ذكّر إن تنفع الذكرى

في مثل هذه الأيام كل عام، منذ عام 2006 تحلّ ذكرى حرب تموز. ونحاول أن نقرأ وأن نكتب وأن نعيد القراءة والكتابة. وهذا بعض من تلك المحاولات أعيدها للتذكير، والمقارنة للخلاصات بما أظهرته حرب تموز الثانية في غزّة.

تغيّرت معادلات السيّد؟

في 15/8/2013

لا جدال في أنّ ما جرى في مثل هذه الأيام قبل سبع سنوات أنتج معادلات جديدة حكمت المنطقة التي تتمحور حول التوازن المحيط بأمن «إسرائيل»، وأنّ إنجاز المعادلات هذا، كشف عن وجود معادلات وقفت وراء ما فعلته المقاومة في حرب تموز 2006 حتى 14 آب، حتى صار حقيقة غيّرت وجه المنطقة.

لا جدال أيضاً بغضّ النظر عن التوصيف والتسمية وبين المعترفين بالنصر أو منكريه في أنّ كل ما تشهده المنطقة منذ ذلك التاريخ فيه نسبة ترتفع وتنخفض من تلك المعادلات التي صنعت الإنجاز أو تلك التي صنعها الإنجاز.

لا جدال في أنّ «إسرائيل» خرجت من الحرب عكس ما دخلت لجهة قوة الردع والقدرة على الذهاب إلى الحرب والشعور بالأمن والثقة بالاستمرار والوجود كما لا جدال في أن هذه التغييرات طاولت «إسرائيل» بنيوياً من أعلى مراتب القيادة والقرار إلى أدنى مستويات المتسوطنين والناخبين، وهذه بالمناسبة مقتطفات من تقرير التحقيق في أسباب الفشل وتداعياته المسمى تقرير «فينوغراد» كما تقرير «كاهان».

لا جدال أيضاً في أنّ الغرب المستند إلى وجود «إسرائيل» قوية في الشرق المهم والمهم جدّاً على مستوى أمنه الاستراتيجي ومصالحه التي يختصرها مشروع الهيمنة والمرتهن في كثير من قواعد حياته السياسية والاقتصادية الداخلية لنفوذ اللوبيات خادمة «إسرائيل» قد استشعر هذه التغييرات و معها المزيد من القلق والمزيد من الحوافز للتحرّك.

لا جدال أيضاً في أنّ مفردات كثيرة في حياتنا السياسية والأمنية والاقتصادية على مستوى العالمين العربي و الإسلامي، لا تزال صناعتها أو إدارتها إذا لم تكن صناعة صافية، تتم في مراكز قرار غالبيتها مرتبطة بالغرب وتتأثر بحساسياته ومخاوفه وتخضع لتعليماته، أو في الحدّ الأدنى تحترم تطلعاته أو في مصارف ومرجعيات اقتصادية تحتكم لقواعد الغرب وممنوعاته ومحفّزاته، ولإعلام يتبع ويقلد ويتلقى كثيراً توجيهات الغرب، واستخبارات تتواصل مع استخبارات الغرب وتتصل بها أو تأتمر بأوامرها.

لا جدال إذاً في أنّ الزلزال الذي هزّ «إسرائيل» منذ سبع سنوات جاءت ارتداداته في البلاد العربية في إطار مفهوم يلاقي نتائج المعادلات التي أنتجتها المقاومة وسيّدها، وإن لم تكن كل مفردات المشهد العربي صناعة كاملة لتخدم وظيفة مرسومة، فهي حاصل تفاعل مع أحداث فرضتها سياقات داخلية. لكن ثمّة عقول وخطط وإمكانات رصدت للسيطرة عليها وإعادة توجهيها والتحكم بمساراتها لخدمة رؤية تتصل بصناعة معادلات جديدة، تنسف تلك التي صنعت ما أنجز في تموز، خصوصاً ما نتج عنها.

أصبح ممكناً اليوم تلخيص المشهد العربي الجديد بعد سنوات على ما سمّي بثورات الديمقراطية والربيع العربي بثلاثة عناصر هي:

ـ أولاً: تعميم الفوضى على شفا الحرب الأهلية والتفتيت والتقسيم في كثير من الحالات.

ـ ثانياً: فقدان الجيوش الوزانة في الدول الوازنة القدرة على البقاء في ثكناتها كقدرات استراتيجية تنمو عدداً وعدّة وقدرةً، وصولاً إلى استهدافها وضرب بنيتها وخبرائها وأسلحتها.

ـ ثالثاً: خروج القيادات السياسية التاريخية من المشهد الرسمي لحساب أحادية سعودية تتمركز حولها إدارة النظام العربي الرسمي الذي أخرج سورية ليستتب له القرار.

ـ السؤال الاستراتيجي الجدّي لا يتصل بما أصابت ارتدادات زلزال 2006 وما ترتب عليها من خسائر وهي كثيرة. بل السؤال: هل تغيرت معادلات السيّد حسن نصر الله صانع نصر تموز وصانع المعادلات التي أنتجته، وصاحب المعادلات التي ترتبت عليه؟

ـ في قلب المعادلات ينتصب جسران يحملان باقي العناصر، جسر يتصل بقدرات «إسرائيل» وميزانها الاستراتيجي، وجسر يتصل بجسم المقاومة وقدراتها. والمقصود هنا بالميزان والقدرات كل أمر سياسيّ ومعنوي وعسكري واقتصادي.

على ضفة «إسرائيل» يمكن تلخيص معادلة الهزيمة في تموز بعدّة عناصر:

ـ الأول هو عدم قدرة الكيان على تحمل الخسائر الناتجة عن أيّ تقدم برّي يصيب الجنود والآليات ويخفق في تحقيق أيّ تقدّم ميداني يعادل هذه الخسائر ويجعل الداخل «الإسرائيلي» قادراً على تحمّلها وتقبّلها، وتدعيم خيار المضي في الحرب للمزيد من الإنجازات. والمعادلة هنا معادلة معنويات الرجال وصلتهم بقضية وجودية تفقد بريقها كلما تقدّمت «إسرائيل» بالعمر وتسليحياً لها صلة بالقدرة على تفادي الإصابات بسلاح الدبابات أو سلاح الحوامات وهما عصب كل حرب برية «إسرائيلية» منذ حرب تشرين عام 1973 وثغرة الدفرسوار التي صنعت امجاد أرييل شارون ومحاصرة الجيش المصري الثالث وكما قالت حرب لبان منذ عام 1982 وكما أكدت حرب تموز 2006 وما بعدها في حربَيْ غزّة بعدما كان سلاح الجو وحده يتكفل بصناعة النصر والردع وفقاً لحرب 1967 وبات على رغم قدرته التدميرية هامشياً في صناعة النصر في زمن حرب الصواريخ.

ـ الثاني عدم قدرة الجبهة الداخلية «الإسرائيلية» على تحمل تبعات تساقط الصواريخ على العمق الاستيطاني والاقتصادي و العسكري والسكاني بكل المرتبات المادية والمعنوية لذلك الاستهداف الذي لم تعش هواجسه في الحروب التي سبقت حرب تموز. وهي قدرة ثبت أنها في تناقص مستمر كلما تقدم عمر الكيان. وأصبحت الأجيال الرابعة والخامسة هي المعنية بلعبة الحياة والوجود فيه، ما لم يشفها حلّ تقنيّ يجعلها بمنأى عن هذا الخطر وتأثيراته التي لا شفاء منها، إذا وصل هذا الاستهداف وطاول العمق وعمق العمق.

ـ الثالث، عدم قدرة «إسرائيل» على تحمّل حرب طويلة المدى الزمني، وكانت حرب تموز أطول حروبها قبل تموز وبعده، فمن حرب الأيام الستة عام 1967 إلى تسعة عشر يوماً في حرب 1973، مع وقف النار على الجبهة المصرية التي انتهت معها الحرب كحظر عسكري واستراتيجي، على رغم استمرارها حتّى 31 أيار 1974 كحرب استنزاف محدودة على جبهة الجولان، وانتهاء بـ22 يوماً في حرب غزّة الأولى 2008 ـ 2009 و11 يوماً في حربها الثانية 2012، وذلك لأسباب التكوين القائم على المهاجرين إلى الكيان ومخاطر الهجرة المعاكسة أو لأسباب اقتصادية تتصل بقدرة الصمود، خصوصاً تأمين دورة الكهرباء والوقود وحجم قدرات التخزين في كيان بلا عمق جغرافي، ويستند إلى بحر مكشوف للنار في حالة الحرب. جاءت حرب الأيام الـ33 لتكون فعلاً أطول حروب الكيان الصهيوني، ليس من باب الصدفة.

ـ الرابع، عدم قدرة «إسرائيل» على توسيع نطاق حربها مع المقاومة لتصير حرباً شاملة تطاول في نهاية المطاف سورية وإيران، ليقينها أنّ البعد المعنوي لانخراطهما في الحرب، سيزيدهما وزناً شعبياً وسياسياً، ويحاصر حلفاءها وداعميها في النظام العربي الرسمي، ويحرجهم. كما سيزيد من مخاطر تعرضها لنار أوسع وأشمل وأشد قساوة.

ـ الخامس، عدم قدرة الغرب، خصوصاً أميركا، على دخول الحرب عسكرياً بجيوشها إلى جانب «إسرائيل» لتعديل توازنات معينة سواء بالقدرة البشرية أو النارية، خصوصاً بعد المترتبات الناتجة عن فشل الحربين الأميركيتين الكبيرتين في العراق وأفغانستان، وما ترتب عليهما من آثار على نظرية الحرب الأميركية وشروط التورّط والتدخل وأشكالهما.

على ضفة المقاومة والسيد، هناك سبعة عناصر صنعت المعادلة في تموز وتكرّست بعدها:

ـ الأول، امتلاك جسم محترف من بضعة آلاف من المقاتلين المتمكنين من كل صنوف السلاح واستخدام أكثره تطوراً في مجالات حرب الصواريخ والدروع والدفاع البحري والجوي والاتصالات ومنظومات الإدارة والتجسّس والتنصّت والمتابعة. وهو جسم ممتلئ باليقين بالنصر، جاهز للتضحية وبذل الدماء، يحقّق ذاته الدينية بمفهوم الشهادة، وفي الحرب يتقن خوض معارك الأنفاق والالتفاف، ويستند إلى نظرية عسكرية قوامها أن الثبات يشكل نصف الحرب ونصف النصر.

ـ الثاني، الاستناد إلى بنية شعبية مساندة لخيار المقاومة تمدّه بالموارد البشرية والمعنوية والمادية، ولا تبخل بالتضحيات، وتتحمّل أقسى أنواع الدمار والخراب والقتل وخسارة الأرواح، وتثق بقيادتها حتى الموت، ولا تبدّل ولا تهتزّ ولا تتراجع، وتحيط بها شرائح إسناد متعدّدة طائفياً تشكل لها شبكة حماية في النسيج اللبناني المتعدّد.

ـ الثالث، امتلاك قدرة صاروخية تتنامى كمّاً ونوعاً، وقادرة على المناورة في وجه الدفاعات «الإسرائيلية» وإصابة أهداف في عمقه الاستراتيجي الاقتصادي والسكّاني والعسكري. ولديها آليات للعمل والاستمرارية في أقسى ظروف القتال والاستهداف والتعرّض للنار والدمار.

ـ الرابع، تطوير قدرات الحرب البرّية، خصوصاً الحصول على موارد الصواريخ المضادّة للدروع والحوّامات وتطويرها، وتصنيع العبوات الذكية والمعقدة التي تضاهي أحياناً فاعلية الصواريخ، بما يجعل القدرة اللازمة لخوض المواجهات مع أكثر الدبابات تحصيناً وأكثرها قدرة على المناورة أو أقواها وأخطرها، في مدى النار وقدرتها.

ـ الخامس، إتقان فنون الحرب النفسية وقواعدها بأشكالها المتنوعة، خصوصاً على مستوى القيمة الاستثنائية التي تميّز بها وأغناها سيد المقاومة، حتى صار رمزاً لها في العصر الحديث كما صار حضوره وصارت إطلالاته مواعيد مكرّرة لمواصلتها، وإثخان الجراحات «الإسرائيلية» في كل مرّة.

ـ السادس هو القدرة على تفادي الإنزلاق لحروب الفتن الداخلية، والبقاء على جهوزية قادرة على خوض أيّ مشروع حرب «إسرائيلية»، على رغم البيئة المعقدة المحيطة والمليئة بالحاسدين والحاقدين والمستعدين للتآمر والطعن من الخلف وحشد القدرات للتوريط في الحروب الجانبية.

ـ السابع هو القدرة على بناء صدقية تسمح باستثمار جاذبية القضية الفلسطينية في النفوس والعقول والقلوب العربية والإسلامية وربط قضية المقاومة بها وتجذير حضور فلسطين في الوجدان الجمعي للعرب والمسلمين، بصورة تتيح دائماً استنهاض شبكة شعبية وسياسية حاضنة للمقاومة توازن أو تتفوق أو تنجح في إحداث الشلل بقدرة التواطؤ الرسمي العربي، وأحياناً شق صفوفه. كما تنجح في استقطاب جزء من المؤسسات العربية السياسية واليبلوماسية والإعلامية لتعويض ضعف المقاومة في هذه المستويات، خصوصاً كلما نجحت العوامل الجوهرية في حركة المقاومة التي تمثلها صناعة الانتصارات.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى