الإعـلام والسياسـة دور الإعلام في الحرب الإرهابيّة على سورية
د. فيصل المقداد
نائب وزير الخارجية السورية
يحزنني القول إنّ كل ما تقرأه الشعوب حول حرية الإعلام واستقلاله، وبخاصةً الغربي منه، مقولة أبعد ما تكون عن الحقيقة. ويفرحني أنّ إعلامنا وإعلام الدول النامية بشكليه العام والخاص اجتاز خلال السنوات القليلة الماضية شوطاً إيجابياً على طريقه الطويل للوصول إلى قلوب القراء وعقولهم، في مواجهة التضليل الذي يمارسه الإعلام الغربي على دولنا لتشويه صورتها وتدمير استقلالها. ولا يمكن أن نتجاهل تحت أي عنوان كان دور الإعلام الغربي وتابعه العربي في الحرب الإرهابية المعلنة على سورية ودعم هذا الإعلام للقتلة والمسلّحين الذين حاولوا تدمير سورية والقضاء على دورها الحضاريّ وإرثها التاريخي.
مما لا شك فيه أن الإعلام يقوم بدور خطير في حياة الشعوب. وقد وعت الدول الغربية ومؤسساتها السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية منذ وقت طويل أهمية الإعلام فأقامت له الإمبراطوريات وقدمت إليه جميع أشكال الدعم المالي لتمكينها من القيام بالمهمّات المسندة إليها في الترويج لتوجهاتها والوصول إلى الفئات المستهدفة في دولنا وخارجها. وفي الغرب، كما في أجزاء أخرى من العالم، ثمة مطبوعات وأجهزة إعلام متخصصة قد لا توزع أو لا تصل إلى الفئات العادية في المجتمع بل إلى مستويات معينة من آليات صنع القرار في مختلف المجالات. أما استخدام الإعلام لصنع توجهات الرأي العام وإعداده لمسائل ستطرح عليه خلال ما هو آت من الزمن فلم يعد الحديث حوله مسألة مفاجئة.
ما يجب الإقرار به هو أن الدول والمؤسسات الغربية أدركت أهمية الإعلام منذ أوقات باكرة تاريخيّاً، في حين تجاهلت الدول النامية أو معظمها، أهمية الإعلام في توجيه الرأي العام وكسبه لمصلحة قضاياها، أو فشلت في القيام بذلك. وجعل ذلك من شعوب الدول النامية التي ننتمي إليها نهباً للأفكار التي تطرحها أجهزة الإعلام الغربية.
للوصول إلى عقل الجمهور وقلبه، غلفت أجهزة الإعلام الغربية طرحها المواضيع التي تهتم بإيصالها إلى الرأي العام في منطقتنا، ومناطق العالم الأخرى، بأشكال لم تبقَ غريبة على المتابع العادي، بدءاً من ادعاء الموضوعية والدراسة العلمية العميقة لحاجات مجتمعاتنا وتوجهاتها، وتقديم تحليلات يشرف عليها بعض الاختصاصيين الذين يطلقون عليهم تسميات مضخمة. كما يوجه الإعلام الغربي نفسه بلغات مختلف الشعوب للتأثير المباشر في الرأي السياسي للمواطن العادي. ويذكر الجميع تلك المحطات الإذاعية والتلفزيونية التي وجهتها الدول الغربية، ولا حاجة بالطبع إلى ذكر أسمائها، خاصةً أثناء الحرب الباردة إلى الدول المستهدفة. وسمعنا الكثير خلال احتكاكنا مع شعوب تلك الدول من أن مواطنيها كانوا يستمعون إلى تلك المحطات الغربية لمعرفة ما يدور في بلدانهم!
نتيجة للإعلام وتوجهاته وتركيزه على قضايا معينة دون سواها، لن يفاجأ القارئ إذا قلنا له إن الغربيين ربحوا معارك في الصراعات الإقليمية والدولية نتيجة استخدامهم المدروس للإعلام، وكانتْ سورية من الاستثناءات القليلة التي فشل الإعلام الغربي في تحقيق حملاته الإعلامية المضلّلة فيها. ومن خلال متابعتنا المباشرة لما حدث في بعض دول أوروبا الشرقية في مرحلة التحولات السياسية قبل نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الفائت، سقطت بلدان وانتقلت إلى المعسكر الآخر نتيجة خبر بثّته وكالات الإعلام التي نعرفها جميعاً. ولن نذهب بالقارئ بعيداً، فما حدث في العراق أثناء حرب الكويت وأثناء الغزو الأميركي للعراق عام 2003 أكبر دليل على صحة ما نقول.
لا أُعيد «اكتشاف الدولاب من جديد» لدى تأكيدي على أهمية الإعلام في عالم اليوم، لكنني لن أحاول الوصول أيضاً إلى استنتاجات عاجلة ومكررة ومطروقة كثيراً في عالم اليوم.
ممّا أثار اهتمام الكثير من المتابعين الإعلاميين والسياسيين هو لجوء الدول الغربية في السنوات القريبة الفائتة أيضاً إلى استحداث فروع لبعض أجهزتها الإعلامية في عدد من الدول العربية، بغية مضاعفة ضخها الإعلامي المباشر وبرامجها الموجهة المنطقة ولكي تكون على صلة قريبة ممّا يحدث، وليكون التركيز على مشاكل المنطقة أشدّ تأثيراً. وهنالك الآن أكثر من عملاق عالمي إعلامي يستخدم الأرض العربية لتحقيق هذا الهدف. وثمة بُعد مهمّ في الإعلام الموجه أيضاً هو الدفع بأخباره وتحليله ما يحصل، معتمداً في طبيعة الحال على إعلاميين ومحللين عرب يتبنون وجهة النظر الغربية ويتطابقون مع الغرب، يا للمصادفة، في تحليله ما يحصل أو ما يجب أن يحصل على الساحة الفلسطينية وبعض الدول العربية، وهذا ما رأيناه خلال تغطية هذه الأجهزة ما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية والعراق وأخيراً في قطاع غزّة. وأقحمت هذه الأجهزة الإعلامية بإقحام تعبير «الربيع العربي» في سائر برامجها وفرض هذا المفهوم على المشاهد والقارئ والمتلقي رغم جميع التساؤلات التي طرحها هذا المواطن حول مضمون هذا التعبير وصدقيته وغيره الكثير من المفاهيم التي حاول الغرب، خاصةً الصهيونية العالمية، حقنها في ذهن المواطن العربي.
مما يثير الاستغراب قيام بعض الدول العربية الخليجية، بناءً على أوامر غربية، بافتتاح إمبراطورياتها «الإعلامية» التي تموّل بسخاء لا نظير له واستخدامها في اتجاهين، أولهما نشر ما يُسمّى الفكر الديمقراطي ومبادئ الحرّية رغم وقوع هؤلاء العربان مغمى عليهم لدى سماعهم كلمة الديمقراطية، والثاني التزامهم باستضافة المسؤولين «الإسرائيليين» أو من يشجعهم من الغربيين أو العربان الذين لم يبق فيهم من معاني العروبة سوى أنهم يتكلمون العربية و/أو»الردح» باللغة العربية. ويكفي هؤلاء «الديمقراطيين» من العرب أنهم يتحدثون باسم سيدهم الذي لا يفهم معنى الديمقراطية في قصور آل سعود وغيرهم، وهم الذين توغلوا، من خلال إعلامهم ومواقفهم السياسية المشينة في الدم الفلسطيني في غزة، هم وإعلامهم الذي عمل على تدمير «الوطن العربي»، خاصةً في تونس وليبيا ومصر واليمن. إلاّ أننا لم نسمع منهم كلمة واحدة حول حقيقة ما يحصل في مملكة الرمال وشقيقاتها «الأكثر ديمقراطية وانفتاحاً وشفافية مالية وأخلاقية» من تلك الأقطار التي وصل إليها «الربيع العربي» ورفع فوق عواصمها ومدنها وقراها الرايات السوداء، رايات الدمار والتخلف.
لن نقدم إلى القارئ المتابع صورة واضحة إذا أبقيناه في هذه الحالة السوداوية، فعلى الضفة الأخرى من شارع الإعلام العربي والدولي، يقف، لكن بصورة أقل لمعاناً، الجهد العظيم لإعلام تميّز حقاً بنقله الصورة الصحيحة وبطريقة ذكية لما يجري. وتحمّل هذا الإعلام أخلاقياً ومهنياً مسؤولية عكس الحقيقة وطرح البديل الصحيح. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو: هل كل الإعلام الذي لا يدار من الإمبراطوريات الإعلامية الغربية هو إعلام غير كفء وغير قادر على إيصال رسالته الموضوعية حول ما يشهده عالم اليوم؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد لنا من القول إنّ الأطراف والقوى التي تخشى الاستخدام الصحيح من قِبَل شعوبنا للإعلام، خاصةً في دوائر الاستخبارات الأميركية والغربية، بما في ذلك الأطراف الصهيونية أو المتصهينة، اشترت خلال فترات متعاقبة أسماء كبيرة لصحافيين ولصحف في بعض الدول وحوّلتّها لخدمة أهدافها. هذا النوع من الإعلام الذي اشتري هو كما نعرف موجود في دول تدافع حكوماتها سواء الوطنية منها أو التقدمية عن مبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية، إلاّ أن الإعلام فيها لا يتبنى سوى وجهة النظر الغربية، وهو نتيجة لذلك لا يختلف عن الإعلام الغربي.
في كثير من أدوات الإعلام المرئية أو المكتوبة أو المسموعة في بلدان نامية، لا نرى غير ترجمة حرفية لما يرد في أجهزة الإعلام الغربية عما يحدث في أنحاء كثيرة من العالم، خاصةً إذا تعلق ذلك بالقضية الفلسطينية والصراع العربي «الإسرائيلي» والأهم الأوضاع في سورية. والأخطر في هذا المجال أن تلك المحطات والمراكز الإعلامية تعتقد أن اعتماد الأساليب الغربية في إعداد الخبر وتقديمه سيجعلها أقرب من الجماهير وأكثر توازناً في تغطياتها الإعلامية. وتحدثت كثيراً مع ممثلي أجهزة إعلام صديقة وقلت لهم إن ذلك يفقدهم الكثير من جمهورهم وصدقيتهم من ناحية ويجعلهم أدوات جديدة في يد الطرف الآخر. ألم يهاجم وزير الخارجية الأميركي الإعلام الروسي عندما تبنى وجهة نظر الشعب الروسي لما حصل في أوكرانيا وللمواقف الروسية حيال قضايا العالم العادلة؟
بدأت وسائل الإعلام التي تنقل وجهات نظر الشعوب حيال القضايا الساخنة في العالم العربي وفي آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية تكسب سبق الوصول إلى قلوب المشاهدين والمتلقين وعقولهم من خلال إبداع القائمين عليها ومن خلال المهنية الإعلامية التي يتمتع بها العاملون في هذه الوسائل. انظروا حولكم وستجدون بشائر ذلك تتوسّع حولها دوائر مهمة تستحق منّا كل التقدير والاحترام. ولا أبالغ عندما أقول إن الإعلام العربي السوري الذي تقف خلفه قلوب السوريين والعرب الشرفاء وعقولهم، قد حقق خلال فترة قصيرة نسبياً إنجازات هائلة. أُضيف أن ذلك ينطبق على الإعلام العربي النبيل والعاملين فيه من نساء ورجال أبوا إلاَّ أن يكونوا مع أشقائهم السوريين دفاعاً عن الحقيقة والشرف، فاستحقوا منّا كلّ معاني الوفاء والامتنان والتقدير.
أما الأهم من كل ذلك فهو الجرأة التي يتمتع بها الإعلاميون القوميون والتقدميون على الطرح المقنع والذي يقدم إلى الملتقى الموضوع المطروح بطريقة ذكية تكسب ثقته. ولذلك فإن الاعتراف بهذا التحوّل الذي تم من خلال استخدام أساليب العمل وتقنياته الحديثة والاعتماد على الشرفاء من الإعلاميين لتقديم الحقائق غيّر موازين اللعبة الإعلامية في المنطقة والعالم. ولا أخفي على القارئ المهتم أنني عندما كنت أستمع إلى عدد من المحللين الغربيين الذين يقدمهم معدو البرامج على أنهم خبراء عصرهم في هذا المجال السياسي ـ الجغرافي أو ذاك، كنت أفاجأ بأنهم يقعون في مغالطات جغرافية ووثائقية وتاريخية مفضوحة لا تدل على خبرتهم، بل تفضح جهلهم معلومات بسيطة في الموضوع الذي يتحدثون حوله، فيما يبدع الكثير من الكتاب المغمورين في تقديم معلومات دقيقة وذكية حول قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية معقدة نواجهها في المنطقة والعالم. صحيح أن المشوار ما زال طويلاً أمام هؤلاء الإعلاميين والمؤسسات التي يعملون فيها للوصول إلى عدد أكبر من المتابعين، إنّما يكفيهم شرفاً أنهم بدأوا بخطوة مشوار الألف ميل، وأن الكثير يتعلم منهم ويسير على هدي ضوء شموعهم للوصول إلى عالم أكثر عدلاً وشفافية والتزاماً في المجال الإعلامي.
طرحت الشعوب في السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم مسألة إيجاد نظام إعلامي عالمي جديد يخدم الحقيقة وحقوق الشعوب ويحترم القانون الدولي ولا يضلل الشعوب ويتعامل مع حقوق شعوب الدول النامية بطريقة تحترم عاداتها وتقاليدها وحاجاتها الحقيقية واستقلالها وسيادتها، ويشرح للشعوب أسباب التخلف ويدين الاستعمار والحروب ويضع حداً للنهب الذي تمارسه الدول المتقدمة بثروات الشعوب، وينهي الدعوة إلى التمييز بين البشر على أساس العرق واللون والدين، ولا يشجع على الحروب وانتهاك القانون الدولي وحق الشعوب في العيش بحرية وكرامة وسلام، إلاّ أن الدول الغربية اعترضت على هذا المفهوم قبل أن يولد بذريعة واهية لا تصمد أمام المنطق وهي أنه يؤثّر في حرّية الإعلام وتدفّق المعلومات الحر. وتشهد سجلات الأمم المتحدة ومحاضر اجتماعاتها على ما قامت به الدول الغربية، بخاصة، ضد مفهوم النظام الإعلامي العالمي الجديد.
خلافاً لكلّ ما يدعيه المسيطرون على الإعلام العالمي وإمبراطورياته حول حرّية الإعلام والتدفق الحر للمعلومات والسماح بالرأي والرأي الآخر، فإن الوقائع ثبتت أن ما يدعيه هؤلاء حول تمسكهم بهذه المعايير بما في ذلك استقلال الإعلام ما هو إلاَّ مجرد أكاذيب ورغبات تسقط عند أول مواجهة مع الحقيقة. وفي هذا الإطار تجيء تلك الممارسات الغربية التي قادت إلى إغلاق عدد من الصحف وإخراس أي صوت مختلف ومنع استخدام الأقمار الاصطناعية من نقل بث أجهزة إعلامية مارست الأخلاق الإعلامية ودافعت عن حقوق الشعوب في المعرفة والاطلاع، مثلما حدث مع أجهزة الإعلام السورية وقناة «المنار» وقناة «العالم» وقنوات إعلامية مهنية أخرى تحت ذرائع لا يمكن لأي عاقل أن يقبلها. وهنا تتحول الحقيقة إلى ضحية أساسية، لكن تبقى القنوات الهابطة التي لا رسالة لها سوى نشر الدعاية الرخيصة واللا أخلاقية وزرع الفتنة بين الشعوب والمواطنين وتشجيع الإرهاب وتقوية مشاعر معاداة العرب والمسلمين، هي التي يدعمها الغرب وأدواته ويحافظ عليها، لا لسبب سوى أنها تعزز حمايتها لـ»إسرائيل» واحتلالها الأراضي العربية وتبعد الجماهير عن التحديات التي ينبغي مواجهتها، ولتخلق من العدو صديقاً وتصوّر الظلم على أنه أساس العدل، ولقلب المفاهيم وتشويه الحقائق لأغراض لا تتعلق لا من قريب أو بعيد بنشر مفاهيم حقوق الإنسان أو إرساء علاقات ودية بين الدول والشعوب والتدفق الحر للمعلومات. ولوصف الوضع المزري لبعض أنواع الإعلام العربي، لم أجد أفضل من الوصف الذي أطلقه د. محمد صالح الهرماسي في كتابه الجديد الذي صدر حديثاً عنوانه «الواقع العربي والتحديات الكبرى» إذ قال: «لم يكن كل هذا الوضع السيئ في الوطن العربي سوى الوجه الآخر للإعلام العربي الفاسد الذي أحدث وتحت عنوان الانفتاح قطيعة جذرية مع الإعلام التعبوي الملتزم، وأنهى لغة الاستنهاض الوطني والقومي التي اعتبرت لغة خشبية، وركّز على تسفيهها وإقصاء رموزها لتصبح مرادفة للتخلف والتعصب ومعاداة الوحدة والتقدّم». ويتابع د. الهرماسي قائلاً: «وفي المقابل عمل الإعلام العربي على تلميع لغة الانهزام والاستسلام واستخدم شعارات الواقعية والاعتدال والسلام «المشرف» في تبرير التفريط والتنازل والتخاذل، وتم قلب المفاهيم وتغيير القيم حتى أصبح التطبيع مع العدو سلوكاً حضارياً، وأصبحت الخيانة رأياً أو وجهة نظر … »
في معركة الغرب للحفاظ على مصالحه الاستعمارية وحماية «إسرائيل» ونفوذه في سائر دول العالم النامية، حوّل الإعلام إلى واحدة من أسلحة الدمار الشامل. وإذا لم تكن الدول النامية قادرة على استخدام هذا السلاح على النحو المطلوب فإنها لن تكون قادرة على كسب معاركها العادلة. وكما ذكرنا في مقدمة هذا المقال، إن بعض الحروب بدأت وانتهت قبل أن تصل الدول الغربية إلى استخدام الجيوش والقوة العسكرية. وإذا صدق البعض المقولة التي يروج لها المستسلمون للمنطق الغربي حول حرية الإعلام واستقلاله فهم واهمون. فالإعلام الذي يفضح جرائم «إسرائيل» عندما تقتل مئات الأطفال الفلسطينيين ليس حرّاً وليس مستقلاً بمفهوم هؤلاء ويجب إسكاته. وعندما وقف المئات من المحتجين حديثاً ليعبّروا عن اعتراضهم على تغطية إحدى الإمبراطوريات الإعلامية الحوادث في غزة إذ كانت تقول إن على الجانب الفلسطيني أن يمارس ضبط النفس في مواجهة العدوان «الإسرائيلي» أي كما يقول ممولوها حرفياً أن الجانب الفلسطيني هو الذي يتحمل المسؤولية، كان الرد بتهديد هؤلاء المتظاهرين بالسجن والإجراءات القسرية. وعندما «تخطئ» إحدى وسائل الإعلام الغربية والأميركية وتنقل مصادفة كلمة موضوعية حول حق الشعب الفلسطيني في إنهاء الاحتلال واستعادة الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، تثور ثائرة الكونغرس الأميركي، وبخاصةً عدد من المعتوهين من أعضائه مثل داعم الإرهاب جون ماكين، ويعملون على فرض عقوبات على هذه الأجهزة الإعلامية ويتهمونها بمعاداة السامية ويهددون بإغلاقها أو وقف تمويلها أو تشويه صورتها.
في الحرب التي أعلنها الغرب وعملاؤه وأدواته على سورية، استخدم أعداء سورية الإعلام الغربي والعربي المدمّر فشوهوا الحقائق وقلبوها. ورغم تذاكيهم، إلاّ أنهم فشلوا في الاختبار مثلما فشلوا في الوصول إلى النتائج التي أرادوا تحقيقها. فالشعب السوري العظيم كشف أبعاد المؤامرة الإعلامية التي كانت تديرها أكبر البيوتات معرفة بالإعلام وتأثيره في الرأي العام في المنطقة والعالم. ودفعت الدوائر الاستخباراية المرتبطة بأعداء سورية الإعلام لتشويه الحقائق وزودته بالمعلومات المضللة لضرب ثقة المواطن بوطنه ومؤسساته، إلاّ أن ذلك كله سقط تحت أقدام البواسل من أبناء الجيش العربي السوري الذين صمدوا وقاوموا وانتصروا.
طالب الغرب سورية بالسماح بدخول الصحافيين الأجانب إلى سورية بذريعة نقل ما يجري فيها، إلاّ أن الكثير من هؤلاء كانوا في الحقيقة يأتون إلى سورية بتقارير ومعلومات معدة مسبقاً قبل وصولهم إلى الأراضي السورية، قدمتها إليهما الاستخبارات المعروفة وعملائها في الداخل، وكان يحتاجون فحسب إلى القول إنهم يرسلونها من داخل سورية، وكان اهتمام هؤلاء ينصب في تغطيتهم لما يحصل على عامل الإثارة والتهويل وتزييف الحقائق وقلبها. عندما حاول بعض الصحافيين التلاعب بالإجراءات التي تتخذها جميع الدول التي تشهد وضعاً أمنياً صعباً، حاول أحد الصحافيين الذي توسطت له حكومته لدخول سورية التخفي ليلاً والذهاب إلى منطقة غير آمنة فيها مجموعات مسلّحة فقبض عليه المسلحون وكان قاب قوسين أو أكثر من الموت قتلاً على يد هؤلاء، الذين لم يعرفوا أن هذا الصحافي إنما أتى لمساعدتهم، لولا عناية إلهية أنقذته في اللحظات الأخيرة، على ما ذكر هو نفسه. وعندما أجرى هؤلاء المراسلين مئات اللقاءات مع المسؤولين السوريين، فإن أجهزة الإعلام الغربية أو التابعة لها في بعض البلدان لم تنشر حرفاً واحداً منها، وبدلاً من ذلك حرّف بعضهم الكلام واستخدمه لمصلحة الإرهابيين والمسلحين والقتلة، وللإساءة إلى سورية ومواقفها. وأرجو ألاّ يفهم أحد كلامي على أنه تعميم شامل، كلا، فهنالك بعض الصحافيين الغربيين في أميركا وفرنسا وبريطانيا ودول أخرى كشفوا بجرأة تامة حقيقة ما يحصل وحذروا من مغبة الإرهاب على سورية وعلى المنطقة والعالم، قبل أن «يكتشف» قادة كبار مسؤولي هذه الدول الحقيقة المرّة.
الآن، يشكو المسؤولون في الدول الغربية بخاصة ويصرخون من ظاهرة عودة الإرهابيين إلى بلدانهم للقيام بأعمال قتل وإجرام. وهنا لا بد من وضع الإصبع على مكمن الخطأ، إذ أن مجيء ألوف إرهابيي الدول الغربية، بما في ذلك من الولايات المتحدة إلى سورية، ومحطات «الجهاد» الأخرى، ما كان ليتم لولا تسامح القيادات الغربية وتغاضيها عن التحركات المكشوفة للإرهابيين وجهة سفرهم، بل وفي كثير من الأحيان دعمها هؤلاء القادة وإعلامهم «الديمقراطي والحرّ جداً» لتحقيق توجهات السياسيين الغربيين السخيفة بل الإرهابية المدمرة في باريس ولندن وأمستردام وواشنطن وأوتاوا وسواها. هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى، فمن هي الجهات التي صنعت من هؤلاء المراهقين والقتلة والمتطرفين والتكفيريين في بلادنا أبطالاً لأجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان؟ ألا يتحمل الإعلام الغربي مسؤولية ذلك عندما جعل هذا الإعلام تحديداً من هؤلاء الإرهابيين القتلة والمتطرفين رموزاً للشجاعة والبطولة والإقدام؟
إن شعب سورية يحمّل جميع هذه الأطراف، بما في ذلك الإعلام الغربي وغيره من الذين جعلوا من الإرهابيين أبطالاً مسؤولية، التورّط في سفك الدم السوري عبر تعبئة الشباب «للجهاد» في سورية وغيرها، وامتداحه غزو ليبيا على اعتبار ذلك «مهمة إنسانية». إنه يحملهم المسؤولية التامة حيال هذه الجريمة التي أدت إلى قيام الإرهابيين «الذين يدافعون عن الديمقراطية وحقوق الإنسان»باستباحة دم السوريين وتقطيع رؤوسهم وأكل قلوبهم وأكبادهم من قبل هؤلاء الوحوش. من هو الذي شجع الآلاف من الأوروبيين وسكت على التحاق هؤلاء «المجاهدين» بتلك التنظيمات الإرهابية التي كشفت سورية هويتها وأهدافها منذ بدء الأزمة فيها، بينما وصفها القادة الأوروبيون بالمناضلين لأجل الحرية «والمجاهدين» الذين أمنت لهم تركيا والسعودية و»إسرائيل» ولا تزال تؤمن السلاح والتمويل والمأوى والتدريب والطعام وأجهزة الاتصالات ووسائل النقل؟ التقت أجهزة الإعلام الغربية والعربية العميلة لها أولئك القتلة عندما دخلت على نحو غير مشروع بعض أنحاء سورية وغطت ما يسمى بـ»فتوحات المسلمين» ضدّ ما أسموه النظام السوري. وعندما أطلق القتلة قنابل إرهابهم على الصحافي الفرنسي جيل جاكيه في حمص فأردوه قتيلاً، لم نسمع كلمة احتجاج من الحكومة الفرنسية لأن القتلة كانوا أدواتها وأحبتها، ولو كان الجانب السوري هو الذي اقترف هذه الجريمة لقام الغرب ولم يقعد دفاعاً عن حياة الصحافيين كما تدعي الحكومات الغربية وتنظيماتها غير الحكومية.إذا لم ينتبه هذا الإعلام ومن يرعاه إلى الكارثة التي كان سبباً في حدوثها، فإنه، على ما تُظهر التطورات واعترافات المسؤولين والإعلاميين الغربيين، سيقود هذا الخطر الداهم الذي وصل إلى شوارع أوروبا وأماكن العبادة فيها، إلى مزيد من الدمار المادي والأخلاقي.
حذرت سورية، العصية على الغزاة والمستعمرين، من أخطار استمرار التورط الغربي سياسياً وإعلامياً بما يحصل في المنطقة، فيما الإرهاب يحصد حياة ألوف الأبرياء في سورية والمنطقة أكان في العراق ولبنان أو أن الدول الأخرى الآتية على الطريق. وأوضحت سورية أن لا حدود لممارسات هذا الإرهاب الإجرامية، وأن من يدعم الإرهابيين الآن من «داعش» و»النصرة» أو ما تبقى من «جيش حر» سراً أو علناً لن يكون في منأى عن آثار الإرهاب وجرائمه. لا مجال الآن على الإطلاق للاستمرار في الكذبة التي أطلقها مسؤولون في باريس ولندن وواشنطن حول دعمهم إصلاح الشرق الأوسط، فما كانوا يقومون به منذ البداية كان دعماً للإرهاب. إن شعوب المنطقة نضجت وباتت تعي العدو من الصديق، وليست في حاجة إلى مستشارين غربيين هم في الحقيقة جواسيس، فلديها من العلماء والمفكرين والسياسيين والاقتصاديين الكثير. أما النكتة السمجة التي يطلقها الإعلام الغربي والقادة الغربيّون حول محاربة عملائهم الذين أسموهم «معارضة مسلحة معتدلة» لـ»داعش» و»جبهة النصرة» والكتائب الإرهابية الأخرى المتربطة بتنظيم «القاعدة»، فهي سخيفة ولا تستحق التعليق عليها لأنها أقوال ساقطة مثل أصحابها.
قَدَرَنا في سورية أنْ نصمد في وجه هذا السيل الإرهابي الجارف نيابةً عن البشرية، وهذا شرفٌ لنا، ولن توقف سورية حربها على الإرهاب مهما كلف ذلك من ثمن.
إن الحرب على الإرهاب هي حرب الجميع فالإرهاب لن يستثني أحداً، خاصةً الذين استخدموه ضد سورية لتدميرها وقتل شعبها بجميع مكوّناته بلا استثناء. ولا خيار آخر أمام الواهمين في النيل من سورية وإضعافها سوى الانضمام إليها في معركتها المشرّفة ضد الإرهاب. وفي الحرب على الإرهاب، لا بد من أن يُمارس الإعلام بأشكاله كافة السلوك الأخلاقي والمهني الذي ينص عليه القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة وميثاق الأمم المتحدة، وأن يكون أداؤه في مكافحة الإرهاب والتحذير من أخطاره على راهن العالم ومستقبله منسجماً مع القيم والأخلاق والمبادئ التي توافقت البشرية عليها.