صارت الأحلام أصغر من علبة الكبريت

الياس عشي

لن أعود كثيراً إلى الوراء،

لن أعود إلى المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في بال سنة 1897، والذي تابعه العالم الغربي باهتمام، فيما كان العرب غافلين عمّا يخطط لهم بعد أن يموت الرجل المريض، أي بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية.

ولن أعود إلى اتفاقية سايكس – پيكو، ولا إلى محادثات حسين – ميكماهون، ولا إلى حركة النزوح اليهودي من سائر أنحاء العالم إلى فلسطين، فلقد ابتلع العرب هذه المؤامرات الثلاث، وناموا على إيقاعها، ولم يستيقظوا إلاّ بعد نكبة 1948، وبعد أن رأوا ملايين الفلسطينيين لاجئين عندهم.

سأتوقّف هنا مع كلّ ما حملته سنة السقوط تلك 1948 من أحلام لم يبق منها اليوم شيء. فسّروا لي كيف يمكن أن يحلم فلسطينيّ واحد بالعودة إلى أرضه، إلى كروم الزيتون، إلى بيارات الليمون، إلى المسجد الأقصى ، إلى كنيستي القيامة وبيت لحم، إلى الذاكرة الفلسطينية فيما قادته يستبدلون اليوم في مفاوضات القاهرة حلم العودة بحلم فكّ الحصار عن غزّة، بحلم أن يكون للغزّاويين مطار ومرفأ!

لاحظوا هذه القفزة «النوعية»… من المطالبة بالعودة إلى الديار، إلى المطالبة بمطار ومرفأ قد يكونان معبرين آخرين لهجرة الفلسطينيين إلى بلاد الله الواسعة.

في أيلول عام 1993 كتبت تحت عنوان: أنقذوا فلسطين من معتقل غزّة – أريحا:

«كيف يمكنك أن تتخلّى، هكذا وفجأة، عن أجمل ما تحمله الذاكرة من سنوات النضال؟

كيف يمكنك أن تدفن، هكذا وفجأة، كلّ الأحلام، وكلّ الحجارة، وكلّ فلسطين، وكلّ العيون، وكلّ السواعد، في مساحة جغرافيّة معتقلة بين غزّة وأريحا؟

بل كيف يمكن أن تفسّر كلّ ما كتبناه، وما قلناه، وما قرأناه، وما سمعناه، على مدى أربعين عاماً؟

يمكنك أن تفهم كيف الأحلام تنمو، وتكبر، ويصير لها ساعدان،

أمّا أن يصغر الحلم…

أن يموت الحلم…

أن تعيش بدون حلم…

أن يصادر الكبار أحلامك ويذبحوك على قارعة الطريق،

فهذا لا يمكن أن تفهمه أبداً».

هذا ما قلته قبل واحد وعشرين عاماً، أي بعد توقيع اتفاقية أوسلو بأيام، فماذا أقول اليوم وغزّةُ كومة من الحجارة والرماد والأطفال الشهداء؟

لن أقول شيئاً بعد أن قال الزميل جورج كعدي في زاوية «آخر الكلام» قبل يومين:

«… فأنا أحيّي بطولة شعب يضحّي بنفسه لحرّيته ووطنه ووجوده، وأنحني لبطولته وشهادته، معانياً في المقابل مشقّة وألماً في تقبل موت الأطفال، أشدّ الصور إيلاماً وإثارة للغضب والانفعال». وينهي مقاله المميّز بدعوة الشعب الفلسطيني إلى بناء متحف «ذكرى وذاكرة، بالوجوه والأسماء، لشهداء غزّة، ولمن سبقهم من شهداء المآسي والمجازر السابقة، على شاكلة متحف المحرقة … وليكن اسم المتحف المقترح: متحف محمّد الدرّة ومحمّد أبو خضير لأطفال فلسطين الشهداء».

من كتاب «وطن للبيع.. فمن يشتري؟»، تأليف: الياس عشي، الطبعة الأولى 1994.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى