منطق الصراعات في المشهد السياسي العربي الراهن

د. زياد حافظ

خلال اجتماع الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي في بيروت في تشرين الأول من العام الماضي قدّمنا قراءة عن المشهد الدولي والإقليمي والعربي، حاولنا من خلالها إبراز تقدير موقف لموازين القوة التي تتحكّم بمسار الأمور في الوطن العربي، والمتأثرة بنسب متفاوتة بالتحوّلات الدولية والإقليمية. ونعتقد أنّ ما أتينا به في تلك الورقة ما زال صالحاً في معظمه، وبالتالي تصبح ورقة مساندة لمقاربتنا اليوم.

المنطقة العربية من مشرقها إلى مغربها مروراً بالجزيرة العربية مسرح لصراعات مختلفة منها طابعها دولي، ومنها طابعها إقليمي، ومنها طابعها عربي، وكثير منها مزيج من الداخلي والإقليمي والدولي. وهذه الصراعات معظمها مزمن في الجوهر وإنْ تغيّرت إلى حدّ كبير أدوار اللاعبين الدوليين والإقليميين والعرب منهم من منتصف العقد الماضي أيّ بعد حرب تموز على لبنان عام 2006 حتى اللحظة الراهنة.

التغييرات في الصراعات الراهنة تعكس تغييرات في موازين القوة على الصعيد الدولي والإقليمي والعربي. التغييرات في موازين القوة تعكس بدورها تغييرات جوهرية في البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والسكّانية والثقافية عرضناها في ورقتنا السابقة ونكتفي بالإشارة إليها فقط. هذه التغييرات في موازين القوة على المستويات الثلاثة، أيّ الدولية والإقليمية والعربية، أتاحت الفرصة للاعبين إقليميين وعرب من توسيع رقعة تحرّكهم ورفع سقف ذلك التحرّك وفقاً لتقديراتهم في تراجع فعالية القوى الدولية الأساسية والتي كانت تتحكّم بمسار الأمور وإيقاعها. من هنا يمكن فهم بعض مسارات الصراعات القائمة في المنطقة العربية التي يعتبرها البعض بشكل آلي نتيجة لتصّور أميركي صهيوني ينفّذه لاعبون عرب. وإذا كنا لا ننكر دور الولايات المتحدة والكيان الصهيوني في تأجيج صراعات قديمة وخلق صراعات جديدة إلا أنّ الفكرة الأساسية التي نطرحها في هذه الورقة والتي نعرضها للنقاش، وهي غير منزلة أو منحوتة في الصخر، هي أنّ القسط الأكبر من الصراعات العربية العربية هو من صنع عربي، وأنّ مستقبل هذه الصراعات يتوقف على اللاعبين العرب في المرتبة الأولى آخذين بعين الاعتبار عاملاً جديداً دخل على المشهد هو ما يمكن تسميته بالتنسيق الروسي الأميركي. فهناك سلسلة من أحداث ومواقف وقرارات ترجمت ميدانياً في عدد من ساحات الصراعات القائمة كسورية واليمن وليبيا والعراق تدلّ على أنّ التنسيق الروسي الأميركي هدفه في الحدّ الأدنى ضبط إيقاع حركة الأحداث وفي الحدّ الأقصى تفاهم أشمل. لكننا لسنا متأكدين حول مدى صمود هذا التنسيق وعلى مدى فعاليته على المدى المتوسط والطويل على سلوك اللاعبين العرب في المشهد السياسي.

لذلك فإنّ هذه الورقة ستتناول حركة الصراعات القائمة التي منها دولية في الساحات العربية ومنها عربية إقليمية ومنها إقليمية إقليمية ومنها عربية عربية. لكن المفتاح الرئيسي لمعظم هذه الصراعات كي لا نقول جميعها هو القضية الفلسطينية التي كانت وما زالت وستستمرّ إلى يوم الحسم أو النصر النهائي في استرجاع فلسطين، ونعنى هنا كامل فلسطين، وحقوق الشعب الفلسطيني في العودة والاستقرار والتعويض المادي والمعنوي لما تحمّله هذا الشعب من وزر الاحتلال والتشرّد. فلا الحرب على العراق واحتلاله وتدمير بنيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية وذاكرته العلمية والثقافية والتاريخية، ولا تدمير ليبيا وتمزيقها، ولا العدوان الكوني على سورية، ولا العدوان العربي غير المبرّر على اليمن، ولا حتى استمرار الأزمة في لبنان، ولا حتى نشأة وتشجيع حركات الغلو والتوحّش، ولا استمرار الحصار على غزة والتنسيق الأمني بين السلطة والكيان تبرّرها الأسباب التي تروّجها وسائل الإعلام الغربية والعربية المملوكة من دول النفط إلاّ والقضية الفلسطينية هي الحاضرة والسبب الحقيقي المباشر وغير المباشر لمختلف ألوان العدوان. لا ننفي وجود أسباب أخرى خاصة بكلّ قطر لكن السبب الرئيسي في رأينا هو الصراع العربي الصهيوني يليه العمل على إجهاض أيّ حراك نهضوي وحدوي. هكذا كان التدخّل الدولي والإقليمي في السابق، وهكذا هو تدخله اليوم. كما أنّ محاولات استبدال العداء للجمهورية الإسلامية في إيران بالعداء للكيان الصهيوني هو الوجه الحقيقي لمسار الصراعات في المنطقة العربية.

الجزء الأول: الصراعات الدولية في الوطن العربي

التدخلات الخارجية في الوطن العربي ناتجة عن الصراعات الدولية. ويمكن اختزال الصراعات الدولية بالصراع بين روسيا والولايات المتحدة نيابة عن صراع بين محور الدول الصاعدة المتمثلة بمجموعة دول «بريكس»، والتي قد تنضمّ إليها في وقت لاحق الجمهورية الإسلامية في إيران، وبين المحور الغربي الأطلسي بما فيه الاتحاد الأوروبي وطبعاً الكيان الصهيوني. وللمزيد عن الموضوع يمكن مراجعة ورقتنا السابقة.

الصراع بين روسيا والولايات المتحدة ليس جديداً بل متجدّداً بعد حقبة تفكّك الاتحاد السوفياتي. كما أنّ هذا الصراع لن يفضي بالضرورة إلى توافق أو تسويات مشابهة لتسوية يالطا. فالتسوية الأخيرة كانت بين حلفاء منتصرين على عدو مشترك، أيّ النازية، بينما سمة العلاقة الحالية هي سمة التنافس بين قوة صاعدة وقوة متراجعة وإنْ كانت الأخيرة في حالة إنكار ومكابرة. فالتسوية قد تكبح وتيرة الصعود لما يرافقها من إما تنازلات أو تأخير لأولويات كما أنها عند الطرف الثاني قد تكبح فرصة إعادة تحسين الظروف وإلغاء التراجع. فإلى حدّ ما نستطيع أن نقول إنّ كلّ من روسيا والولايات المتحدة تسعى فقط للوصول إلى تفاهمات تضبط إيقاع مسار الصراع وليس بالضرورة لتوزيع مناطق النفوذ بينهما. ففيما يتعلّق بـ«التفهامات» التي يمكن أن تكون قد تمّت بين روسيا والولايات المتحدة لا بدّ من الانتباه إلى النقاط التالية:

أولاً: إنّ أيّ «تفاهم» لا يعني نهاية الصراع بل فعلياً متابعته بوتائر مختلفة وبوسائل متعدّدة كمحاولات الالتفاف على مقرّرات جنيف أو فيينا أو نيويورك. فما شهدناه من قرارات صادرة عن جامعة الدول العربية من توصيف المقاومة إرهاباً تشكّل تمهيداً لضرب المقاومة في سورية على قاعدة أنّ التسوية التي يروّج لها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا تتضمّن بنداً بمحاربة الإرهاب! قد يكون ذلك النزع للغطاء العربي عن المقاومة تمهيداً لعداون صهيوني على لبنان ومقاومته سواء في لبنان أو في سورية، هذا إذا ما كان الكيان الصهيوني واثقاً من نجاح سريع وحاسم. فالحرب المرتقبة هي الوجه الآخر للصراع بين المحورين عبر الأدوات الإقليمية والعربية.

ثانياً: للولايات المتحدة تاريخ حافل بنقض الاتفاقات التي تعقدها على قاعدة أنّ «استثنائيتها» تعفيها من المساءلة والمحاسبة. كما أنها تعتبر أنّ العقد الذي يشكّل شريعة المتعاقدين يعكس موازين قوة في لحظة معّينة. وبما أنّ سنة الحياة هي العمل على تحسين موازين القوة لصالح كلّ طرف يستطيع ذلك وإنْ كان على حساب الاتفاق المعقود فإنّ الولايات المتحدة سعت في السابق، وستسعى في كلّ لحظة تعقد فيها أيّ اتفاق، ومنذ اللحظات الأولى للتوقيع على العمل على نقض الاتفاق إذا ما توفرت لها الظروف. فلا قدسية للمعاهدات والاتفاقات إذا ما اقتضت في تلك اللحظات المصلحة الأميركية كما تحدّدها هي وإنْ كان على حساب الآخرين. فالتفاهم مع الروس وقبل ذلك الاتفاق على الملف النووي مرشح بقوّة للنقض أو التخلّي إذا ما شعرت أنها تستطيع أن تقوم بذلك حتى مع عقوبات إذا استطاعت أن تستوعبها. لكن هذه القدرة رهن التحوّلات الداخلية السلبية التي تشهدها الولايات المتحدة والتي قد تحدّ من فعاليتها.

في هذا السياق، علينا أن ننتبه إلى أنّ التحوّلات التي حصلت وما زالت تحصل داخل هذه المجتمعات الدولية وحتى سائر الدول أدّت وتؤدّي إلى تناثر مراكز القوة والنفوذ dispersion ما يحول دون إمكانية لأيّ طرف أن يفرض سلطته أو رأيه. لكن هل بإمكان التفاهم بين القطبين أن يحقق ذلك ويؤدّي إلى فرض تسويات على سائر الأمم؟ هذا ما لا نعتقد أنه ممكن في الظروف الراهنة لأنّ الأمم بشكل عام وخاصة الدول المعنية في الوطن العربي وفي الإقليم لديها من القوة الذاتية ما يسمح لها بتعديل أو تأخير التفاهمات أو ابتزاز وانتزاع بعض المكاسب، أيّ بمعنى آخر هناك قدر من الاستقلالية لدى الدول العربية الوازنة يجعلها تتخذ قرارات وإنْ كانت غير صائبة في بعض الأحيان إلاّ أنها ليست بالضرورة تنفيذاً لإملاءات خارجية. كما أنّ «التمرّد» على الإرادة الدولية وأو الإقليمية هو الذي يفسّر منطق المقاومة للاحتلالات المتعدّدة، ويفسّر عند حلفاء الولايات المتحدة رفع سقفها السياسي في الملفات الساخنة التي تحاول الولايات المتحدة إطفاءها. فليست كلّ القرارات العربية من صنع الولايات المتحدة وإنْ كانت لا تمانع هذه الأخيرة هذه القرارات العربية المدمّرة للأمة. كما أنّ المقاومة ليست تنفيذاً لإرادة دولية أو إقليمية في العراق أو في سورية أو طبعاً في فلسطين. هذا الأمر، ايّ تناثر النفوذ، قد يؤدّي بدوره إلى إطالة الأزمات إنْ لم تحسم ميدانياً، أو إنْ لم يحصل توافق داخلي بعيداً عن الأجندات الخارجية. وليس كلّ شيء يسير في صالح القوى الدولية في المنطقة مهما كانت.

أولاً: المسرح السوري للصراع الروسي الأميركي

من الواضح أنّ المسرح السوري ساحة تنافس شديد القسوة يعكس مدى تصادم المصالح الروسية مع المصالح الأميركية، إضافة إلى المصالح الإقليمية المتصادمة. لكن نلاحظ حرص الطرفين على عدم التصادم المباشر والاكتفاء بالتصادم عبر الحلفاء/ الوكلاء على الأرض. فلروسيا استراتيجية واضحة المعالم والأهداف بينما للولايات المتحدة مواقف تتميّز بطابع ردّ الفعل وليس الفعل رغم كلّ ما يمكن أن يتصوّره المرء من إمكانيات وقوة نارية واقتصادية ومالية لديها. ونفسّر ذلك بمنحى التراجع المزمن الذي عرّفنا عنه منذ عام 2003 وما زلنا، أيّ أننا نعيش حقبة الأفول الأميركي في المنطقة وحتى في العالم. ويعود ذلك لأسباب داخلية أميركية في المرتبة الأولى تتمثل في انسداد أفق النظام السياسي والتراجع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتحوّلات في البنية السكّانية وانعكاسها على مراكز القوة والقرار وثقافة العنف لحلّ المشكلات في زمن التراجع. ونكرّر أنّ هذا لا يعني أنّ الولايات المتحدة أصبحت دولة متخلّفة أو فقيرة أو ضعيفة في القدرات العسكرية والاقتصادية لكن كلّ رصيدها لا يمكنها أن تصرفه كما تريد سياسياً واقتصادياً في الساحات الدولية بشكل عام وفي المنطقة العربية بشكل خاص. ومن هنا نعتبر أنّ المقاومة للاحتلال في العراق كانت بمثابة الضربة القاضية للتقدّم الأميركي أوقفت مشروعها في المنطقة العربية ففتحت الأبواب على مصراعيها لجميع احتمالات «التمرّد» على الإرادة الأميركية.

1 ـ روسيا، في الميدان السوري تتبع روسيا استراتيجية لاعب الشطرنج الذي بعد عمليات الافتتاح في حركات البيادق يسعى إلى توضيع القطع الأساسية من فرسان وأفيال وقلاع وملكة في الأماكن التي تعتبرها استراتيجية على طاولة المربعات الأربعة والستين. فهي تقضم وتقوم بتراكم الإنجازات الصغيرة التي تتحوّل إلى كتلة حسّاسة لا يستطيع الخصم أن يقاومها فيستسلم. وإذا حلّلنا مسار سلوك روسيا منذ خريف 2012 حتى الساعة نرى كيف استطاعت استعمال حق النقض في مجلس الأمن إلى الإمداد العسكري إلى التفاوض في جنيف واحد ثم اثنين ثم فيينّا وموسكو ونيويورك في مجلس الأمن في مراكمة المكاسب السياسية، تُوّجت بمساندة عسكرية واسعة في أيلول الماضي، فانتزعت من خلالها معظم الأوراق التي كانت بيد الولايات المتحدة.

ليس هدف هذه الورقة البحث في المحطّات المختلفة ولا سرد التطوّرات على المسرح السوري بل التركيز على أنّ لروسيا استراتيجية واضحة تسعى إلى فرض تسوية وفقاً لمصالحها. فهي تسعى إلى إيقاف النزيف في سورية الذي يؤجّج تنامي قوى التعصّب والغلوّ الذي يشكّل تهديداً مباشراً على الأمن القومي الروسي لما لها من جاليات مسلمة في دول الاتحاد الروسي. كما أنّ تقليص نفوذ الولايات المتحدة في المشرق العربي يساعدها على تحقيق هدف استراتيجي مزمن منذ حقبة القياصرة وهو الدخول إلى البحر المتوسط وإنْ كانت فعّالية ذلك الدخول محفوفة بالقيود كضرورة المرور بمضيق البوسفور الذي يتحكم به الحلف الأطلسي عبر تركيا. من هنا نفهم قيمة المشروع الإيراني لحفر قناة تربط بحر قزوين بالخليج العربي.

وأخيراً تسعى روسيا إلى تأمين الجنوب الغربي للكتلة الجغرافية لأوراسيا التي تشكّل في رأينا الهدف الأساسي للعبة الأمم في هذه الألفية. ولنا رأي في هذا الموضوع عرضناه بشكل سريع في الورقة التي قدّمناها في شهر تشرين الأول للأمانة العامة للمؤتمر.

إنجازات الميدان تحدّد مسار التفاوض

الإنجازات العسكرية الميدانية للجيش العربي السوري تؤهّل روسيا لفرض تنازلات على الولايات المتحدة خلال المفاوضات. فمن جهة استطاعت روسيا فرض تصنيف العديد من المنظّمات المقاتلة على الأرض السورية كتنظيمات إرهابية غير مؤهّلة للدخول في مسار التفاوض والحلّ السياسي، كما فرضت على عدم اختزال المعارضة السورية للحكومة في مجموعة التي ترعاها حكومة الرياض، كما أنها تسعى حتى هذه الساعة إلى إدخال أطراف جديدة إلى طاولة الحوار ككرد سورية. والإنجاز الأكبر هو التسليم بوحدة الأراضي السورية وعدم تقسيمها رغم الالتباس في دعوات إلى «فدرالية» تصدر من وقت إلى حين عن بعض المسؤولين في روسيا سرعان ما يتمّ التراجع عنها، وكأنها نوع من وسائل الضغط على بعض الأطراف في الدولة السورية لإبداء بعض «المرونة» في ملفّ المفاوضات. أما بالنسبة لمصير الرئيس السوري بشّار الأسد فاستطاعت روسيا إقناع الولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي بأنّ المسألة تترك للشعب السوري وأن لا شروط مسبقة لتنحّيه وعدم ترشّحه.

2 ـ الولايات المتحدة. اعتبرت الولايات المتحدة منذ اندلاع الحراك الشعبي العربي في كلّ من تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين أنّ روسيا إما لا تستطيع التدخّل في مسار الأمور أو ليست لديها أيّ رغبة في ذلك بسبب فقدان نفوذها في المنطقة منذ فترة تفكّك الاتحاد السوفياتي. هذا دليل قاطع على سوء تقدير فادح تدفع ثمنه الولايات المتحدة كما أنه يدّل على ترهّل القدرات على التقدير والتخطيط، سواء بسبب الغطرسة أو بسبب رداءة النخب الحاكمة. وبالتالي اعتبرت الولايات المتحدة أنّ الساحة السورية خالية من أيّ منافسة دولية لها وتستطيع أن تتحكّم بمسار الأمور، إلى أن أتت الخدعة الغربية بقيادة الولايات المتحدة في تحوير قرار مجلس الأمن بحق الأزمة في ليبيا. واعتقدت الولايات المتحدة أن بإمكانها تجاوز روسيا في الملف الليبي وحتى في سائر الملفات وخاصة في الملف السوري إلى أن أقدمت روسيا ومعها الصين على استعمال حقهما في النقض في مجلس الأمن في أواخر 2011، وذلك بعد أن ثبت صمود سورية دولة وقيادة ومؤسسات وخاصة المؤسسة العسكرية. فكان تعطيل دور مجلس الأمن كأداة للسياسة الخارجية الأميركية.

هنا لا بدّ من توضيح بعض الأمور على موقف الولايات المتحدة في الملف السوري. لا نقاش حول رأي ورغبات الإدارة الأميركية تجاه طبيعة الدولة السورية وقيادتها. لكن سورية لا تشكّل بالنسبة للولايات المتحدة أولوية جيوسياسية بل مدخلاً لابتزاز الجمهورية الإسلامية في إيران في مرحلة المفاوضات معها على الملف النووي. كما أنها تعارض وجود إيراني على شواطئ البحر المتوسط بعد الوجود غير المباشر للجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان عبر محور المقاومة وحلفائها. لذلك تجنّبت الولايات المتحدة الانخراط المباشر عسكرياً في الأزمة السورية وإنْ كانت المسؤولة الأولى عن عسكرة الحراك الشعبي وتفاقم استمرار القتال والدمار. فالحرب بالوكالة وعبر التحريض الفئوي من أفتك وأرخص الأسلحة في الترسانة الأميركية فكان ما كان. في المقابل نفهم عدم تمسّك الإدارة الأميركية بوكلائها وحتى ببعض التنظيمات التي أوشكت أن تهدّد مصالحها في العراق وفي دول الجوار. لذلك كان الدخول في مفاوضات للتسوية مع روسيا في الشأن السوري، بعد فشل تحقيق أهدافها عبر وكلائها، ورقة تستخدمها سواء بالتمسّك بها أو بالتفسير الملتبس لما يمكن أن يصدر عنها. فخسارتها محدودة في سورية حيث لا مصالح حيوية لها بينما خسارة حلفائها أكبر بكثير وتفوق قدرتهم على التحمّل. مرّة أخرى تتحقّق المقولة أنّ مخالفة الولايات المتحدة أمر مكلف لكن مهادنتها أو التحالف معها أمر قاتل!

اعتبرت الولايات المتحدة انها تستطيع تحديد وتيرة الأحداث في سورية عبر التحريض المباشر من قبل وزيرة الخارجية آنذاك هيلاري كلنتون، المرشحة المرتقبة للرئاسة الأميركية عن الحزب الديمقراطي. فهي التي حرّضت على استمرار حمل السلاح وعدم القبول بالعفو الصادر عن الدولة. كما أنها دعت وما زالت في خطابها السياسي إلى مقاربة سورية من زاوية التجمّعات الطائفية والمذهبية والعرقية مع إغفال متعمّد للهوية الوطنية وللهوية القومية العربية لسورية. فليس هناك سوريون بل طوائف ومذاهب وأعراق، كما حصل تماماً في العراق.

التحريض الأميركي واللامبالاة للتحوّلات السياسية على الصعيد الدولي والإقليمي وصل إلى ذروته في صيف 2013 مع افتعال أزمة السلاح الكيماوي. نتذكر جميعاً الكلام الكبير للرئيس الأميركي عن «الخط الأحمر» الذي تخطّته الدولة السورية على حسب زعمه في استعمال السلاح الكيماوي مما يستدعي التدخل العسكري الأميركي المباشر. غير أنّ الرسائل الإقليمية إيران والدولية روسيا وحتى داخل المؤسسة العسكرية الأميركية كانت واضحة للغاية أيّ أنّ التدخل العسكري الأميركي كان سيؤدّي إلى انفجار واسع في المشرق يطال بشكل مباشر ليس فقط المصالح الأميركية بل حلفاءها كالكيان الصهيوني وتركيا وحتى دول مجلس التعاون الخليجي. فكانت الهندسة الروسية في إيجاد المخرج اللائق للولايات المتحدة عبر قرار تسليم المخزون الكيماوي لدى الدولة السورية.

المحطة التالية في الأزمة السورية من زاوية الولايات المتحدة كانت استمرار المواجهة مع الدولة السورية ولكن عبر منظّمات التشدّد والغلوّ والتعصب. فالتغاضي عن نموّ ما يسمّى بـ«الدولة الإسلامية في العراق والشام ـ داعش»، لم يكن ليحصل لولا التسهيلات التركية بموافقة أميركية صريحة والدعم اللوجستي لها في العراق من قبل بلاد الحرمين، وفي ما بعد تمدّدها في شمال سورية. الحرب عبر «داعش» و«جبهة النصرة» كانت البديل عن الارتكاز على «معارضة معتدلة» أظهرت فشلها بعد لجوء العناصر التي درّبتها الاستخبارات الأميركية إلى صفوف إما «داعش» أو «النصرة». عندما خرج التنظيمان عن السيطرة وخاصة «داعش» كان لا بدّ من الولايات المتحدة الظهور بالموقف المناهض لـ«داعش» فكان «التحالف الدولي» لضرب «داعش» والذي استفادت منه «داعش» من جهة العتاد والعديد والتمدّد الجغرافي في العراق ومن بعد ذلك في سورية. وبعد حوالي سنة من المسرحية لإيقاف «داعش» كان التدخل الروسي بناء على طلب رسمي من الدولة السورية، والذي غيّر من موازين القوة على الأرض ولصالح الدولة السورية والجيش العربي السوري. فهذه المتغيّرات أجبرت الولايات المتحدة على ضرورة التفاهم الجدّي مع روسيا.

«التفاهم الجدّي» الروسي الأميركي

نقول «التفاهم الجدّي» لأنّ التفاهم الروسي الأميركي بدأ عام 2012 في اجتماع الرئيسين بوتين وأوباما في كانكون. غير أنّ الظروف الموضوعية داخل الولايات المتحدة لم تسمح للرئيس الأميركي في السير في ذلك الاتجاه إلى أن أتت أزمة صيف 2013 والتي تمكّن من خلالها الرئيس الروسي من تثبيت حضوره الدولي كشريك أساسي في أي تطوّر ممكن. في المقابل استطاع الرئيس الأميركي أن يقطع الطريق أمام صقور الإدارة والكونغرس للمطالبة بالتدخل العسكري المباشر في سورية، المطلب الذي ما زال قائماً لدى الكيان الصهيوني وحكومة الرياض وأنقرة وطبعاً أتباعهما في الساحات العربية.

التفاهم من خلال أزمة 2013 ساهم في تفعيل المفاوضات على الملف النووي في إيران. فعلى أثر إنجاز الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية في إيران وعلى ضوء المتغيّرات الحاصلة في موازين القوة على الأرض وفي الميدان كانت الأرضية لتسوية سياسية بين القوتين الدوليتين ممهّدة، فنحن نعيش هذه اللحظة دون التنبّؤ بنجاحها أو إخفاقها. لن نسارع بالقول إنّ التسوية تحصيل حاصل، كما لا نقول إنها غير قابلة للتنفيذ. لكن استمرار إنجازات الجيش العربي السوري في ميدان المواجهات ضدّ كلّ من «داعش» و«النصرة» سيجعل من فرص تسوية ترضي إلى حدّ ما حكومتي الرياض وأنقرة تتراجع. فما على حكومتي الرياض وأنقرة إلاّ أن تعدّلا في طموحاتهما وتتكيّفا مع المستجدات الميدانية. حتى اللحظة لا نستطيع القول إنهما وصلا إلى تلك القناعة رغم بعض التباشير الصادرة عن حكومة أنقرة بالسير في ذلك المنحى.

معالم التسوية الروسية الأميركية في سورية

ليست لدينا معلومات غير ما نقرأه في مختلف وسائل الإعلام والمحطات الفضائية التابعة لمختلف الفرقاء المتصارعين في وعلى الساحة السورية. فعلى ما يبدو فإنّ ملامح هذه التسوية يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

أولاً – الحفاظ على وحدة الأراضي السورية ومؤسسات الدولة وفي مقدّمتها الجيش العربي السوري خلافا لما حصل في العراق وأو في ليبيا.

ثانياً – تشكيل حكومة «انتقالية» أو «وحدة وطنية» يبدو هناك تباين على تسمية هذه الحكومة من خلال الدستور الحالي تقوم بالإعداد لانتخابات برلمانية جديدة ورئاسية وتحضّر التعديلات المطلوبة التي سيتمّ التفاوض عليها. التأكيد على تشكيل الحكومة من خلال الدستور الحالي هو إنجاز لكلّ من سورية وروسيا إذ أنّ البديل عن ذلك هو تحديد مرجعية خارجية تكون وصية على سورية، وهذا ما لم ولن تقبله الدولة السورية قيادة وحكومة وشعباً. ما هو مسكوت عنه هو توجّهات الحكومة الجديدة والتعديلات المقترحة للدستور التي ستحدّد طبيعة الدولة دولة اتحادية أو لا مركزية إدارية نسبية؟ وهويتها عربية؟ ودورها في شتى الميادين وخاصة في الصراع العربي الصهيوني.

وهنا تقفز إلى الواجهة عدة أسئلة: كيف ستتعامل كلّ من روسيا والولايات المتحدة مع الانتخابات التي حصلت في نهاية الأسبوع الثاني من شهر نيسان 2016؟ أليس هذا مؤشراً على مدى حرص الدولة السورية وقيادتها على تثبيت استقلاليتها وسيادتها؟ أليس إصرار الموفد الأممي دي ميستورا على تأجيل الانتخابات بحجة أنّ هناك مناطق سورية خارج سيطرة الدولة و/أو النفوذ الدولي؟! تجعل إجراءها في اللحظة تجاهلاً لرأي المواطنين السوريين فيها، واستطراداً رأي السوريين في الشتات؟ أليس الحرص على ذلك دليلاً أنّ تلك القراءة تفترض أنّ السوريين الموجودين في مناطق خارج سيطرة الدولة يعارضون الدولة ونظام الحكم القائم، ضاربة عرض الحائط كلّ المؤشرات ككثافة المشاركة الشعبية التي تقول عكس ذلك؟

ثالثاً- استطاعت الدبلوماسية الروسية انتزاع تنازل كبير من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حول ضرورة استمرار الرئيس الأسد في موقعه، وأنّ مصيره يحدّده الشعب السوري بعد أن كانت تنحيته شرطاً أساسياً لأيّ حلّ سياسي. لكن حلفاء واشنطن في المنطقة ما زالوا متردّدين حكومة أنقرة أو مكابرين حكومة الرياض حيال هذا الأمر، وهذا ما نعيشه في اللحظة الراهنة عند كتابة هذه السطور.

رابعاً – استطاعت الدبلوماسية الروسية وضع «جبهة النصرة» على قائمة الإرهاب واستبعادها من المشاركة في أيّ حلّ سياسي، وكذلك الأمر بطبيعة الحال لـ«داعش». أما المجموعات المسلّحة التابعة لحكومات إقليمية أنقرة والرياض فما زال الجدال قائماً حول إدخالها في إطار وفد المعارضة. أوكلت هذه المهمة على ما يبدو إلى الدبلوماسية الروسية. في هذا السياق يمكن قراءة التطوّرات الأخيرة كإعادة تموضع القوات الروسية أو سحب الجزء الأكبر من قواتها من سورية على هذه القاعدة. وهناك قراءات متعدّدة لتلك الخطوة الروسية. القراءة الأولى تعتبرها خطوة تكتيكية تربك الخصوم وخاصة الولايات المتحدة وتفقدها ورقة انتقادية لروسيا، كما يمكن قراءة الخطوة كضغط على الحكومة السورية لإبداء «مرونة» أكثر في التسوية. لسنا متأكدين أنّ التصلّب السوري هو في موضوع المعارضة ولا حتى في الصلاحيات الدستورية بل في التوجّهات السياسية الإقليمية والدولية للحكومة المرتقبة كخطوة أولى للحلّ. فما يلي يعبّر عن بعض هواجسنا تجاه ما يمكن أن ينتج عن «التسوية».

فإذا اعتبرنا أنّ هذه الحلول من خلال «التسوية» وإنْ كانت ضرورية لإيقاف النزيف والدمار في سورية، إلاّ أنها ما زالت غامضة تجاه ما نعتقد حول الأهداف البعيدة و/أو غير المعلنة لهذه «التسوية». فمنذ بداية الأزمة وما رافقها من أحداث دامية ودمار شامل اعتبرنا أنّ الحراك الشعبي في سورية هو حراك لمطالب مشروعة، غير أنّ جهات خارجية إقليمية ودولية منخرطة بشكل مباشر وغير مباشر في الميدان السوري ولها أجندات مشبوهة حرّضت على تفاقم واستمرار القتال. الحرب الكونية التي شُنّت على الدولة السورية شعباً وأرضاً وحكومة وقيادة لم تكن لإنجاز الإصلاحات المطلوبة بل لتغيير دور سورية. فمن الصعب القبول أنّ بعض الدول العربية المنخرطة في الحرب على سورية حريصة على حقوق الشعب السوري أو إرساء الديمقراطية فيها، وهذه الدول لا دستور لها ولا برلمان ولا حقوق سياسية أو غيرها لرعاياها. فالهدف من الحرب على سورية كان في رأينا وما زال إدخال سورية في «التسوية الكبرى» للقضية الفلسطينية. لذلك تراودنا شكوك عميقة حول يقين «التسوية» المتداولة من ناحية دور سورية في الصراع الأمّ بين العرب والصهاينة. هذا ملفّ يستحق النقاش ولكن على ضوء معلومات مؤكدة وليست فقط على قاعدة التقديرات.

نشير في هذا السياق إلى أنّ روسيا غير معنية بموقف محور المقاومة تجاه الصراع مع الكيان الصهيوني. فدبلوماسيتها تركّز على ضرورة اللجوء إلى الشرعية الدولية، إيّ إلى قرارات مجلس الأمن، التي تقول بـ«حق» بقاء الكيان الصهيوني وبضرورة تنازل الشعب الفلسطيني عن حقه في الجزء الأكبر من فلسطين. كما أنّ لروسيا مصالح هامة في الكيان كجالية روسية قوامها مليون أو أكثر من مليون نسمة، إضافة إلى مصالحها الغازية في حقول الغاز الممتدّة من شواطئ غزّة إلى الحدود اللبنانية. أما الولايات المتحدة فموقفها من حماية الكيان الصهيوني من الثوابت في السياسة الخارجية الأميركية وإنْ كانت في رأينا بعض المؤشرات تنبّئ بتحوّلات في هذا الموقف وإنْ لم تتبلور وتصبح موقفاً رسمياً راجع في هذا السياق ما أتينا به في ورقتنا للأمانة العامة في تشرين الأول 2015 .

هناك على ما يبدو توافق روسي أميركي حول حلّ للقضية الفلسطينية. فمواقع عدة في الولايات المتحدة تعتبر أنّ الرئيس الأميركي يفكّر جدّياً في إعادة الاعتبار إلى حلّ الدولتين وإيقاف الاستيطان واعتبار القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية. حتى هذه الساعة لم تصدر أيّ مبادرة قد توافق عليها روسيا. كما أنّ هناك شكوكاً حول قدرة الرئيس الأميركي على تسويق تسوية كهذه تدخله في التاريخ كصاحب الإنجازات السياسية الخارجية الكبرى، كالاتفاق مع الجمهورية الإسلامية والتطبيع مع كوبا والاتفاق حول المناخ وربما أخيراً تسوية النزاع المزمن في المشرق العربي. ففي جوّ المزايدات الداخلية في الحزب الجمهوري وقطاعات واسعة داخل الحزب الديمقراطي تجاه التأييد المطلق للكيان وسلطة اللوبي الصهيوني على الإعلام الأميركي فمن الصعب أن يحقق الرئيس الأميركي أيّ نجاح في هذا الموضوع وإنْ كانت هناك قاعدة شعبية أميركية متنامية حتى داخل الجالية اليهودية الأميركية تسعى إلى حلّ الدولتين.

ورقة قدّمت في المؤتمر القومي العربي في حمامات ـ تونس 19 – 20 نيسان 2016

أمين عام المؤتمر القومي العربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى