عرسال… والمليار السعوديّ؟!

د. تركي صقر

بعد وضوح صورة الحوادث بتفاصيلها ومجرياتها في المنطقة العربية كلّها، لم يعد في وسع أحد أن ينكر أنّ الهدف الأساس الذي تقام لأجله تلك الحروب الإرهابية المتوحشة كلّها، وتلك الفظائع وأشكال التخريب والتدمير وتقويض الجيوش بعد إنهاكها، إنما هو خدمة كيان العدو «الإسرائيلي» وتفوّقه على الجميع قولاً واحداً.

لعلّ الإيعاز للمجموعات الإرهابية المكدّسة في عرسال لفتح جبهة جديدة في اتجاه لبنان لا يخرج على هذا السياق، إنْ لم يكن في صميمه، ففي حسابات أصحاب الحرب الإرهابية على سورية كانت عرسال منذ بداية الحوادث من أهمّ نقاط الارتكاز الخلفية لضخّ الإرهابيين وتمدّدهم في العمق السوري، خاصة في اتجاه حمص والقلمون عبر القصيْر، ولعب هذا الخزان الإرهابي المتصل بمستودعات الإرهاب القديمة في طرابلس دوراً خطيراً في تفاقم العمل الإرهابي الإجرامي على مساحة واسعة في غرب سورية ووسطها.

ليس عبثاً أو مصادفة أن يتزامن فتح جبهة عرسال مع احتدام العدوان الهمجي «الإسرائيلي» على غزة، فصمود غزة الأسطوري ومواجهتها للهولوكوست الصهيوني ضدّها طوال شهر بأيامه ولياليه أجبر الاحتلال على الاعتراف بقوة المقاومة الفلسطينية، بل تحطمت على صخرة صواريخ المقاومة التي طالت جميع الأراضي المحتلة، ليس «القبة الحديد» فحسب، وإنما نظرية الأمن «الإسرائيلية» برمّتها، ما يعطي صدقية للتحليلات التي تحدثت عن أنّ فشل «إسرائيل» في تحقيق أهداف عدوانها على غزة دفع أصدقاءها وحلفاءها في الساحة العربية وخارجها إلى فتح جبهة في الساحة اللبنانية انطلاقاً من بلدة عرسال على الحدود السورية، على أيدي عصابات إرهابية وبتمويل غالبيته من النظام السعودي. ووسط هذا كله، تصاعد الحديث عن الشرق الأوسط الجديد، إذ تناقلت تقارير صحافية غربية وعربية صوراً لخرائط ووثائق تقول إنّ هناك خطّة لإعادة تقسيم دول الشرق الأوسط وإقامة الإمارات بما يتّفق مع المصالح الأميركية والقوى الإقليمية في المنطقة وتأمين مصالح «إسرائيل» في المقام الأول وتحديداً… وبالتالي تكون الجهة الوحيدة القادرة على تمويل مثل هذا المشروع الضخم الذي سوف يغيّر المعادلات الدولية جذرياً هي خزائن المملكة السعودية، وأبدى حكامها حماسة منقطعة النظير في هذا الاتجاه.

في هذا الوقت، تجاوزت السعودية دور مسدّد فواتير الحروب الإرهابية الى تحريك أدواتها التكفيرية لزعزعة استقرار البلدان العربية وتركيب أنظمة وفق مقاساتها الوهابية الظلامية، وبالطبع كان هاجسها المركزي إسقاط النظام في سورية، وعندما لم تنجح حتى الآن، ووصلت الى مشارف الخسارة الكلية، كابر أمراء الإرهاب فيها ولم يعترفوا بهزيمتهم أمام الصخرة السورية، وصرّح كبيرهم سعود الفيصل، وزير الخارجية، في أكثر من مناسبة أنّ السعودية لا تستطيع أن تتحمّل خسارتها في سورية، وهذا يفسّر لهاثها إلى إطالة أمد الحرب الإرهابية وفتح جبهات جديدة تطيل من عمر الإرهاب. وفتح جبهة العراق على مصراعيها كان حلقة من حلقات هذه السلسلة، فها هي تلجأ اليوم إلى فتح جبهة في الساحة اللبنانية، تحديداً في عرسال على الحدود السورية، من خلال عصابات إرهابية مموّلة في غالبيتها من النظام السعودي، وتهدف من ورائها إلى هدفين اثنين: الأول إشغال اللبنانيين في ساحة متفجّرة هي على تماس مع «إسرائيل»، وتحريضهم ضدّ قوى معينة في هذه الساحة، والثاني إنهاك قوى الجيش اللبناني ومنع أي إمكان لتدخل من جانب حزب الله لمصلحة المقاومة الفلسطينية في حربها مع العدوان «الإسرائيلي». كما انكرت المملكة بخبث شديد علاقتها بحوادث العراق وتنكر اليوم علاقتها بما يحصل في عرسال، وبلغ المكر والدهاء حدّاً دفع صنيعتها، الحريري الإبن، إلى الإعلان عن مكرمة ملكية بمليار دولار تقدم إلى الجيش اللبناني لمساعدته في مكافحة الإرهاب، بعدما شعرت بظهور إجماع لبناني على الالتفاف حول الجيش في معركة عرسال، دفعاً للتهم بأنها وراء مساعدة الإرهاب، وتبييضاً لصفحة الحريري الذي تورّطت جماعته الطرابلسية في احتضان المجموعات الإرهابية في الشمال اللبناني، من طرابلس مروراً إلى عكار فعرسال، وقبلها احتضان حركة الأسير وتشغيلها جنوباً.

يقول المثل: على من تقرأ مزاميرك يا داود؟ فلو كان أسياد الحريري في المملكة جادّين فعلاً في مكافحة الإرهاب وإخماد جذوته، لكان أسهل عليهم من دفع المليار إغلاق صناديقهم المفتوحة على الآخر لتمويل العصابات الإرهابية، فتجفيف منابع تمويل الإرهاب ومعظمه آتٍ من السعودية هو الذي يقضي على الإرهاب وليس تقديم مليار دولار ذا طابع دعائي واستعراضي بعدما وقع الفأس بالرأس في عرسال نتيجة تسمينهم الوحوش الملتحية في طرابلس، وحشو جيوبهم بالمال السياسي، وإطلاقهم الفتاوى التكفيرية صباحاً ومساء، وبث الفتن المذهبية والطائفية… إذ تحوّلت طرابلس بتمويل من الحريري الى مرجل لشحن الأحقاد وتصديرها، وما الدماء التي تسيل يومياً في لبنان إلاّ من جراء ذلك، وبلغوا حدّ شنّ حملات على مؤسسة الجيش اللبناني وإثارة البغضاء والعداوة ضدّه. ومع معركة عرسال بدأ أصحاب العمائم الفاسدة في طرابلس يصدرون الفتاوى التي تحلل دماء أفراد الجيش اللبناني على المكشوف!

من الخطأ أن يظن أحد أنّ معركة عرسال عابرة أو منفصلة عما جرى في الموصل أو ما يحصل في سورية، أو أنها بعيدة عن العدوان الوحشي «الإسرائيلي» في غزة، وثمة احتمالات أن يطول أمدها واردة ويتوسّع نطاقها في عموم الشمال اللبناني، وهذا أكثر من وارد، كما أن استهداف الجيش اللبناني بالتلغيم والتفخيخ قد يتصاعد ويتفاقم، وقد بدأ فعلاً حتى قبل السيطرة على عرسال وجوارها واحتلال ثكن عسكرية فيها، ما يعني أن على الحريري بدلاً من أن يتباهى بالمليار السعودي لدعم الجيش ويحوّله إلى حفلة للتهجم على سورية ومحور المقاومة، ويستغلّ هذه المناسبة ليكيل التهم إلى إيران وحزب الله، عليه قبل ذلك أن ينصح محازبيه وأعوانه في الشمال بالكفّ عن التحريض على الجيش واستباحة دم أفراده.

لبنان أمام لحظة الحقيقة، والحريق الإرهابي الكبير بدأ في عرسال وغير معروف الى أين يصل، والمليار السعودي أعلن عنه لذرّ الرماد في العيون وإخفاء الأصابع السعودية التي تدعم المجموعات الإرهابية سابقاً ولاحقاً. وما لم تتوحد إرادة اللبنانيين على اختلاف فئاتهم وتواجَه حواضن الارهابيين بلا تردّد ويقوم تعاون تام مع سورية وجيشها، فإنّ من الصعب إطفاء النار الزاحفة إلى مختلف أنحاء لبنان.

tu.saqr gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى