«رسائل حبّ إلى زهرة الأرطانسيا» لأحمد لوغليمي… قصائد هايكو في مرمى الحكمة والجمال

سعيد السوقايلي

بعيداً عن أجواء الرومنسية التي زجّت بالشعراء في مطبّات المعاناة والآلام التي يسقطونها على الطبيعة. ينحو بنا الشاعر المغربي المقيم في إيطاليا منحى آخر ملؤه الصفاء واقتناص الجمال الطبيعي، وما يجود به من لحظات حكيمة تتفرد بها عناصر الطبيعة بكرمها وسماحتها وعذريتها. فأن تقرأ ديوانه «رسائل حبّ إلى زهرة الأرطانسيا» 2010، معناه أن تتجرّد من أفكارك وإيديولوجيتك، عارياً إلا من دهشتك الأولى.

عبر قصائد الهايكو الـ129، استطاع أحمد لوغليمي أن يروّض هذا الجنس الشعري العصيّ باقتدار وجمال، وقد كان وفيّاً للمحدّدات الفنية والدلالية لقصيدة الهايكو اليابانية التي تصوّر عبقرية الأدب الياباني. هي تقليد شعريّ طافح بحكمة اليابانيين العتيقة منذ نشوء هذا الجنس لديهم، إذ تعكس فذاذتهم في طريقة عيشهم وأسلوبهم الجمالي العابر لمجموعة من التقاليد والعادات، سواء في تصميم العمارة،

وفي إعداد الشاي وتنسيق الزهور والرسم بالحبر ولباس الكيمونو، وغيرها من الطقوس البوذية التي تعكس فلسفة البساطة والصفاء في رؤية الأشياء على سجيتها. هكذا جاءت قصيدة الهايكو عندهم مختصرة ومكثفة وموحية وصافية من كلّ فكرة ذاتية. فقط تصوّر مشهدية طبيعية في خلوّ تامّ من أيّ تشبيه أو استعارة معقّدة، كتلك التي تعرفها قصيدتنا العربية، قديمة أو حديثة، فهي تتوزع على ثلاثة أسطر، وتتألف من 17 مقطعاً صوتياً بنظام 5-7-5 بحسب خصوصية اللغة اليابانية ويبقى هذا العنصر اللإيقاعي مستحيلاً لنقله إلى باقي اللغات، لكنّه يظلّ المعادل الموسيقيّ لعروضنا وتفعيلتنا.

بيد أن كل العناصر الأخرى هي جائزة التوظيف أثناء كتابة هايكو خارج اللغة اليابانية. فأسطرها الثلاثة تتناول على التوالي ومن دون ترتيب ثلاثة عناصر ضرورية للهايكو: المكان، الزمان، الموضوع وللتقرّب أكثر من هذه المحدّدات، سوف نقارب قصائد الشاعر أحمد لوغليمي وفق ما تطرّقنا إليه سالفاً، يقول في نص «بلاهة»:

قيض

فزّاعة

ترتدي معطفاً!.

وأيضاً في «نموّ دام»:

تحت السدرة

زهرة تنمو

مطعونة بشوكة!

فكلا النصّين قد وفيا بالعناصر الثلاثة، كلمة «قيض» تحيل إلى موضوع موسمي وهو الصيف، وأيضا كلمة «زهرة» تدل على فصل الربيع، وتجدر الإشارة إلى أن شعراء الهايكو يستحسنون ذكر كلمة تحيل إلى نوع الفصل الطبيعي، من دون ذكره صريحاً، فهناك معجم ياباني يسمى «سايجيكي» يتضمن مجموعة من المفردات المقبولة للدلالة على فصل معيّن، لهذا السبب يبقى الموضوع الموسمي مهماً، حيث يقول عنها الشاعر أوتسوجي: «إن الموضوع الموسميّ هو الشعور الذي يبرز عن الرؤية المنزّهة عن الغرض، ممتدحاً نبل الطبيعة الخالية من الزخرف، وهو أيضاً شعور بالنيرفانا، وهي أحد العناصر التي لا يمكن حذفها من شكل الهايكو». أما العنصر الثاني، وهو المكان، فنجده في النصّ الأول تدل عليه كلمة «فزّاعة» في إحالة إلى الحقل، أما في النصّ الثاني فتعبّر عنه كلمة «تحت السدرة» في إشارة إلى حقل أو أيّ أرض ما. وأخيراً عنصر الموضوع، وتعبّر عنه عبارة «ترتدي معطفاً» كدلالة من الشاعر على تصويره لحظة عابرة قلّما ينتبه إليها المارون بالحقول، بله العصافير، وهي ارتداء الفزاعة لمعطف شتوي في عزّ الصيف، إنها ولا شك رؤية ساخرة وطريفة ومفارقة أيضاً تشي بحكمة بوذية تدعو روادها إلى مراعاة كلّ حال لمقامه. أما الموضوع في النصّ الثاني فتشير إليه عبارة «تنمو مطعونة بشوكة» كحدث مؤثر رغم اعتيادنا أنه مشهد عابر، لكنه يشير إلى رقة الشاعر وتعاطفه مع منظر الزهرة التي لم تأبه لطعنة الشوكة ما دام همّها الوحيد هو الإزهرار واليناعة لتمتيع الآخرين ناسية ألمها وعائقها، وهي حكمة تلهج بها عناصر الطبيعة، وعبرة لنا كبشر من أجل التسامح ومواصلة الحياة رغم عراقيلها.

هكذا هي قصيدة الهايكو، تصويرية، غنائية صافية، مكثّفة وموحية، تنحو نحو البساطة في النظر إلى الأشياء، وإلى عناصر الطبيعة خصوصاً، على اعتبار أن الطبيعة هي موطن الخلق والينابيع الأولى، ومبعث الدهشة الأولى الخالية من أيّ فكرة ذاتية أو أيديولوجية متلوّنة بنزعات اجتماعية وسياسية وغيرها. فكتابتها رهينة بحرّية الشاعر المطلقة، وبتجرّده من أفكاره الذاتية ومن أيّ نزوع منطقيّ، بل عليه أن يتسلّح بصفاء ذهنيّ ونفسيّ بالغين، حتى يفنى في لحظة تأمل وتفاعل مع كل مشهدية طبيعية. هي إذن ليست ضرباً من العبثية والمجانية، بل يسعى من خلالها شعراء الهايكو إلى استجداء قيم الطبيعة والأشياء العابرة في حياتها المثقلة بالمادية، تسوّل ودروشة يرومان كرم الطبيعة وسماحتها، بتلك المواقف والسلوكيات التي يفتقدها البشر، فإذا ما تأملنا قصائد أخرى للشاعر نجد هذا النزوع العاطفي نحو الطبيعة والحنين الدائم إليها كأنها معلم بوذي ينور مريديه، ففي نصّه «سخاء»:

تتسلّق حتى نافذتي

وتضع عنقوداً

دالية البستان.

إنه سخاء الطبيعة وكرمها، وموقف كهذا يعلّمنا معنى البذل والعطاء من دون مقابل. فإن تتجشم الدالية عناء الصعود إلى أعلى النافذة، مثقلة، لتضع عنقوداً على شرفتك، فهذا يدلّ على قيمة الجمال والخير التي تطفح بها الطبيعة. النزوع القيمي نفسه الرائم إلى ترسيخ الجمال محل القبح، وإلى زرع حكمة عطرة في حياة الإنسان تعيده إلى ينابيعه الأولى البريئة وهو يمعن قدماً نحو حياة مادية ثقيلة، يقول في «عطر الليلك»:

أترك الليلك

في الوادي

يتبعني عطره.

فقط تكفي لحظة الإحساس الأوّل بهذا الدفق العاطفي اتجاه مشهدية طبيعية لينهال عليك الجمال من دون عناء تأويل أو فهم، لأن النصّ واضح وصارخ بمقوله الشعري، من دون معاول أو مباضع نقّاد بنظارات سميكة. ونختم بهذا النصّ الباذخ المعبّر صراحة عن فلسفة الهايكو ووصاياه العميقة كعقيدة جمالية تشفع لها روحها المعطاء والنقية التي تدعونا كما يقول الشاعر في نصه «وصية»:

كونوا

في مستوى

الورد.

قصيدة الهايكو نصّ جماليّ جدير بالقراءة والتمثّل، وبالمقارنة والتنقيح لما تعرفه قصيدتنا العربية من ترهّلات معجمية وبلاغية عصيّة يعرض عنها القارئ، والعجيب والعصيّ فيها هو ما أشار إليه شاعرها الأكبر «باشو»: «إن من يكتب طوال حياته ثلاث قصائد هايكو هو شاعر، أما من يكتب عشر قصائد فهو أستاذ». وهي أخيراً، وفوق ذلك كلّه، تجربة روحية طافحة بالحكمة، ما دامت الحكمة ضالّة المؤمن والقارئ طبعاً.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى