سرّ مؤلم!
لم آبه للجرح البالغ الذي أصاب قدمي. وقفت بسرعة ورحت أركض كمن يهرب من بشاعة الحقيقة. كلما زاد شهيق بكائي، زادت سرعتي في الجري. ركضت لما يقارب ساعةً من الذنب. لم أحدّد وجهتي بل تركت العنان لطريقٍ يأخذني أنّى شاء، ففكري كان أكثر انشغالاً باستعادة المشهد الذي أوقعني دهشةً بينما كنت أتسلق سور بيتٍ وأفضح سرّه.
تبّاً لمهنةٍ تغلّبت على مبادئي وجعلت حشريتي فريسةً سهلة اصطادها قلبي وطوّعها وفق أهوائه. ها أنا أتحوّل من صحافيّةٍ تسعى وراء الخبر إلى امرأةٍ عاشقةٍ اتحدّ عنصرا الحبّ والحشرية في داخلها ليجعلاها جاسوسةً تتتبّع خطوات زميلٍ أحبته وحيّرها غموضه.
رغم أنّنا كنّا نقضي معظم ساعات عملنا في المكتب عينه ونتجاذب أطراف الحديث طوال الوقت، إلّا أنّني لم أستطع يوماً كسر حاجز تكتّمه كلّما حاولت التطرق إلى الحديث عن حياته الخاصة. كان شديد اللطف ومتّقد الذكاء في آنٍ. يعرف تماماً كيف يفلت من كمائن ينصبها خبث أنثى تملّكها الفضول.
لم يكن من صنف الرجال الذي ظننت أنني أفضّله، بل كان مختلفاً في غموضه وآسراً في لباقته وخاطفاً في هدوئه. لعلّ كونه هدفاً صعباً كأحجية تتطلّب الكثير من الصبر والدهاء لحلّها هو ما جعله يسيطر على أفكاري لحدّ فاض ذهني عن حمله، فتسرّب ذكره إلى قلبي، لأجدني بعد شهورٍ من التكهن أصِل إلى مرتبةٍ من التعلّق تؤهلني للانتقال إلى مرحلة الهوس.
منذ بضعة أيام، كان يجلس خلف مكتبه عاقد الحاجبين، وهي عادته كلّما انكبّ على كتابة مقالٍ جديدٍ يهاجم فيه مسؤولاً مرتشياً أو جهةً متخاذلة عن القيام بواجبها. أحببت إيمانه وإخلاصه لمهنته. كنت أرى في تمسكه بمبادئه ودفاعه المستميت عنها رجولةً فقدها كلا الجنسين من العاملين في مجال الصحافة والإعلام. هذا النوع من الرجال الذين يعشقون قضيّتهم ويخلصون لها هم الأكثر ائتماناً على القلوب. وكم تمنّيت لو أنني كنت قضيته الوطنية التي يغدق عليها عطاءً وحبّاً واهتماماً. لكن ربما لو كان بادلني الاهتمام أو كان أكثر شفافيةً في تصرفاته وكلماته، ما كان ليشغل بالي ويتحدّى عنادي.
بينما هو مستغرقٌ في مقاله تفكيراً وتحليلاً وتدقيقاً، كنت أنا أيضاً مشغولةً في التفكير به وتحليل غموضه والتدقيق في ملامحه. فإذ بي أسكب فنجان الشاي الأخضر الذي كنت قد طلبته ولا أذكر أنني رأيت أحداً يدخل ويضعه أمامي. لم يكن عنصر المفاجأة وحده ما دفعني إلى الصراخ، بل شاركته سخونة الشاي التي أحرقت يدي وجعلتني أفيق من أحلام اليقظة على احمرارٍ جعل أصابعي تنتفض ألماً.
بالطبع، وبعدما قطع صوتي تسلسل أفكاره، ترك كرسيه وبدأ يتقدّم نحوي كما كان ليفعل أيّ زميل. ولكي يزداد الطين بلةً وأزداد أنا بلاهةً، وقفت على عجلٍ مطَمئِنةً إياه وشاكرةً قلقه، فإذ بي أضرب رأسي بحافّة نافذةٍ كنت قد فتحتها ونسيت أمرها. ما عدت أعرف، أأبكي لشدة ألمي أم أضحك لشدّة غبائي. حاول إخفاء ابتسامته ولكنّه أطلق سراحها بعدما رآني أنا المصابة أضحك واضعةً يدي السليمة على رأسي وأنفخ على الأخرى علّها تبرد قليلاً.
ساعدني في إعادة المكان إلى هيأته الطبيعية وأجرى لي بضع إسعافات أولية تمنّيت لو كانت عمليةً جراحيةً دقيقةً تستغرق ساعاتٍ وساعاتٍ وساعات. ومجدّداً يحدث ما يوقظني ويدمّر جمال اللحظة. يرنّ هاتفه فيجيب، ثم يحمل مفاتيح سيارته ويذهب على عجل. لم أعرف ما الذي قيل له حتى سُرق لون وجهه وقُلِب حاله رغم أنني اتصلت به بعد ذلك، ليجيبني أنّه مجرّد حادثٍ صغيرٍ حصل لأحد أفراد عائلته من دون أن يحدد مَن أو ماذا أو كيف.
لم تكن إصابتي يومذاك أو إصابتي اليوم بالأمر الجديد، فقد اعتدت أن أتسبب لنفسي بمثل هذه الجروح والحروق. وكم أتمنى لو أنّها بقيت سطحيةً ولم تصل أعماقي.
لست بغباءٍ يجعلني أتعلّق بشخصٍ لا يبادلني أقل شعور، ولكنّني كنت على يقين أنّ هناك ما يمنعه عنّي رغم أنّه أحياناً كان يستفيض في الحديث معي لأشعر أنّنا بتنا أكثر قرباً. لكنه، وعلى حين فجأة، يتبدّل ويلملم نفسه ويعيد الإطباق على عالمه. لم أعد أحتمل ضجيج الأفكار في ذهني وصراع المشاعر في داخلي. إعجابي به عكّر صفوه قلقي من مجهولٍ يبعده عنّي. لا بدّ أن تكون هناك امرأةٌ أخرى تقيّده وتمنعه من الخوض أكثر في إحساسه تجاهي.
ربما كانت هذه الفكرة أكثر ما أزعجني ودفعني إلى اتخاذ قرارٍ حاسمٍ بكشف هذا اللغز. بتّ أتخيّل تفاصيل وجهها، صفاتها، وظيفتها، وكلّ ما قد يميّزها ليجعله يختارها هي. وبعدما استطعت بمكرِ امرأة غيّورة أن أعرف عنوان سكنه، قصدت المكان مرّات عدّة حيث كنت أجلس في سيارتي لساعةٍ أو أكثر بانتظار أن تأتي شابة فائقة الجمال ترتدي أحلى الثياب وتدخل إلى منزله. إلّا أنّ هذا لم يحدث.
أخيراً، تجرّأت اليوم على اتخاذ خطوةٍ جديدةٍ في رحلة البحث والتحرّي تلك، فتسلقت السور الذي أحاط بمكان سكنه. ما هي إلّا بضع دقائق حتّى فُتح باب المنزل، وإذ بطفلةٍ صغيرةٍ تحمل طابةً حمراء تخرج منه، ويتبعها هو. لم يكن احتمال أن يكون متزوّجاً قد غاب عن فكري، أو أن يكون له أطفالٌ صغار، ولم يكن ذلك ما جعل شعوري يتدنّى من مرتبة الصدمة المرفقة بالخيبة إلى قاع الندم المرفق بتأنيب الضمير.
كانت ترافقهما مَن مِن الواضح أنّها زوجته ووالدة الصغيرة. لم تكن الشابة ذات الوجه الجميل والجسد المغري التي تخيّلتها حبيبته، بل كانت امرأةً أضعفَ المرض بنيتها وجعلها هزيلة الجسد، شاحبة اللون، حليقة الرأس يغطيه وشاحٌ لا أظن أنّها من قوِي على ربطه.
ركضت الصغيرة نحو درّاجتها فسار خلفها وهو يقود الكرسي المتحرّك الذي جلست فيه زوجته. خانتني قوّتي فهويت أرضاً. لم أهتم لجرح قدمي ورحت أركض كما لم أفعل يوماً وكأنني أهرب من ذنبٍ كدت أقترفه أو لربّما من مشاعرٍ ما كان يحقّ لي أن أشعر بها.
وصلت إلى شاطئ البحر حيث جلست لساعاتٍ ألوم نفسي وأعاتبها. عزائي الوحيد أنّني لم أكن أعرف سرّه، وذنبي أنّني أصررت على معرفته لأكتشف أنّني كنت أنازل امرأةً أضعف من أن تحارب. أخطأت لأنّني أردت فتح مدينة لم يرد أهلها أن تفتح أبوابها، بل فضّلوا أن يعيشوا ويموتوا فيها بهدوءٍ وسلام. ليتني عرفت بحسّي الصحافي ذاك أنّ الخبر الذي سعيت وراءه غير صالح للنشر، تماماً كبحّارٍ يغامر بسفينته ومَن على متنها طوال اليوم ليعود إلى ملكه ليلاً بحوريةٍ فيحصد عطاياه، من دون أن يعرف أنّها تموت لحظة تغادر بحرها، لا بل تتبخّر جثتها بعد منتصف الليل.
آلاء ترشيشي