أنطولوجيا تكتبها غزّة

كتب نذير الماجد: تبدو غزة مثل خاصرة الكون، صخب كوني يمزج إيقاعه الأبدي بدبيب الموت، حديقة أسطورية تحسدها الملائكة ولا تمنح فاكهة للخلود. في غزة تتكثف هلوسات أنطولوجية وتموجات لحن تراجيدي سعيد. للموت هناك مذاق الثورة وبهجة كرنفال لم تعرفه كاهنات باخوس. للموت هناك مذاق النصر الذي تنسجه عربدات تعبث بترتيبات الساسة وكبراء القوم وأباطرة الدولار. للموت في غزة رائحة طفولة لا تشيخ، لكنها لا تمل التحديق إلى خاصرة العدم. طفولة تداعب الموت لأنها لا تخشاه، ذلك الموت الذي له غضب مثل غضبة «أخيل» بدا هناك هستيريا ترقص بيأس.

يعلّمنا محمد الماغوط، مثلما تعلمنا غزة، بأن نتشبّث بالموت: قاوم، وتشبث بموتك أيها المغفل… تموت غزة لكي تحيا، أما ما سواها من المدن فتحيا لتموت… لا يسرح الموت في هذه الأرض إلاّ لكي يولد البطل، لتتمخض غزة عن سوبرمان واقعي، سوبرمان من لحم ودم، سوبرمان كذاك الذي حلم به نيتشه وعجز عن كتابة سيرته الذاتية، لا تربض هناك مشتقة وإنما منصة تطل على تاريخ لبطولة إغريقية، للصحابة الفاتحين، للأنبياء والحالمين، للمعري المتشائم، لديوجين الفيلسوف الكلبي الذي يستهزئ بجميع قياصرة الدنيا، للزنج، لسبارتاكوس، لغيفارا وغاندي ونيسلون مانديلا.

غزة ترقص في العيد، تفنح نافذة جديدة لفرح لا يشبه فرحاً آخر. دعوا مرثية الجنائز. تقول غزة، كلما استعرت أنغام الموت وتصاعدت أمكن للرقص أن يبدأ من جديد. اتركوا المناحة وارقصوا. رقص على شكل «هزيمة في انتصار». غزة اليوم ينتابها إحساس بانتصار قريب لفرح من نوع خاص، ذلك الفرح الممزوج بألم نبيل، بهجة تداعب عذابها اللذيذ، «فالس» حميم يضم عنف غيفارا وسلميّة غاندي.

اليوم غزة في عيد استثنائي، قيامة جديدة لمسيح يراقص ماركس، لقرابين بشرية في داخلها مردة تنتفض في عيد قيامتها فلسطين قامت في غزة بعد هجوع طويل. غزة في عيدها ترقص على إيقاع المدافع ومواعيد النصر، تتمايل مترنحة على وقع لغة لا يعرفها إلاّ هذا الشعب ولا يستشعرها إلاّ شهيد.

وحدها غزة تهتك رتابة الجنة، وحدها تمحو جميع المسافات والفواصل والتباينات. لا فرق هناك بين الفردوس والجحيم، بين النصر والهزيمة، بين الرقص والبكاء في حشد جنازة… تموت في غزة أبجدية الأسماء لتدشن لغة جديدة، لغة يمتزج فيها النشيج والفرح وشيء من السخرية: أين تلك الطقوس الموسمية الرافضة الذلّ والمعبأة بكلمات الثورة؟ أين هي كينونة الثورة، أنطولوجيا الثورة، أدبيات السخط والاحتجاج والاستهانة بكل شيء حتى الموت، أين الحرية إن لم تكن في غزة؟

غزة تفضح المزاعم كلها. كل ثورية تخطئ زمنها، ثورية متجمدة في أزمنة ماضية، تجتر لحظات المجد الماضية أو تحلم بخلاص لا يأتي. إن كل الملاحم تتبخر وتتحوّل إلى هزليات ميلودرامية ما لم تكتبها صواريخ غزة كل شاعر حقيقي مر ويمرّ من هناك، الفردوسي وهومروس وأوفويد. غزة الشاعرة تخترع لغتها الخاصة وربيعها الخاص، ربيع يضع حداً لجميع مهازل الاحتلال الغارق في هستيريا اغتصاب الأشياء والأوطان والتاريخ والأسماء. إنها فلسطين لأن غزة وهي تخترع لغتها الخاصة تعود إلى نفسها بعد أن تنفض غبار تلك الصحراء الممتدة، الصحراء التي «تلتهم الأغاني والحسام» كما يقول درويش، تعيد رسم كل شيء إلاّ هي. غزة القابعة في مكانها، لتغدو دائما وأبدا غزة التي لا تشبه وطنا وتشبه ذاتها.

في عيد غزة أيضاً تستعاد لحظات التكوين. لحظة الخلق والخروج من الجنة. لغزة لون الفضيحة ولون المفارقة. مدينة تفتح ذراعيها لنزوات الرصاص وفحولة المدفع، لكن ليتعرى الآخرون، لتنفضح خطب الزيف كافة، عورات التخاذل التي لا تغطيها أوراق توت ولا ألف براءة. غزة اليوم مثلما هي بالأمس، لها لون الفضيحة مثل لون المفارقة، فالهزال والتخاذل في جوارها هو المعادل العربي ليقظة ضمير وصيحات احتجاج مدوية في سماء جميع العواصم.

كأنّ غزة التي يهزّها البارود وصوت القنابل هي خاصرة الكون التي تهز كزلزال يوقظ ضمير العالم، زلزال يكسر في لغة الأخلاق والقيم طبيعتها الخجولة، زلزال يهزّ عبط ديكارت مثلما ينسف كل رطانة فلسفية لا تحفل بأصوات الشهداء والمهمشين. غزة وهي تخط فلسفة جديدة تعيد تأويل كل رواقية لا تفزع من الألم.

غزة الراقصة، أو الأنطولوجيا المحتضنة آلامها هي اليوم على موعد جديد في التجاوز. نيتشه بالأمس واليوم غزة. أخطأ دولوز عندما صالح الألم برغبات الجنة والرقص الديونيسي. ترقص غزة على إيقاع الألم إنما لتحطيمه، إذ لا يزال للأمل نشوة سوبرمانية لا تستوطن العذاب إلاّ لكي تجتازه.

في غزة تكون الفلسفة في بيتها، تعود إلى مبادئها الثورية ضد الضرورة والموت. غزة تعلمنا فلسفة جديدة هي وحدها الجديرة باسمها، وما عداها سفسطة. تكون الحقيقة غزاوية أو لا تكون، حقيقة شكسبيرية تصدع بكينونة مقاومة: أكون أو لا أكون. إنه لوغوس المقاوم، مانيفست التحرير، البراكسيس الذي يمنح كل تفلسف تبريره الوحيد. إنه العمل والتغيير الذي يقلب من خلاله الثوري مثالية هيغلية كلّها. إنها أنطولوجيا غزة: كن حراً أو فمتّ.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى