تدمر الحضارة والفن والخير والجمال تقوم من تحت الردم

على المسرح الروماني الشهير في مدينة تدمر الأثرية، أحيا ما يزيد على 500 من موسيقيّي سورية، احتفالية عيد الشهداء المئوية تحت عنوان «بوابة الشمس»، تمجيداً وتخليداً لشهداء سورية، بعد أربعين يوماً على دحر إرهابيي «داعش» من المدينة الأعجوبة كما سمّاها الآراميون، على أيدي بواسل الجيش العربي السوري.

سوريون من كلّ المدن والقرى السورية حثّوا الخطى من الشارع المستقيم إلى المسرح الذي شهد في تموز الماضي أفظع الجرائم، حين أوعز تنظيم «داعش» لأطفال يسيطر عليهم، بتنفيذ جريمة إعدام بالرصاص بحق 25 إنساناً قبل أن يعدم إرهابيو التنظيم التكفيري مدير آثارها العالم خالد الأسعد، ويمثّلوا بجثمانه بعد صلبه على أحد الأعمدة في مدينته التي أحبها.

وعبّر القادمون عن سعادتهم الغامرة لوجودهم في تدمر، فكان حالهم حال من وجد شيئاً ثميناً ظنّ لوهلة أنه فقده أبد الدهر. آباء الشهداء وأمهاتهم من تدمر كابروا على جراحهم وتناسوا لوعة فراق فلذات أكبادهم ممتلئين بشعور حب الوطن. بدرية حسين، والدة المعلّمة الشهيدة فاطمة آغا، والتي غالبت دمعتها وهي تتحدث عن ابنتها الشهيدة التي قتلها إرهابيو «داعش» لأنها رفضت الإذعان لأفكارهم الظلامية تقول: اتهموها باستهزائها بدينهم فقتلوها. الحمد لله رجعنا إلى بيوتنا، وتدمر بخير. وهذا ما ردّده والد فاطمة: عدنا إلى مدينتنا فخورين بجيشنا والعيش بكرامة في وطننا.

عيد أحمد السبكي، أبٌ لشهيد يقول: أنا وأولادي فداء لسورية. معبّراً عن فرحته بالقدوم إلى مسرح تدمر مجدّداً، والذي يصفه بأنه تراث حيّ كما شعب سورية. فتدمر حضارة إنسانية نعتزّ بها.

المسرح الذي أراده الإرهابيون مكاناً لسفك الدماء، اشتعل بنور الموسيقى والفنّ السوري، ليرسخ الصورة الدائمة لهذا المكان الذي عكس وجه سورية الحضاري بمشاركة فرق موسيقية هي فرقة مراسم الشرطة والجيش والقوات المسلحة «جوقة الفرح»، والفرقة الوطنية للموسيقى العربية، والفرقة السمفونية الوطنية السورية،ـ و«كورال الحجرة».

ميساك باغبودريان قائد الفرقة السمفونية الوطنية السورية، أكّد أن تدمر جزء مهم من تاريخ سورية الممتد والكفيل بمواجهة أيّ فكر إرهابي يحاول العودة بالسوريين إلى عصور الظلام. وقال: إن سورية مصدر النور، ولذلك كان من الضروري اليوم أن نفتح مجدداً بوابة الشمس لتنير سورية والخارج.

وأوضح باغبودريان أن الفرقة السمفونية الوطنية السورية عزفت على المسرح الذي كان الإرهابيون ينفّذون عليه أحكاماً بالإعدام، لنشر ثقافة الحياة والحضارة، ولمحو تلك الصورة السوداء التي حاولوا طبعها في ذاكرة هذا المكان. معتبراً أن الوقوف على مسرح تدمر مهمّ جدّاً لقيمته الأثرية والمعنوية في قلوب السوريين الذين غمرت قلوبهم السعادة حين استعاد أبطال الجيش العربي السوري المدينة وطردوا منها إرهابيي «داعش».

وعن المقطوعات التي قدّمتها الفرقة، أشار باغبودريان إلى أنها تنوّعت بين العالمية والعربية ومنها «مارش النصر» من أوبرا عايدة لجوزبيه فيردي، إضافة إلى أغنيتين تمسّان مشاعر السوريين بشكل خاص في هذه الأوقات «مهما يتجرّح بلدنا» للمطرب اللبناني زكي ناصيف، و«سورية يا حبيبتي» للأخوين فليفل.

ووصف باغبودريان شعوره بالوقوف على مسرح تدمر بأنه حلم كبير عاشه مع زملائه المشاركين في التحضير لهذه الاحتفالية. مضيفاً أن حلم العزف على مسرح تدمر بعد خلاصها من الإرهاب تحقّق، وهم ينتظرون الآن الذهاب إلى حلب وكل المدن السورية لنشر الموسيقى والحضارة والثقافة.

من ناحيتها، قالت قائدة إحدى جوقات الفرح، رجاء الأمير الشلبي، إن مشاركة الجوقة في الاحتفالية كانت عبر تقديم أغان تمثل النصر والفرح وتعكس حضارة سورية وتدمر. مشيرة إلى أن 142 شاباً وفتاة قدّموا مقطوعات وأغنيات على مدى 18 دقيقة تفاعل معها الحضور بشكل لافت.

ولفتت الشلبي إلى أنه تم استبدال كلمات بعض الأغاني التي تحكي عن النصر بكلمة تدمر، وأن جميع أعضاء الجوقة كانوا متحمسين جدّاً وقدّموا الأغنيات بإحساس كبير. وقالت إن جوقة الفرح التي قدّمت خمسة شهداء على مدى سنيّ هذه الحرب استعادت ذكراهم، وشعرت بأن حقها استعيد بتحرير تدمر وإقامة هذه الاحتفالية على مسرحها.

الفنان مصطفى الخاني كان أحد الفنانين السوريين الذين حضروا الاحتفالية وقال: إننا هنا اليوم لنقدّم ثقافتنا السورية الحقيقية من أدب وفنّ، والقول إن هذه هي سورية التي تعرّضت على مرّ التاريخ لغزاة سابقين من التتار والمغول حاولوا تدميرها لكنها بقيت. مشيراً إلى أنهم أرادوا أن يجعلونا نشعر باليأس في لحظات بأننا لن نعود إلى تدمر ثانية، إلا أننا عدنا بهمّة السوريين وجيشهم لنؤكد أن سورية هي جمال الحضارة وحضارة الجمال. بأيدينا وتصميمنا جميعاً سنحميها.

الخاني، الممثل الذي ذاع صيته في عدد من الأعمال الدرامية، وقف عاجزاً عن وصف شعوره وهو يهمّ بالدخول إلى حرم المسرح. لافتاً إلى أنه خليط من الإحساس بالسعادة والفخر والاعتزاز بتضحيات أبطال الجيش العربي السوري والشباب السوريين الذين ينتجون الأدب والفن السوري للحفاظ على الثقافة والحضارة السورية.

ولم يُخفِ المخرج المهند كلثوم تأثّره بحضور هذه الفعالية على مسرح تدمر في عيد الشهداء، لكونه ابن شهيد. واصفاً هذا اليوم بأنه استثنائي تمتزج فيه مشاعر الفخر بتضحيات الشهداء والفرحة بعودة تدمر التي تختزن ثقافتنا وحضارتنا… «رجعت للسوريين».

وأكد كلثوم أن وجوده مع كثيرين من فنّاني سورية لحضور الفعالية، هو للتأكيد على حرص جميع السوريين على آثار البلاد وحضارتها، والحفاظ على الهوية السورية.

أما الفنان فادي صبيح، ورغم شعور الصدمة الذي انتابه وهو يدخل المدينة الأثرية لما وجده من تدمير وعبث بالحضارة الإنسانية على يد الإرهابيين، فأكد أن نور الحضارة والفنّ عاد ليشعّ من جديد وسيرسل موسيقيّو سورية رسالة حضارية إلى كل العالم وسيشارك الجميع ملكة تدمر زنوبيا فرحة الانتصار.

إلى ذلك، لم يكن أكثر من 100 إعلامي يمثلون نحو 50 وسيلة إعلامية بينها أوروبية وأميركية، أقل اندهاشاً بحضارة تدمر، ورأوا في الاحتفالية تأكيداً على انتصار سورية على الإرهاب. إذ قال ميخائيل علاء الدين مدير مكتب روسيا سيغودينا الوكالة الوطنية الروسية في دمشق، إن الحضور الإعلامي الكبير يدل على الأمان في مدينة تدمر التي استعادها الجيش السوري مع حلفائه وأصدقائه. مؤكداً أن الإعلاميين يستطيعون أن يروا جمال هذه المدينة في يوم هو ذكرى للشهداء الذين قدّموا دماءهم لحماية سورية.

الإعلامي اللبناني غانم شرف الدين أكد أن الوجود اليوم في تدمر هو تأكيد على أن إرادة الشعب السوري هي التي انتصرت على الإرهاب. مشيراً إلى أنه رأى مع الإعلاميين حجم التدمير الذي ألحقه إرهابيو «داعش» بالمدينة، إلا أن ذلك لن يمحو الحضارة السورية الإنسانية.

بدوره، عبّر مراسل جريدة «الشعب» الصينية هوان عن سعادته لوجوده في تدمر مشيراً إلى أن إقامة هذه الاحتفالية انتصارٌ على الإرهاب.

بالطبع هي البداية، بوابة شمسنا الساطعة لم يتمكن ظلامهم من أطفائها. عظيمة بنصرها، نصرها الذي لم يكن لولا الجيش العربي السوري الأبيّ. وأهل أحبوا أرضهم وانتموا إليها، وشعب صمّم وأراد وصمد وضحّى. وموسيقى ستصدح اليوم رغماً عن ظلامهم وتطرّفهم. بوابة شمسنا بدايتها اليوم في تدمر وغداً في حلب وكلّ سورية.

تجدر الإشارة إلى أنّ فعالية بوابة الشمس، حضرها حشد كبير، من أسَر شهداء من تدمر والمحافظات السورية، ووزراء: شؤون رئاسة الجمهورية منصور عزام، والسياحة بشر يازجي، والثقافة عصام خليل. وفاعليات رسمية وشعبية وثقافية وفنية وإعلامية، وفرق شبابية تطوّعية تمثل المجتمع الأهلي، غصّ بها مدرج تدمر الأثري الذي يتّسع لأكثر من 1500 شخص.

وفي تصريح صحافي، قال وزير الثقافة عصام خليل إن ما نشهده اليوم من ظاهرة احتفالية ما هو إلا رسالة تقدير وتمجيد للشهداء الذين قدّموا حياتهم لتبقى سورية خالدة مستمرّة. مشيراً إلى أن تدمر العظيمة التاريخية الراسخة في الدهر لا يمكن إلا أن تنتج المعرفة الإنسانية التي تتيح للأجيال أن تتكامل وتتواصل وتستمر في إنتاج إبداعها النوعي.

ولفت خليل إلى أن الاحتفالية رسالة إلى العالم تقول إن السوريين هم أبناء الشمس وهم مستمرّون في ألقهم ومجدهم.

بدوره، أكد وزير السياحة بشر يازجي أن تضحيات الجيش العربي السوري أعادت تدمر إلى سياقها التاريخي. والشباب السوري بفعاليته يعيدها إلى سياقها الإنساني والطبيعي.

وقال يازجي: إن أرواح شهداء مدينة تدمر من جنود الجيش الذين أعدموا على مسرحها الأثري موجودة في سماء تدمر ترفرف فوق رؤوسنا، وصورهم موجودة في قلوبنا كما هي أسماؤهم محفورة على جدران مدينة تدمر التي أذهلت العالم عندما خطفها إرهابيو «داعش»، وهي اليوم تذهله بإعادة الحياة الطبيعية إليها على أيدي أبطال الجيش العربي السوري.

وقال يازجي إن مدينة تدمر اليوم أكثر غنى وسموّاً، وهي تعتبر نقطة جذب كبيرة لكلّ السيّاح من حول العالم. مشيراً إلى أن وزارة السياحة بصدد إعداد خطة من أجل العودة التدريجية لمدينة تدمر تبدأ بزيارة اليوم الواحد ريثما يتم تأهيل المنشآت وعودتها إلى وضعها المقبول.

من جانبه، أكد محافظ حمص طلال البرازي أن سورية ستبقى بلد المحبة والسلام والثقافة والحضارة والتاريخ ولن تقبل التكفيريين والمجرمين والقتلة، وستبقى بلداً للتعايش والمحبة.

ومن موسكو، أعلن آلِكسي بوشكوف رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس النواب الروسي الدوما، أن الحفل الموسيقي الذي أقيم في مدينة تدمر، ردّ على تشكيك الولايات المتحدة في شأن استعادتها من تنظيم «داعش» الإرهابي.

ونقل موقع «روسيا اليوم» عن بوشكوف قوله على صفحته في موقع «تويتر»، إنه في وقت ستقرّر الولايات المتحدة هل كان تطهير تدمر من سيطرة تنظيم «داعش» أمراً جيداً أم لا، أصبح الحفل الموسيقي المدهش في مدرجات تدمر ردّاً أذهل العالم كلّه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى