في حلب… للدماء الباردة رائحة أقوى من الدم الملتهب
سناء أسعد
لا أحد يُنكر أنّ العالم يشهد اليوم طوراً من التكوين والتجديد بطرق وأساليب واجتهادات مختلفة، لكنّ المشهد كله عبارة عن ساحة صراع كبيرة وسباق عنيف بين الأطراف المُتنازعة للفوز ونيل كأس النصر. في النهاية، لا فرق عند العدو شرعية النصر أو استحقاقه بجدارة، المهم والأهم الوصول إلى مُبتغاهم وأهدافهم، بغضّ النظر عن كيفية الوصول…
في هذه الحرب بالذات، كان كلّ شيء حاضراً، منذ اللحظات الأولى لبدايتها إلا الشرعية غابت عنها بكافة الجوانب والأبعاد والمقاييس فقد صارت الشرعية عبارة عن مجموعة من التبريرات والحُجج الواهية.
يقف الزمن خملاً يترقّب راكناً في الزوايا الميتة التي تتكوم فيها الجثث وتسيل منها الدماء. فلا أحد يحاول أن يُضفي عليه لمسة الحياة ويبعث فيه الحيوية والنشاط لينهض من بين الحطام ويطلق محركه للخروج من حالة الجمود والوهن التي أصابت الجميع أمام ما يحدث من مآسٍ يندى لها الجبين في سورية عموماً وحلب خصوصاً، فكلّ يريد لقافلة مصالحه أن تسير أولاً وتسبق الأخرى، وكلّ يريد لحمولته أن تضاهي في وزنها وقيمتها حمولة البقية. أما عمّن يدفع الثمن، فلا أحد مكترث لذلك، ولا فرق إن كان من يضع الحمولة على ظهره امرأة ضعيفة، أو شيخ عجوز أو حتى طفل رضيع. فالمُصطلحات هي وحدها التي تُندِّد وتبكي على مأساة حلب. هي وحدها التي تندب وتنوح وتشتكي. صارت الدموع مجرد حبر وتصريحات، لا أحد يحاول ترجمتها إلى أفعال. فالجميع أُصيب بشلل فكري وجسدي معاً، وكأننا في حضرة جمهور كبير من التجار يتحدون بعضهم وسط مزاد علني وأزلامهم يتفاخرون بالثمن الباهظ الذي بمقدور أسيادهم أن يدفعوه لشراء ما يريدون…
هذا ليس أمراً جديداً، لكنّ المُخزي والمؤسف هذه المرة أننا نشتمّ رائحة الدم البارد الذي يجري في عروقهم وسط المُزايدات والمُنافسات والتحدّيات فيما بينهم أمام بحور الدماء المُلتهبة التي تفيض وتسيل في كلّ شريان من شرايين الشهباء.
الأرواح في حلب تصرخ وتناجي الخلاص، والجبير لا يزال يتحدث عن رحيل الأسد… الأحياء في حلب تُدمَّر بعشوائية مُطلقة ومنهجية متقنة … ودي ميستورا مثل المكوك لا يزال يدعو إلى إنقاذ المفاوضات العقيمة في جنيف وإحياء الهدنة من جديد.
حلب تُقصَف بالصواريخ الوهّابية الحاقدة والقذائف العثمانية يومياً، بل بعدد ما تبقّى فيها من شهقات النفس ولا تزال أميركا والمجتمع الدولي بمجمله يبحثان عن آلية مثمرة يتم بها تصنيف المجموعات الإرهابية لتحييد وإقصاء البعض عن المواجهة في الميدان. لكنّ السؤال: أين الكاذبون المتباكون على الوضع الإنساني في سورية؟ أين الذين أرهقتهم عمليات البحث في غوغل عن صور تُثير شفقة واستفزاز الرأي العام على جياع مضايا؟ ها هي الصور الحية بالجملة. لماذا لم نر المؤتمرات والمجالس تعقد للبحث في الوضع الإنساني المأساوي في حلب والذي تخطّى حدود الوصف بفظاعته وخرج عن كونه مجرد مأساة أو مجرد معركة أو اقتتال؟
ما يجري في حلب لا تكفي الكلمات لوصفه، كما لا تكفي الدموع لإنقاذها مما هي فيه. تفاقم الوضع فيها وانفجر وتبعثرت الأشلاء بين حبّات التراب حتى صار الصمت والانتظار. مؤامرة ثانية ولدت من جديد، أو تكاثرت وتكونت بالفطرة الحربية، فلم يحتاجوا فيها إلى الكثير من الخبرة والذكاء، بل اكتفوا بـ «صناعة الموت» وقاموا بنشر بضاعتهم الفاسدة بأساليب حاقدة في كلّ مكان. فهم حاولوا توظيف إمكانياتهم وقدراتهم وبراعتهم هذه المرة في منح براءة الاختراع في صناعة الموت لغيرهم، المتمثل بالنظام في سورية، فما من معركة تُدار من جديد، وما من مفاوضات تفشل وتُعلّق إلا لأنّ الخلاف الجوهري كامن في شخص الرئيس الأسد، فيكون هو المتهم والمدان في كلّ ما يحصل.
فإذا رحل الأسد، تسقط سورية ويتقاسم الجميع الحصص والغنائم ويضعف حزب الله وتُشلّ حركة إيران في المنطقة،
ولن تكون روسيا الطرف القوي الكاسر في ميزان القوى…
صار تخبطهم واضحاً، أكثر من وضوح الموت الذي صنعوه لنا، ولم تعد مرامي التصعيد أمام أي تقدم أو انسحاب أو اتهام لغزاً يصعب فهمه أو شيفرة لا بدّ من فكها، وإن فكت لا بد لنا أن نقف عند مداخل ومخارج التحليلات والتكهنات لمعرفة مداها وأبعادها… ستُسحب بضاعتهم من الأسواق كافة وسيشهد العالم صناعة جديدة تضاهي صناعة الغرب في التطور والحضارة. هي صناعة الحياة الحرة التي تُبنى على ديمقراطية لم يشهدها الغرب يوماً… ديمقراطية اختيار الوطن الذي لا يعلق عليه أي احتمال آخر مهما حصل…
حلب لن تحترق، ولن تموت لكنّها حلب تنتظر حسماً عسكرياً. لا تفاوض ولا هدنة، تنتظر حسماً عسكرياً يشفي غليل المقهورين وقلوب المفجوعين فلا تَسامح ولا رحمة مع من يدمّرون الوطن ويقتلون الأبرياء ويتباهون بجرائمهم على الملأ ولا يأبهون…