سقطت نظرية الجيش الجبار العظيم الذي لا يقهر، لقد قُهر وأُذلّ وما زال يُقهر منذ حرب تشرين إلى اليوم. الشعب المضرج بدمائه المتماسك يقول نريد أن تستمر المقاومة وتعيد لنا أدنى حقوق الحياة بكسر الحصار، وهذا أدنى ما يطلبه.
عدد الشهداء يقترب من 2000 وما زال هناك من يحمّل الفلسطينيين المسؤولية، لماذا؟
بكل صراحة، لنسير في المعركة، علينا أن نشخّص واقعنا ونعرف في أيّ حقل ألغام نسير. الآن التشخيص أساس أيّ مواجهة. هناك من يقول إنّ المقاومة تدمّر ولا سبيل سوى المفاوضات والذهاب إلى أحضان العدو، وإنّ المفاوضات قدر تحت عناوين عدّة، ويتحدثون عن المقاومة من باب الخسائر المادية. صحيح أنّ هناك خسائر مادية كبيرة، لكنّ هناك ربحاً لشخصية الأمة والمقاومة، هناك ربح لفلسطين ويجب أن تكون قضية فلسطين في سلّم أولويات البرنامج الدولي ولو كان من بوابة الدم.
ماذا جلبت المفاوضات للفلسطينيين على الصعيد المادي؟
20 سنة من النفاق، من خراب إلى خراب، من تنازل إلى تنازل. القضية الفلسطينية من حق مطلق تاريخي إلى تجزئة القضية، إلى البحث عن الحفاظ على التنازلات، والعودة لحماية المربعات الأولى ونسيان القضية الكبرى، والبدء بالتفريط بالقضية، وبدأنا نتحدث عن تبادل أراض. وثمّة مَن يلمّع الأمور ويفلسفها، فالمفاوضات حالها من حال من يجرّب المجرّب، واليوم هناك من يركب موجة المقاومة لتحسين شرط التفاوض، ولكن بعد هذا الثمن الغالي يجب عدم السكوت عمّا يدبر لاغتيال رأس القضية الفلسطينية بِاسم المفاوضات، وعلينا تثمير الدم بالسياسة عزّةً لشعبنا بكل المعاني. وفك الحصار عن المعابر وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بسلاح المقاومة وتعزيزه بل تعزيز تحالف المقاومة. الغريب أن نجد من يسعى إلى إجهاض هذا الانتصار عبر محاور تتنافس من بوابة وقف العدوان على غزّة، أن يكون له حصة من دمنا وتسوية ما يجري سواء المحور السعودي المصري «الإسرائيلي»، أو التركي القطري الذي يغازل حماس. والسلطة في رام الله تبدو أكثر المستفيدين عبر إخفاء أوراقها القديمة والانطلاق من جديد تحت شعار المقاومة.
انتقد الملك السعودي الصمت غير المبرّر إزاء ما يجري في فلسطين، كيف تلقيتم خطابه الأخير؟
الخطاب مريض لرجل مريض قرأه بالنيابة عنه أحدهم. خطاب ينسجم مع سياسة آل سعود وحجمهم وتحالفاتهم وتواطئهم على فلسطين وطعناتهم لسورية وتمحورهم مع محور الإرهاب التكفيري. وفيه من المرض والغباء الشيء الكثير.
تقول الصحافة الألمانية إن السعودية تطالب آلاف الجنود المصريين بالمرابطة على حدودها مع العراق وحمايتها من «داعش»، أين الجيش السعودي وأين صفقات الأسلحة؟
هذا ثمن المال السياسي. وهم يعرفون أن جيشهم المرفّه ومن الداخل خاوٍ، قائم على تكديس الأسلحة. يجري الحديث عن 63 مليار دولار كرابع جيش من حيث التسليح، أي بعد أميركا والصين روسيا، في ظل ثقافة عسكرية قائمة على التبارز والتباهي بالحجم العسكري وصفقات السماسرة والعائلة المالكة كعملية غسيل أموال وغياب العقيدة القتالية والعسكرية الواضحة، وغياب العدو الواضح الذي يؤدّي إلى تخبّط الجيش، فتارة يصبح عدّوه اليمن وتارة مصر، وطوراً سورية، وعندما يتوه القرار السياسي خرج مرسي زعيم الإخوان المسلمين ليرسل الجيش المصري ليقاتل في سورية، وعندما يتناغم النظام المصري مع السعودي لاستثمار الحاجات الاقتصادية للشعب المصري يختل الوزن والتوازن، ويحمي آل سعود أنفسهم بدماء الجنود المصريين. فبعد إشعالهم الفتنة في العراق يعلمون أن النار ستمتد إليهم ويدركون أنّ جيشهم خاوٍ غير قادر على المواجهة.
أعلنت تركيا أن حماس قدّمت مطالبها للتهدئة، هل أصبحت أنقرة حامية الحمى ورافعة راية فلسطين الوحيدة؟
من المؤسف أن حماس ما زالت تتعاطى مع هذه الكيانات السياسية على أنها مرجعيات قادرة. نظام الإخوان المسلمين على المستوى السياسي سقط، وعلى المستوى الشعبي سقط أيضاً، ومسرح العبث الممتد من دافوس إلى باخرة مرمرة وكل الدور التركي أصبحا واضحين. وحين الإعلان عن أسر الجندي قبل اتضاح الحقيقة أول من قال سيسعى إلى إطلاق سراحه كان أردوغان رجل أميركا في المنطقة، ويداه ملطختان بدماء الفلسطينيين والسوريين. إنّ رهان حماس على تركيا خاطئ لا بل قاتل، وهذه العلاقات أدّت إلى مزيد من التشرذم في القضية الفلسطينية، لا بل إنّ الهجوم على غزّة استخدمه البعض بذريعة الهجوم على حماس، واستطاعوا لعب هذه اللعبة. الهدف ضرب المقاومة وتحطيم إرادة شعبنا وفكّ علاقة الشعب مع قضيته، وعلى حماس أن تقوى بشعبها وتعيد قراءة المشهد وترتيب أوراقها وتموضعها، وأن تعود إلى محور اللمقاومة وهذا يستلزم بناء جسور ثقة، ليس في الخطاب السياسي فقط ، بل عبر خطوات على أرض الواقع ومواقف واقعية بالسلوك والممارسة.
في القاهرة تستمر المشاورات الفلسطينية، ما هي أبرز المطالب؟
موقفنا من أداء السلطة في هذا العدوان ومن النظام في مصر على خلفية الحرب واضح، عندما كان يذهب خالد مشعل إلى القاهرة في مباحثات ما يسمى بالوحدة الوطنية والمصالحة وفي مباحثات 2008 2009، كان يقول «أنا لا أذهب إلا إذا كانت الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة مشاركة، فنحن حلف واحد»، أمّا الآن، ونتيجة المحاور، وربما من حسنات الأمور، أننا لم نذهب في ظل هذه الضغوط، خصوصاً في ظلّ الخشية من خلخلة الموقف الفلسطيني في ما يسمى بالورقة الفلسطينية. على رغم أن الورقة الفلسطينية فيها مطالب وحقوق أقل ما يمكن تلبيتها، فهل يقبل بها العدو؟
العدو سيواصل عدوانه بطريقة أو أخرى، ويريد في النهاية اتفاقية معابر تضمن له السيطرة. يريد اتفاقاً يضمن أهدافه. هذا ما يفكر به العدو عندما يسيل المال السياسي القذر وبأيدي قذرة، معنى ذلك الدخول إلى الهيمنة على إرادة الناس وإحباطهم والسيطرة على لقمة عيشهم بالمال الساسي وابتزاز السكان في قصة ترميم منازلهم وفرض رقابات دولية لمنع إدخال السلاح، وزرع مجسّات إلكترونية وحتّى سياسية للتجسس على المقاومة.
لماذا لم يرسل العدو الصهيوني وفده المفاوض إلى القاهرة؟
العدوّ ليس مأزوماً، هو مرتاح ولديه حلف سياسيّ. صحيح أنه مني بخسائر وهو في وضع صعب، لكنه في المقابل يحظى بحلفاء من الأنظمة الرسمية العربية، والوقت ليس ضاغطاً عليه، ويريد أن ينجز أكثر بالسياسة ويستمر عسكرياً. يريد أن يفاوض بالنار قبل أن يضع شروطه على الطاولة.
هل مصير القيادة الصهيونية في خطر بعد الفشل في غزّة؟
الخلافات بين تيارات العدو تشير إلى أن نتنياهو أمام «فينوغراد» جديدة. نتنياهو دمّر وقتل، لكنه لم ينجز ما ذهب إليه، أي تحطيم إرادة المقاومة. الخوف الآن ليس من نتنياهو، فمصيره في أيدي حلفائه العرب، ومن ألقى له بطوق النجاة، أي الحلف الرسمي العربي مع غطاء أوروبي ـ أميريكي، كل ذلك يجعل نتنياهو مطمئناً نسبياً. لكن في المعايير الاستراتيجية، نتنياهو خسر، وهيبة الكيان كسرت في المعركة البرّية.
لم يؤتِ إطلاق الصواريخ على المغتصبات الصهيونية ثماره بمعنى إسقاط قتلى أو تدمير مواقع، لماذا؟
العبرة في المعركة البرّية. هذه الصواريخ أثارت الهلع والفزع والرعب في نفوس الصهاينة، هم يعلمون أنّ هذه الصواريخ مؤثّرة، لكنّ هناك قسماً غير فاعل نتيجة البحث عن المدى على حساب الرأس المتفجرة. المعادلة الاساس في المعركة البرّية. وجوهر الصراع يحتّم عليك بأن ليس مهماً أين تصل قذائف المقاتلين، بل أين تصل أقدامهم. وهذا ما كان يفعله الفييتناميون مع أميركا.
ثمّة دعوات لتقديم «إسرائيل» إلى محكمة الجنايات الدولية، إلى أيّ مدى يمكن الوصول إلى تلك المحكمة؟
من الجيد أن يُعمل على ذلك. وعلى رغم أن كثيرين ممن يدركون أنّ ذلك لن يأتي بنتائج، فإن الدم الفلسطيني ليس بحاجة لأن يستنزف مرّة أخرى. هذه المحاكم تستثمر لجرائم توظّف سياسياً، كما حدث مع اغتيال رفيق الحريري في لبنان. استنفر العالم ومجلس الأمن، أمّا الشعب الفلسطيني الذي يُغتال كل يوم، فلا أحد من هذا العالم يحرّك ساكناً إزاءه. ليساوي المجتمع الدولي 10 آلاف شهيد جريح بدم رفيق الحريري. هذه من المفارقات في القانون الدولي.
فلسطين غداً وما بعد غد، كيف يراها أنور رجا؟
لا أمن لهذه الأمة ولا أمان إلا بانتصار فلسطين وإنهاء هذا الكيان الصهيوني. وعندما تتكرّس هذه الثقافة في السلوك والتربية والأخلاق والإعداد بكل المعايير، حينئذ فقط تنتصر فلسطين. فكل المعارك تدار لينتشي العدو، لكن شعبنا سيبقى رأس حربة في مواجهة المشروع الصهيوني، وستبقى فلسطين عاصمة كل مواطن عربي مقاوم ومناضل.