ماذا بقي من الجيش الذي لا يُقهر… سوى «داعش»؟

كتب نارام سرجون

أسوأ العبارات هي العبارة الناقصة والتي يكون المبتدأ فيها بلا خبر… وأفعالها مبنيّة للمجهول واللانهاية… ومليئة بالقطعيّة والحتميّة لأنها قتلت المستثنى… وأكبر مثال على تلك العبارات الخليعة هي عبارة من تصميم الصناعة العسكرية «الإسرائيلية» التي قالت يوماً: انّ الجيش «الإسرائيلي» جيش لا يقهر…

عندما كنا نقرأ عن القلق الوجودي عند «الإسرائيلي» لم نكن نعرف عمق هذا الخوف الممتدّ على طول آلاف السنين… ولم نكن نعرف أنّ ميكانيزما الدفاع ضدّ الخراب والفناء قد أنتجت لنا عبارة «الجيش الذي لا يُقهر»…

الجيش الذي أريد به أن يعني في ما يعنيه الوجود الذي لا يقهر … فالجيش هو ضامن وجود «إسرائيل» ويجب أن يقترن الوجود بأنّ حاميه لا يُقهر… وقد استثمر الجيش «الإسرائيلي» نصره في حزيران 67 لتعزيز الشعور بالأمن والبقاء في قلب الوجود وللتخلص من عقدة الخوف من الخراب الذي استولى على حكايات الكتب القديمة التوراتية… فكان أن نحَت عبارة «الجيش الذي لا يُقهر… مفخرة جيوش العالم»…

كان من سمّاه الجيش الذي لا يُقهر يرتكب خطأ لا يُقهر في الحقيقة… فهذه العبارة كانت تثير في المؤرّخين العقلانيّين الابتسامة الساخرة… ليس لأنّ فيها خللاً أو خطأ لغوياً… بل لأنها ناقصة تكوينيّاً… وجملة غير مكتملة… وكلّ عبارة ناقصة لا يسمح لها بالدخول الى بلاط المنطق والمفاعلات العقلية… لأنّ العسكريين لا يؤمنون بجيش لا يُقهر… والتاريخ كذلك… وهي أحجية لفظية يتسلّى بها الضعفاء… وذوو الهمم الكسالى…

كنت أحاول أن أعرف جواب تلك الأحجية… والكلمة الناقصة… والمستثنى بإلاّ… فالعبارة فيها شيء غريب وخلل فني ولغوي، ولا تنسجم مع منطق الجغرافيا والتاريخ والتحوّلات العسكرية… لأنّ الحدس أحياناً أقوى من المؤشرات العقلية كلّها… وحدس العقل كان يقول بأنّ العبارة ليست مكتملة ولا تنسجم مع الذائقة العسكرية والتاريخية ولا تتفق مع قوة الإرادة في أرض كنعان…

الجيش الذي لا يُقهر انتشر يوماً بسرعة في جبهات ثلاث وابتلع مثل الثعبان فيلاً بحجم سيناء… سرعة لا تشبهها إلاّ سرعة «داعش» في الانتشار وطريقة «داعش» في الانتصار خلال ستة أيام على فرق عراقية كاملة… فلا يشبه سقوط الموصل وتهاوي دفاعاتها وتقهقر جنرالاتها إلاّ تهاوي الضفة الغربية والجولان وسيناء دفعة واحدة عام 67… ولا يشبه انسحاب قادة الجيش العراقي المتوتر من تلك المدينة سوى قرار المشير عبد الحكيم عامر بالانسحاب الفوضوي من سيناء من دون الرجوع الى أحد أو التنسيق مع بقية القادة والذي تبعه انهيار إرادة القتال تحت سطوة أنباء هزيمة مصر الدولة العربية العظمى آنذاك…

الجيش الذي لا يُقهر أقيم لدويلة صغيرة أنشئت لأفراد متعصّبين دينياً لا يختلفون كثيراً عن مفهوم «داعش» الحالي… وهم في الحقيقة «داعش» اليهودية… لها حلم الخليفة أبي بكر البغدادي وجنود الخليفة نفسه في بناء عالم خاص بهم… والتشابه بينهما يكاد لا يصدّق من حيث النشأة… فكما نشأت «إسرائيل» بعصابات «شتيرن» والهاغاناه» فأفرغت الديموغرافيا برعب المجازر والدم والقسوة المفرطة، ولقيت الدعم والغطاء من الغرب فإنّ نشأة «داعش» سارت على الطريق نفسه من دون أدنى انحراف… فهي تلجأ إلى العنف المفرط لإفراغ الديمغرافيا ممن لا يوافقها مذهبياً ودينياً عبر تطهير مذهبي صريح… ولكن حتى من يوافقها مذهبياً فإنها تعامله بالقسوة المفرطة نفسها لتثبيت معادلة أنّ هذا التنظيم ليس لعنفه حدود، وأنّ مجرّد التفكير في مواجهته يشبه استفزاز الثعبان الأسود في جحره…

و»داعش» مثل نظيرتها «إسرائيل» لم يكن ممكناً أن تقوم بمشروعها من دون غطاء غربي صريح عبر غضّ النظر عن تمدّدها وتمدّد جريمتها، حيث أنّ تركيا التي تمثل الناتو في رعايتها لـ»داعش» كما هي أميركا لـ»إسرائيل»… وهي العشّ الذي تفقس فيه البيوض تحت عين «الناتو» نفسه… ومثلما تقوم «إسرائيل» بتهويد كلّ ما تصل اليه يدها فإنّ «داعش» تدمّر هوية المنطقة كلّها وتفتك بمذكرات المنطقة كلّها المحفوظة في الآثار والمقامات واللقى الأثرية لـ»تدعيش» ذاكرة المنطقة، وإعادة كتابة تاريخ المنطقة منذ لحظة قيام «داعش» لا قبلها… تدمير مماثل ومتطابق لجميع معالم المنطقة تقوم به «إسرائيل» و»داعش» استعداداً لتهويدها… المنطقة العربية صارت تشبه متحفاً عظيماً مفتوحاً على الهواء الطلق يتمّ تحطيم محتوياته وتماثيله ولوحاته البديعة بيد مجموعة من اللصوص والمخرّبين المعتوهين… ويمكن من دون تردّد تسمية المستوطنين اليهود في فلسطين «داعش اليهودية»… وتسمية «داعش» باسم «إسرائيل الإسلامية»…

المهمّ أنني لم أعرف الجزء المفقود من العبارة المنحوتة بعناية عن «الجيش الذي لا يُقهر» إلاّ عندما تكسّرت أرجل هذا الجيش عند مارون الراس وعندما كانت بنت جبيل اللبنانية تبطحه أرضاً وتثبته مثلما يثبت المصارع مصارعاً آخر على الأرض ويجعله غير قادر على التحرّك كأنّما ربطه الى الأرض بالسلاسل… وفي بنت جبيل ظهر طرف صندوق مخبّأ فيه كنز بدايته في بنت جبيل ونهايته في غزة… وفيه تتمة العبارة الناقصة…

العبارة بقيت مدفونة مثل الكنز في مكان مجهول في داخلي أبحث عنه ولا أجده الى أن خرجت مني عفوياً عندما سمعت السيد حسن نصرالله يعلن دحر الجيش «الإسرائيلي» الذي لا يُقهر… وصارت العبارة الكاملة هي: الجيش «الإسرائيلي» الذي لا يُقهر… إلاّ من الشمال…

لكن هذا الشمال كأنّما حفر نفقاً طويلاً من مارون الراس إلى غزة فظهر من هناك فصار اسمه الشمال الذي تمدّد ووصل الى الجنوب وبرز في غزة… وهكذا صار «الجيش الذي لا يُقهر إلاّ… من الشمال والجنوب»، وإذا ما رحل ابن أنطوانيت غاردنر اليهودية المسمّاة منى الحسين عن شرق الأردن فستصبح العبارة… الجيش «الإسرائيلي» الذي لا يُقهر إلاّ من الشمال والجنوب والشرق…

الحقيقة أنّ الأيام أثبتت أنّ هذا الجيش الذي لا يُقهر لم يعد صالحاً إلا لاستعماله ضدّ المدنيين والعمارات والمساكن ولم يعد جيشاً قتالياً فلا هو صالح في تضاريس لبنان ولا في انبساط غزة… ولا هو ينتصر في الحر ولا هو ينتصر في القرّ… وهو من الصواريخ أفرّ… وأنه في مقاييس الجيوش لم يعد هناك كبير فرق بينه وبين حليفه الجيش السعودي من حيث افتراق الإنفاق والتجهيز وقوة الأداء.. فالجيشان لديهما أكبر ترسانة أسلحة أميركية وأكبر موازنة دفاع في المنطقة، ومع ذلك فلا يبدو الفرق كبيراً في أداء الجيشين، فالجيش السعودي هزمه الحوثيّون ببضع عشرات من المقاتلين، وكذلك «الإسرائيلي» صار نموذجاً يدرّس في العالم عن القوة الجبارة التي تهزمها قوى صغيرة محلية… وليس مبالغة بعد اليوم القول إن لا فرق بين يعالون وبين الجنرال خالد بن سلطان من حيث العبقرية العسكرية… فالمدارس العسكرية لا شك تدرّس عبقرية نابوليون بونابرت ورومل ومونتغمري ونيلسون وغيرهم، لكن من دون شك لن تقوم مدرسة عسكرية في العالم بتدريس عبقرية خالد بن سلطان أو عبقرية نظيره يعالون أو عمير بيرتس أو دان حالوتس إلاّ كنماذج على الترهّل العسكري والإفراط في «تأليل ومكننة» الجندي وتحويله الى لاعب كمبيوتر… لكنها لا شك ستدرّس في كلياتها عبقرية عماد مغنية الذي كشف الحجاب عن العبارة المخفيّة في عبارة «الجيش الذي لا يُقهر» وهو الذي أضاف عبارة «… إلا من الشمال» الى عبارة ناقصة صنعتها مخيّلة خصبة يهودية تقول «الجيش الذي لا يُقهر»… ولا شك في أنّ عبقرية العقيد السوري النمر وضباط الجيش السوري الذين خاضوا أصعب حرب نفسية وعسكرية في التاريخ ضدّ آلاف الغزوات ولم يخسروا المعركة، ستفرد لها الكليات العسكرية في العالم الكثير من البحث والمراجعة للتعلّم منها والإفادة من نظرية «الإنسان المحارب مقابل الروبوت المحارب».

إخفاقات الجيش «الاسرائيلي» تدرّس الآن في كليات العالم العسكرية لتفسير هذه الظاهرة التي خالفت التوقعات العلمية وعنجهية الإحصاءات وغرور التكنولوجيا وسطوة الإلكترون وعلم الفضاء والعلوم العسكرية الغربية التي تعتبر نفسها خلاصة نظريات وحروب العالم منذ بداية التاريخ… هل السبب هو في الإفراط في التكنولوجيا أم الإفراط في الغرور والوهم؟… أم هو الإفراط في معاندة التاريخ والجغرافيا؟ أم أنه تطوّر طبيعي نحو تفسّخ الدول الذي يبدأ بتدهور قوتها العسكرية؟… فالوجود الوطني تحميه الجيوش… وقهر الجيوش يقهر وجود الأمم… والتاريخ مليء بأمثلة لأمم انتهت بانتهاء جيوشها… ومن هنا نفهم جهد «إسرائيل» الدؤوب على تدمير الجيوش العربية الرئيسية المصري والعراقي والسوري… لأنّ هذه الجيوش هي الأعمدة التي يستند إليها استقرار المجتمعات الثلاثة الرئيسية حاضنة التاريخ المشرقي… وتغييب الجيش العراقي بحلّه في أول قرار لـ بول بريمر خير دليل على صوابية هذه القاعدة… وتماسك الجيش السوري الذي أمسك بالوطن السوري ومنع تفتته دليل أكثر دقة على هذه القاعدة الحديد…

عندما يتكسّر الجيش الذي وصف يوماً بأنه لا يُقهر على أعتاب غزة ومارون الراس وبنت جبيل… ينهض القلق الوجودي العظيم الذي أقامه نبوخذ نصر… وكوابيس الخراب… ويمرّ الجميع على سؤال عما بقي من الجيش الذي لا يُقهر…

والجواب هو: لم يبقَ منه إلاّ فرقة واحدة اسمها… «داعش».

السؤال الذي سيلبّي دعوتنا بسرور عندما نستدعيه هو: هل المحور الذي قهر الجيش الذي لا يُقهر وبدأ في تفكيك براغي جيش الدولة اليهودية ووجودها لن يقدر على الفتك بآخر فرقة فيه… أيّ بفرقة «داعش»؟

هل «داعش» لا تقهر؟ إذا كانت كذلك فهي مثل جدتها العبارة «الإسرائيلية» القديمة عن الجيش الذي لا يُقهر… فهل هناك من يتمّم لنا هذه العبارة الناقصة عن جيش «داعش» الذي لا يُقهر؟

لن يطول انتظاركم على الإطلاق لتعرفوا العبارة الناقصة… والمستثنى بإلاّ… وستتكوّن الإجابة من دون مساعدة أيّ محلل سياسي أو عبقري… وسنعرف ماذا بعد عبارة «داعش التي لا تقهر»… إلا…» ولكم أن تفكروا وتضعوا الإجابة الصحيحة…

أجيبوا بسرعة… فالإجابة قد تسمعونها في خبر عاجل… في يوم قريب…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى