سياسة الحجج… سياسة أميركا
سناء أسعد
يكاد كلّ شيء ينفد… وكلّ شيء يستنزف وتنتهي صلاحية استخدامه… وإعادة تدويره وتكريره، إلا التعبئة المتعلقة بالأحقاد والإجرام، يبقى هناك دائماً فائض في المخزون وأجزم أنه لن يكون هناك حاجة لاستخدام الاحتياطي منه ما دام المخزون وفيرا يتكاثر بالجملة بل يتفرّع ويمتدّ بطريق النمو المستمر. فهما الأمران الوحيدان اللذان لا يثيران الجدل ولن تكون هناك حيرة في كيفية تعبئتهما وفي كيفية الحفاظ على مخزونهما بتوازن مستقر… لأنّ أمر تعبئتهما وحفظهما مبرمج بشكل تلقائي في طبيعة الفكر الوهابي والإخواني، ولا يحتاجان إلى تلقين أو لتقنية عالية.. كما لا يحتاجان للبحث في العمق لإظهارهما او اكتشافهما، بل هما من أكثر الأمور التي نلمس فيهما طبعة الحقيقة الأكثر وضوحاً في تماشيها مع هذا الواقع المرير الذي فرض علينا من أجل مجموعة من المصالح المتوحشة التي لا حدود ترسمها ولا طريق لنهايتها، بل هي تسبح في الفضاء الذي يمكن أن ينتهي فيه كلّ شيء إلا الصراعات المتشابكة المعقدة في انفتاحاتها على طرق القتل الممنهج والتدمير المخطط بأساليب تتميّز باستراتيجيتها الفعالة… وتميّزت بإظهار سياسات فريدة من نوعها لم يُشهَد لها مثيل من قبل على الأصعدة والمستويات كافة في الساحات الاقليمية والدولية…
يبدو أنّ اللاعب الأساسي، والمقصود هنا أميركا، تمرّس وتفوّق بتفصيل الأقنعة التي تلائم تبدّل أوجهه وتوجهاته تبعاً لما يتطلبه دوره التمثيلي في كلّ مرحلة، تغيير في الأساليب، دون أن يكون هناك تغيير في الهدف المركزي والمتمثل بانهيار دور دول لمصادرة قرارها وإطاحة استقلالها وإنعاش دور دول أخرى بطرق تصبّ في مصلحتها ومعها مصلحة «إسرائيل» بالدرجة الأولى…
طبعاً ذلك تطلب عملية تشريح لم تحتج الى الكثير من الخبرة لمعرفة نقاط ضعف عبيدها وتسجيلها كنقاط قوة في مرمى أهدافها… تركيا والسعودية وقطر التي اعتبرت نفسها حليفة لاميركا لا مجرد عبيد أو دمى لدرجة أنّ الأوهام جعلتها تعتقد أن اميركا تستمدّ قوتها من قوة هذه الدول المتمثلة في الجهل الأعمى والعنجهية والحقد الوهابي الإخواني ضدّ العلمانية.
المؤسف في هذه المؤامرة الكونية أنّ كلّ أمر فيها كان له أكثر من ولادة… في كلّ لحظة ولادة جديدة للسياسات والأطماع… للجراح والأوجاع… للقتل والتدمير والقهر… إلا تزايد عدد الضحايا كان الموت هو ولادته الوحيدة… ولكن تتفاوت وحشيته وفظاعته تبعاً لحجم قرار الانتقام الذي أودى اليه فشل للعدو كان غير متوقع، سواء في السياسة أو الميدان…
ولكن المثير للاشمئزاز دور حمامة السلام التي تحاول أميركا لعبه مؤخرا… حمامة ولكن لا يطيب لها ان تطير الا فوق جثث الموتى، ولا يحلو الغناء لها الا على صوت التفجيرات التي تغتال ارواح السوريين… في كلّ بقعة من الجغرافيا السورية.
فهي تريد الحلّ السياسي ومقتنعة بأن لا بديل عنه… ولكن ليس بوسعها ولا بحدود إمكانياتها أن توقف تدفق السلاح والمسلحين من تركيا والسعودية الى سورية… وليس بإمكانها الضغط عليهما للمضيّ بالعملية السياسية السورية في جنيف دون عرقلتها
وشأن ذلك في اليمن، فأميركا ارتأت أنّ ما جعل الخليجيين ينقادون للانصياع لأوامرها في إثارة الفتن وإشعال فتيل الحروب وإذكائها في المنطقة دون تردّد، هو حقد دفين ضدّ سورية وحزب الله وضدّ ايران التي يبذلون لجعلها عدو العرب الاول، الكثير من المساعي والجهود التركية والسعودية، فكان لإعطاء الضوء الأخضر في ترجمته على أرض الواقع فعالية قوية يستحيل أن تكون ذاتها اذا ما تمّ إعطاء الضوء الأخضر لإيقاف ما بدأوه وما يعتبرونه الآن معركتهم لن يتخلوا عنها بسهولة دون نيل مكاسبهم المرجوة… وهذا بالطبع ما ترحب به أميركا و»إسرائيل»… والتصريحات المغايرة لذلك هي مجرد جعجعة إعلامية لا أكثر.
هناك تخبّط واضح وعجز بائن في السياسة الأميركية تهيمن عليها سطوة عدم الاعتراف… عدم الاعتراف بأنّ الجدل بمصير الرئيس بشار ا سد لن ينتهي بنتيجة توحي برحيله من الحكم… كما ليس بمقدورها الاعتراف بروسيا كدولة باتت تضاهيها قوة في المجالات كافة… أو أنها كسرت موازين القوى وأحدثت قلبة نوعية في الميدان السوري. ولذلك لم تتوقف يوماً عن رشّ السموم على القرارات الروسية وفرض القيود على تحركاتها لمضايقتها… بحجة الخوف والقلق من الخفايا الكامنة في صلب سياستها واستراتيجيتها المتبعة في سورية… ولا سيما في مساندة بقاء الأسد…
كما يستحيل للاتفاقيات الأميركية والتصريحات أن تكون معياراً ثابتاً وموثوقاً لديها لدخول أبواب جديدة بمنحى مغاير عن مبتغاها…
فالاتفاق النووي الذي تمّ توقيعه مع إيران لا يعني البتة أنّ أميركا صارت تنظر بعين المودّة والمحبة لإيران كصديق لها… أو انها تخلت عن الحفر في الفجوات بينهما لتوسيع مساحتها عوضاً عن ردمها… أو أنها تخلت عن سياسة التصعيد ضدّها واثارة استفزازها… وكان آخرها حجزها ملياري دولار لإيران بحجة انها تعوّض لنفسها عن مهاجمة ايران للاميركيين في بيروت عام 1983… حجة واهية ضعيفة شأن الحجج الأخرى التي صارت سياسة بعينها لم تتوقف أميركا يوماً عن اتباعها منذ بداية الأزمة السورية…
فالاتفاق النووي لن يكون معادلة جديدة لفتح أبواب الودّ على مصراعيها بين أميركا وايران، والتي لن تتوقف بالتالي عن سياستها في التصدّي لمشاريع اميركا الصهيونية للهيمنة على المنطقة بالكامل…
ولكن ماذا عن الاتهامات القاسية من أميركا الموجهة ضدّ السعودية بتمويل ورعاية وتصدير الإرهاب الى الدول العربية والأوربية… وأحدثها كان في ما يتعلق بأحداث 11 أيلول 2001 وتهديدها بفتح الملفات التي تثبت تورّط الرياض، هل هذا يعني أنّ أميركا تتخلى عن الأخيرة كمنفذ رئيسي لمخططاتها في المنطقة؟
وهل ستتحوّل المخاوف والقلق الأميركيان بشأن إمكانية فقدان 750 مليار دولار الى حقائق بعد تهديد السعودية بسحبها من البنوك الأميركية؟ من المؤكد أنّ ذلك اذا ما حصل سيشكل خطراً كبيراً على اقتصادها…
فهل تستطيع السعودية أن ترسم استراتيجيتها في مجلس الأمن بعدم تشريع قانون مقاضاة رعاة الإرهاب… الذي سيمنح أهل الضحايا الحق في مقاضاة الرياض ومطالبتها بالتعويض عن دماء ضحاياهم… كما نجحت في رسم استراتيجيتها السابقة في مجلس الأمن لمنع إدانتها في حربها الحاقدة ضدّ اليمن ومنع إرسال الإغاثات الإنسانية إلى هناك… أم انّ الموضوع ليس سيان عند الاميركان… فالدماء العربية بالنسبة اليهم رخيصة، ولا مشكلة البتة في هدر المزيد منها، ولكن دماء ضحاياها منذ عام 2001 يمكن ان تفوق قيمة 750 مليار دولار، ولن تكتفي بتجميدها لتوزيعها يوماً على اهل الضحايا… بل يمكن ان تطالب السعودية بالمزيد.
فهل تستطيع السعودية لملمة الملفات التي تثبت إدانتها وتورّطها في ما اتهمت به؟ ام انها ستدفع ثمن صنيعها للإرهاب ودعمه، ولكن في البلاد التي كانت تشدّ على يدها يوماً وتصفق لها كلما هدر دم بريء جديد… فيكون القرار الاميركي بانتهاء صلاحيتها اتخذ ولا رجعة فيه…؟
أميركا تريد أن تلعب دور القاضي والمدافع والمحامي والمستشار والمنقذ وحمامة السلام، ولكن دون أن تكون هناك وقائع وحقائق تشير إلى مصداقية ما تريده… وذلك ببساطة لأنها القاتل والمتهم والمدان… كفاعل أساسي وشريك ومحرّض ومخطط وداعم لكلّ ما يجري من أزمات في المنطقة كافة…