الخلاص بين تشكيل الجديد وإعادة إنتاج القديم!

د. هلا علي

عندما يراقب أيّ كاتب أو صحافي أو مهتمّ بالقضايا السياسية وما يحدث في الآونة الأخيرة، من اغتيالات ومجازر واقتتال وخرق تهدئة… الخ. لا يمكنه أن يجنّب نفسه صبّ اللعنات على كافة النظريات السياسية التي تسقط أمام الدم، وتُعلن سخافة ما يُكتب أمام دموع اليتيم. ويبدأ التساؤل: لماذا كلما كتبنا عن حقوق الانسان هُضمت حقوق الانسان؟ ولماذا ننادي بالانسانية فلا نرى إلا المزيد من الوحشية؟ ولماذا نحلم بتشكيل نخبة فاعلة فتختفي النخب؟

بصرف النظر، المؤقت والإجرائي لا القطعي، عن القوى الخارجية التي تآمرت لاقتسام المنطقة وفق معايير جديدة، أقول أن المجازر والإغتيالات وإراقة الدماء هي نتيجة طبيعية لثالوث داخلي خطير، على تركيبة واستمرار واستقرار المجتمعات ألا وهو الجمود والانغلاق والفساد. تُعتبر عناصر ذاك الثالوث من أشدّ الأمراض الاجتماعية خطورة على الدولة والمجتمع على حدٍ سواء، إنّ خطورة تلك الأمراض تكمن حقيقةً في أنها تصيبُ البنية الفوقية، وهي الأكثر أهمية في صياغة النظرية وتشكيل ما سيكون عليه مستقبل المجتمعات. وعندما تزدادُ هذه المظاهر الثلاثة في مجتمعٍ من المجتمعات، تقوم النخبة عادة بالاضطلاع بمهمة التغيير والتنوير والانعتاق من سيطرة القيم السالفة. ويفترض أن تُسهم هذه الفئة في خلق اتجاهاتٍ فكرية تُسهل مهمة التنوير، ومحاربة المنظومات التقليدية للتأسيس لبنية أكثر انفتاحا وعقلانية. لكن ما يحدث عادة، وهنا تكمن المشكلة، هو أن تلك الاتجاهات الجديدة التي شنّت حرباً لا هوادة فيها على المنظومات التقليدية، لا تلبث أن تتحوّل هي ذاتها إلى أداة قمعية استبدادية تفرض شكلاً واحداً ووحيداً في الفكر والممارسة، فتتحوّل بدورها الى عائق جديد يضاف الى سلسلة العوائق السابقة ويعيد انتاج الايديولوجيات التقليدية ويكرّسها، وبالتالي يخلق حالة من الخيبة والإحباط. إذن ما الفائدة من الجهود المبذولة للتغيير والتنوير، إن كان الجديد سيصبح تقليدياً والقديم سيحضر في الجديد فارضاً نفسه على مجالات المجتمع والسياسة والاقتصاد؟! إنّ ما يحدث اليوم في غالبية الدول العربية، أنّ هناك اتجاهات فكرية ظهرت على مدى عقود معلنة ليبراليتها واستعدادها لمحاربة المنظومات التقليدية والايديولوجيات العقيمة الفاسدة التي لم تنتج إلا التخلف والمراوحة في المكان. حسنا، ما الذي انتجته هذه الاتجاهات الجديدة؟ إذا كانت النتيجة المزيد من الدماء والحروب والمجازر، أين تكمن المشكلة اذن؟

هنالك مطبّ وقعت به تلك المحاولات. وكان في الحقيقة مطبا ثنائي البعد، البعد الأول يتجسّد بأنها عجزت أولاً عن تقديم بديل قادر على سدّ الفراغ الفكري والسياسي. فلا بدّ أن يعقب الهدم بناء ولا بدّ أن يتلو السلب إيجاب، وإلا أصبح الخواء هو القانون المسيطر، أو تمّ ملء الفراغ بما هو أخطر في تكوينه وأهدافه على المجتمع من البنى التقليدية ذاتها. وأما البعد الثاني فهو إعادة انتاج الأحادية والتعصّب عن طريق تكريس الثقافة الإلغائية. فإسقاط الآراء المختلفة فقط لأنها مختلفة ليس فعلاً تنويرياً وانْ كان صاحب هذا الاتجاه يرفع شعار الليبرالية. وبهذا يكون الموضوع الجديد فقدّ محتواه التنويري التغييري لافتقاده المنهج المناسب. وبهذا يكون الليبرالي الذي يريد فرض ليبراليته بالقوة غير مختلف عن ذاك الأحادي البعد في تفكيره الذي يرى الحقيقة حقيقته هو، رافضاً كلّ الاحتمالات والممكنات الأخرى. الإثنان متساويان من حيث أنّ المنهجية واحدة وهي التكفيرية.

وهنا نشير إلى أهمية الفراغ الفكري في المجتمع والدولة وما له من خطورة بما ينطوي عليه من نتائج كارثية. فالفراغ كلمة مجازية إذ أنه عملياً غير موجود، فمن الناحية الفيزيائية ، الهواء مثلاً، يبدو لنا انه فراغ، لكنه فضاء مليء بالغازات المتنوّعة التي لا نراها وقد تتخلّلها غازات سامة. البنية الذهنية كذلك لا يمكن أن يسكنها الخواء، وانما تملؤها ايديولوجيات مختلفة تتراوح من أقصى اليمين الى أقصى اليسار ولذلك كان لزاماً على الشريحة التي تعتبر نفسها نخبة وعلى عاتقها تقع مهمة الخروج من المأزق أن لا تترك المكان للايديولوجات السامة التي تدمر المجتمعات، فتملأ البناء الفوقي بما يتناسب وعملية إعادة البناء التي غدت ضرورة واجبة.

وتبقى التعددية الفكرية هي المؤشر الأول والأهم على سلامة الدول والمجتمعات، فسيطرة اللون الواحد دليل الفشل المحقق أو الوشيك، وتثبت التجارب التاريخية المتعاقبة للمجتمعات البشرية بدءاً من الاسرة وحتى المجتمع المدني أنّ التعددية شرط مطلوب لإنجاح وإتمام العملية الاجتماعية والسياسية وكذلك الاقتصادية، وأنّ الفشل الذريع هو النتيجة المحتمة لإعادة إنتاج أشكال الانكفاء والتقوقع والتعصب بمختلف ألوانه وأنماطه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى