ليكن متحف ذكرى وذاكرة لأطفال غزّة وجميع شهدائها
جورج كعدي
شديد الإيلام وعديم الإنصاف، من زاوية فكريّة خاصّة متّصلة بسؤال ميتافيزيكيّ شخصيّ يؤرّقني منذ سنيّ اليفاع، أن يدفع الإنسان تاريخيّاً ومنذ التكوين تلك الأثمان الباهظة موتاً وتضحيّة واستشهاداً في الصراعات والحروب، لنيل حرّية وحفظ كرامة وصون وطن وذود عن هوية أو ثقافة أو دين أو انتماء خاص…
هذا سؤال محاججة للخالق، واحتجاج ربّما، لكنّه من النوع الوجوديّ الماورائيّ الذي قد يدرجه البعض زمن الواقع والواقعية في خانة «الترف» الفكريّ أو الفلسفيّ، رغم أنّه جوهريّ وإن لم يرضِ «دازاين» هايدغر هادم الميتافيزيك لحساب الكينونة والكائن فحسب. فأنا مثل ألبير كامو، أحتفظ بحرارة السؤال الوجوديّ رفضاً واحتجاجاً على مظالم إن لم نحاجج الخالق بها وأعلنّا «موته» اهتداء بنيتشه لما بقي لنا سوى العدم والعبث نناطحهما وتتحطّم رؤوسنا وآمالنا وأحلامنا ومبادئنا على صخرتهما الصمّاء، ولأعلنّا لأنفسنا أوّلاً وبدءاً «موت الإنسان» بعد «موت الله»، ولما بقي لشيء معنى في هذا الوجود، لا الإنسان، لا الحياة، لا المبادئ، لا الأخلاق، لا الفكر، لا الإبداع، لا القيم، لا الاستقامة، لا الشجاعة، لا الإنسانيّة، لا الحضارة، لا الوطن، لا الأمّة… لا شيء.
أمّا إذا لم نستسلم للعدم المدمّر لا الخلاّق، وهذا بحث فلسفيّ آخر وللأنارشيّة والعبثيّة السلبيّة لا الأدبيّة أو الفنيّة وللاّمعنى وفقدان القيمة المطلق… إذا لم نفعل ذلك، واحتفظنا بالقيمة والقيم، وبالإنسان والإنسانيّة، وبالمعنى والرجاء، لوجب علينا إعادة طرح أسئلة من نوع آخر لا تمسّ القيمة والجوهر إنّما يصحّ إطلاقها في وجه الظلم البشريّ، المتمثّل في تاريخ الاستعمار والاحتلال، ومن أفظع نماذجه في الأزمنة الحديثة حرب الاستقلال الجزائريّة التي كلّفت الشعب الجزائريّ البطل والأسطوريّ مليون شهيد لننتبه إلى الرقم الرهيب الذي ليس مجرّد رقم نعبر به! للتخلّص من الاستعمار الفرنسيّ الوحشيّ. إلى نموذج آخر هو ما ارتكبه الأميركيّ في فيتنام مكبّداً شعبها المقاوم مئات ألوف الضحايا وفارضاً عليه مقاومة عالية الكلفة، مع تكبّده هو أيضاً خسائر كبيرة في جيشه قتلى ومعوّقين، ويُضرب المثل بهذه الحرب الوحشيّة التي خاضها الأميركيّون بأشدّ الأسلحة فتكاً ليس النابالم أقلّها إجراماً وبالمجازر الرهيبة وحرق القرى والمدن بسكّانها الأحياء… بلوغاً إلى مأساة فلسطين المستمرّة فصولاً دمويّة وحشيّة من الجانب الصهيونيّ الغاصب والمحتلّ والقاتل، ومآثر بطوليّة من الجانب الفلسطينيّ الذي ما انفكّ يناضل ويقاوم منذ ما سمّي بعام «النكبة» وهذا تعبير هزيل عن فداحة خسارة فلسطين!
أقبل في حدود ما فكرة الاستشهاد لقضيّة ولوطن… لكنّي أرى نفسي عاجزاً عن قبول استشهاد الأطفال والمدنيّين الأبرياء غير المقاتلين في الحرب، أيّ حرب. ويلازمني السؤال الذي يمزّقني ويجعل عقلي المحيّي الشهادة والبطولة وانتصار الحق، وعاطفتي المتألّمة لموت البشر وتمزّقهم أشلاء، في صراع وجدانيّ مرير أخرج منه كلّ مرّة مهزوماً مزداداً شكّاً وحيرة، ملقياً مزيداً من العتب على الله لا أرى في وجهي سواه للعتاب، فمعاتبة البشر القتلة والمجرمين والفاسدين عبث وغباء . وهذا ما أشعر به وأفكّر فيه وأدوّنه في رأي أو خاطرة أو مقالة أو تأمّل فكريّ وفلسفيّ، وفيه توازن وتناقض لا حلّ لأيّ منهما، فأنا أحيّي بطولة شعب يضحّي بنفسه لحرّيته ووطنه ووجوده وأنحني لبطولته وشهادته، معانياً في المقابل مشقّة وألماً في تقبّل موت الأطفال، أشدّ الصور إيلاماً وإثارة للغضب والانفعال، إذ ليس محتوماً ولا منطقيّاً ولا مقبولاً، لا بمنطق السماء ولا بمنطق الأرض، أن يكون موت الأطفال ثمن تحرير أرض وشعب ووطن، ولا بالأخصّ وبدءاً أن يُسكت عن القاتل الجبان، المتمثّل هنا في كيان مسخ يدعى «إسرائيل» وجيش مجرم وقاتل وجبان مثل الجيش «الإسرائيليّ»، الذي إذ يعجز عن منازلة المقاومين الشرسين الأبطال في الميدان يلجأ إلى أوحش الأساليب وأحقرها وأجبنها: قتل المدنيّين بالطائرات والدبّابات وتهديم الأبنية فوق رؤوسهم وتمزيق أجساد الأطفال الطريّة بصواريخ الحقد والحديد والنار!
أختم هذا التأمّل الوجدانيّ العاطفيّ والفلسفيّ حول ثمن الحرب الباهظ وغياب مظلّة الله الحامية والشرط البشريّ الميؤوس منه، لأدخل صلب الدعوة والتمنّي:
رجاء يا شعب فلسطين، ويا مقاومتها البطلة، ويا قادتها وسلطتها الزاعمة حرصها على الشعب والوطن والقضيّة، ابنوا متحف ذكرى وذاكرة، بالوجوه والأسماء، لشهداء مأساة غزّة الأخيرة، ولمن سبقهم من شهداء المآسي والمجازر السابقة، وقد أضحوا بعشرات الألوف، على شاكلة «متحف المحرقة» الذي «يشحد» عليه دجّالو «إسرائيل» المجرمون الصهاينة عطفاً من العالمين الغربيّ والشرقيّ، وحتى من بابا روما! وليقف متحف شهداء فلسطين شهادة حقيقيّة في وجه «متحف الهولوكوست» القائم للابتزاز وتغطية وجه السفّاح الصهيونيّ بقناع «الضحيّة». حتّى لبعض الغرب المتعاطف مع «إسرائيل» سقط القناع، بل حتّى لبعض يهود أميركا والعالم سقط هذا القناع. «الضحيّة» المزعومة مذ تحوّلت جلاّداً فقدت جميع المبرّرات التاريخيّة والإنسانيّة والأخلاقيّة. أفقد بنو «إسرائيل» يهود العالم قضيّة تاريخيّة لعلّها كانت ـ أشدّد على «كانت» ـ إنسانيّة في جانب منها، وسقطت إلى الأبد بعد مجازر غزّة وقانا والضفّة وسواها الكثير الكثير، من ضمير العالم، فـ»إسرائيل» ويهودها الصهاينة يواجهون اليوم كُره العالم.
ليكن اسم المتحف المقترح: «متحف محمّد الدرّة ومحمد أبو خضير لأطفال فلسطين الشهداء».