مختصر مفيد تركيا… باكستان جديدة أم عراق آخر؟
شكّلت باكستان خلال سبعينات القرن الماضي دولة آسيوية صاعدة، سواء بحجم التنوّع السياسي الذي حملته تجاربها الانتخابية، والتناوب على السلطة بين أحزابها، أو بحجم تقدّمها في مجال امتلاك مصادر القوّة، وصولاً إلى التحوّل لأوّل دولة إسلامية تملك سلاحاً نووياً. وصارت باكستان الدولة الإسلامية التي لا يمكن تجاهلها في الخيارات والتحالفات في آسيا، وصولا إلى شواطئ البحر المتوسط والمحيط الأطلسي. بالمقابل، شكّل العراق الدولة العربية الصاعدة صناعياً وعسكرياً وتسليحاً، رغم الطابع الأحاديّ الاستبدادايّ لنظام الحكم فيه. والعراق دولة ذات وزن سكانيّ وديمغرافيّ، ما يمنحها فرصة لعب دور وازن في الشرق الأوسط، مع قدرة نفطية هائلة وموقع جغرافيّ حسّاس، فيصير العراق مؤهّلاً للتأثير بموازين استراتيجية في الشرق الأوسط. وفي باكستان والعراق توفّرت قيادة سياسية طموحة ومستعدّة للمضي في توظيف القدرات والمكانة لتعظيم الدور.
حدث عام 1979 ما قال للأميركيين أنّ التقدّم السوفياتي في أفغانستان وانتصار الثورة الإيرانية، سيوفّران الفرصة التاريخية لتلاقي مثلّث آسيوي خطير جغرافياً واستراتيجياً عبر البرّ الأفغاني: روسيا وإيران والصين. فقرّرت تطويق هذا التحوّل، واحتواء هذا الخطر عبر ثنائيّ باكستان ـ العراق، ودائماً عبر دور مميّز للسعودية كمركز ماليّ للحروب السرّية للاستخبارات الأميركية، وكقاعدة يعتمد عليها في تنشئة فكر دينيّ متطرّف يمكن استخدامه بصورة عمياء في الحروب. وشُكّلت من باكستان قاعدة تحضير حرب «المجاهدين» ضدّ الاتحاد السوفياتي «الشيوعي» برعاية سعودية ـ أميركية مشتركة، كما يكشف مستشار الأمن القومي الأميركي زبيغنيو بريجنسكي عن مغزى لقاءاته عام 1980 بمشاركة بندر بن سلطان وأسامة بن لادن لتأسيس تنظيم «حركة المجاهدين»، الذي صار لاحقاً تنظيم «القاعدة». وعلى ضفّة موازية، دُفع العراق باحتواءٍ وتمويلٍ سعوديَّيْن وتشجيع أميركيّ، ليخوض حرباً ضدّ إيران استنزفت قدرات العراق وإيران معاً لعشر سنوات لاحقة.
نجحت الخطّة في أفغانستان وتلقّى السوفيات ضربات موجعة انتهت بقرار سحب القوات. وكان لتداعياتها دور في التأسيس لتفكّك الاتحاد السوفياتي وانهياره. كما نجحت الخطة في استنزاف إيران، واضطرت لقبول القرار 598 الذي وصف الإمام الخميني القبول به كتجرّع السمّ. لكن الحصيلة كانت أنّ باكستان انتهت كدولة، وأن العراق انتهى ككيان ودولة. وتفشّت تنظيمات مشابهة لـ«القاعدة» وتابعة لها في باكستان، وتمدّد النفوذ الاستخباري الأميركي بداعي ضرورات الحرب في باكستان، ولعبت واشنطن بطبقتها السياسية وتناقضاتها كما أرادت اعتقالات واغتيالات واعدامات وانقلابات. فلم يتبقَّ من باكستان إلا هيكل دولة تنخرها الأزمات، وتعيش على رصيف السياسة الدولية والإقليمية، وتنتظر الهبات السعودية. ودخل العراق بالمقابل في مغامرات تلو مغامرت، وكان التشجيع الأميركي لحكّامه لغزو الكويت تمهيداً لحرب تدحرجت لأكثر من عقد، حتى انتهت باحتلاله وضرب مقوّماته كدولة ونسيج اجتماعيّ وكيان سياسيّ.
بعد عشرين سنة على «النصر الأميركي» في تفجير حرب العراق ضدّ إيران، وعشر سنوات على نهايتها، وبلوغ عام 2000، تنفّست إيران بانتصار المقاومة في جنوب لبنان، وتلمّست طريق النهوض والبناء. وكان العراق يغرق تدريجياً وصولاً إلى خطر التلاشي بعد عشر سنوات لاحقة. وبعد عشرين سنة على «النصر الأميركي» في تفجير الحرب الجديدة في وجه السوفيات في أفغانستان، وعشر سنوات على نهايتها وبلوغ عام 2000، كانت روسيا تخوض تجربة نهوضها مجدّداً مع وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى الكرملين. وكانت أميركا تستعدّ لحروبها الجديدة مع المحافظين الجدد ورئيسها الجديد جورج بوش الإبن. وخلال عشر سنوات، خسرت واشنطن حروبها، بينما بلغت كلّ من روسيا وإيران مع عام 2010 مرحلة لم يعد ممكناً تجاهل قدراتها. وواشنطن تجد نفسها ملزمة بالانسحاب من العراق وأفغانستان، وتخشى مجدّداً التلاقي البرّي لعمالقة آسيا: روسيا وإيران والصين.
الحرب على سورية كانت الردّ الأميركي على الخطر لإقفال البحر المتوسط أمام الثلاثيّ الروسيّ الإيرانيّ الصينيّ، عبر إمساك النافذة السورية. وكان في تركيا نجم صاعد يشبه حال باكستان والعراق قبل ثلاثة عقود. فمنذ عام 2000، بدا طيب أردوغان مشروعاً يصلح لتخديم السياسات الأميركية المغامِرة بطموحات وأوهام إمبراطورية عثمانية يسهل إغراؤها واستنهاضها. ومنذ خمس سنوات، تلعب تركيا لعبة باكستان والعراق معاً في الثمانينات، ولا يبدو أن مصير تركيا سيكون مختلفاً عمّا حلّ بالعراق وباكستان معاً…
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.