روسيا ـ سورية وخديعة الهدنة الأميركية… شربنا المقلب فلماذا الإصرار على استمرارها؟
محمد ح. الحاج
ما أعلن من شروط تطبيق الهدنة على الأراضي السورية تحت عنوان وقف الأعمال العدائية كأولوية هو الحفاظ على المواقع لجميع الأطراف واستثناء التنظيمين المصنفين عالمياً إرهابيين «داعش» و«النصرة» وفصل باقي التنظيمات التي تعتبرها الولايات المتحدة «معارضة معتدلة» من «جيش حر» وإسلامويين إلخ… رغم التحفظ الروسي عن مواقع «داعش» و«النصرة»، وكذلك إغلاق الحدود التركية ووقف توريد السلاح ومرور المرتزقة… وربما هناك بنود سرية لم يتمّ الإعلان عنها وبقيت طيّ الكتمان بين الطرفين الأميركي والروسي، ولكن ما الذي حصل على أرض الواقع.
في مقابل التزام الجيش السوري وحفاظه على مواقعه ووقف اندفاعه لتحرير المدن والقرى الواقعة تحت سيطرة التنظيمات حتى المصنّفة إرهابية، لم تلتزم كلّ الأطراف دون استثناء بالحفاظ على مواقعها بل ارتكبت الخروقات المتكرّرة، أغلبهم ممّن أبلغوا مركز التنسيق التزامهم بالهدنة والمطالبة بعدم استهدافهم بعمليات القصف الجوي، وتولّت الإدارة الأميركية التغطية عليهم بدعوى أنّ من يخرق الهدنة هم من «النصرة»، وأنه من الصعب تحديد مواقعها بسبب التداخل مع الإصرار على عدم الردّ وانتظار مرور الوقت لتحديدها، في ذات الوقت جرى استثمار التحفظين التركي والسعودي وتشكيكهما بجدوى الهدنة، حيث استمرّت عملية الإمداد بوتيرة أسرع وبأسلحة حديثة ومتطوّرة لكلّ الجماعات بما فيها «النصرة»، وتبرير وصول السلاح المتطوّر إلى هذا التنظيم أنه نتيجة عمليات سطو أو اعتراض لشحنات متوجهة إلى مواقع «المعارضة المعتدلة»، مع أنّ اختلاف مسمّياتها لا ينفي كونها من أصول «جبهة النصرة» وأنها لم تنفصل عنها الا بالتسمية، بل إنّ البعض أعلن صراحة أنه و«النصرة» جسد واحد وموقف واحد.
وهكذا لم يتمّ إغلاق الحدود التركية رغم المطالبة الروسية بسبب ميوعة الموقف الأميركي وتبنّيه اللعبة التركية السعودية، ورضا الإدارة الأميركية عما يحصل من خروقات وتقدّم للمقاتلين من مختلف المسمّيات في عديد من المناطق، عدا مناطق انتشار «داعش» التي تركزت عمليات الجيش ضدّها وألحقت بها الهزائم في تدمر والقريتين وغيرها، وبالتأكيد فإنّ الموقفين السعودي والتركي تجاه نجاحات الجيش السوري اتسمت بعدم الرضا والتشويه والتضليل والخوف من تأثير هذه النجاحات على معنويات باقي المعارضات، وربما كان ذلك دافعاً لمدّ يد المعونة التركية سراً لـ«داعش» مع إعلان مهاجمة الطيران التركي والمدفعية لمواقع التنظيم، لكن الهجمات تركزت على مواقع مجموعات أخرى أغلبها كردية أو عشائرية داعمة للجيش ومناوئة لـ«داعش».
التزمت القوات الجوية الروسية التزاماً كاملاً بوقف مهاجمة كافة المناطق عدا مناطق وجود «داعش»، وانسحب قسم كبير من تلك القوات عائداً إلى قواعده في الأراضي الروسية، ولم يجر ردّ على الخروقات في أماكن محيط درعا، الغوطة ريف دمشق، ريف حماه من كلّ الجهات عدا الغرب – ومحيط إدلب كما في محيط حلب، رغم وضوح ومعرفة المجموعات المهاجمة لمواقع الجيش أو المناطق المدنية، في محاولة لوضع اليد عليها وفرض تبدّل جغرافي يشكل ورقة في المفاوضات إنْ عادت إلى الانعقاد… وكانت اللعبة مكشوفة تماماً، تبرّم روسي من الموقفين التركي والسعودي ومحاولات فاشلة لتعديل الموقف سياسياً، ولا مبالاة أميركية مع عدم استجابة للمطالبات الروسية بالضغط على الدولتين، في المقابل التزم الجيش السوري، بفعل التمني الروسي، وقفاً شبه كامل لأيّ ردّ على الخروقات التي بلغت المئات، وبعضها أخذ شكل اجتياح محدود في كثير من المناطق، إلى أن ارتفعت الأصوات مطالبة الجيش بالردّ وحماية المدنيين، واستجابت القيادة بعد أن سادت الخيبة والإحباط في صفوف الوحدات التي كانت مندفعة للتحرير، وخصوصاً في محيط حلب وهي كانت على أبواب تحقيق نصر كاسح بتطويق العصابات وقطع طرق إمدادها وتواصلها مع الجانب التركي، ويبدو أنّ الهدنة حققت أهمّ حاجة لتركيا والسعودية وعصاباتهما المنتشرة في تلك المناطق، ولم يكن ذلك خافياً على الإدارة الأميركية التي مارست ضغوطاً هائلة على الجانب الروسي، وبدوره أقنع الجانب السوري بوقف عملياته وإلحاق هزيمة نفسية بالموقف المتفائل العام على الصعيدين المدني والعسكري وتفهّم المحللون الإجراء وضرورات استجابة الحكومة السورية للمطلب الروسي على أمل كشف اللعبة ضمن وقت قصير لاستعادة الحركة بعد استراحة، لكن الاستراحة كانت في صالح العصابات التي استجمعت قواها وتزوّدت بأسلحة حديثة وفتاكة دفعت أثمانها دول الخليج وسهّلت تركيا مرورها ووصولها وبعضها وصل مباشرة عبر وحدات أميركية تنتشر في المنطقة الشمالية الشرقية، وهكذا تأكّد للكثير من المراقبين والمحللين أنّ اللعبة نجحت وشرب الروس والسوريون المقلب حتى الثمالة.
بعض التلميحات لمسؤوليين روس، أو من باب التبجّح لبعض أركان المعارضات، أو حتى لمسؤولين سعوديين أو أتراك تمّ التأكيد على حصول المقلب، وأنّ روسيا تعرّضت للخديعة، المحيّر في الأمر هو استمرار تأكيد الجانب الروسي على وقف العمليات مع استمرار مطالبته الجانب الأميركي لاتخاذ ما يلزم بشأن تعديل الموقفين التركي والسعودي، وإلزام تركيا بإغلاق حدودها ووقف تسرّب المقاتلين والأسلحة، والقبول بحلّ سياسي تراه الغالبية من الشعب السوري بعيد المنال، وربما في خانة المستحيل لأسباب موضوعية أهمّها تعدّد الدول المتدخلة وتناقض مصالحها وارتباط قادة المعارضات الخارجية كلّ بدولة ومشروع ما مختلف عن الآخر بعيداً عن مشروع استعادة الوطن ومصلحة السوريين.
البارحة صدر بيان فيينا الملتبس الغامض وقد ذكرني بقول للرئيس الراحل حافظ الأسد حول اتفاق أوسلو، وأنّ كلّ بند فيه بحاجة إلى اتفاق جديد… الأكثر وضوحاً في ما صدر عن فيينا التأكيد الأميركي والرغبة في تحويل الهدنة إلى وقف دائم لإطلاق النار، ويبدو أنّ الأميركي لا يعتبر فعل إطلاق نار إلا إذا صدر عن الجيش أو الوحدات الداعمة له، وأنّ المناطق التي يتواجد فيها تنظيمات تعتبرها الإدارة الأميركية ضمن تصنيف «المعارضة المعتدلة» لا يجوز مهاجمتها أو الردّ على الخروقات التي تحصل منها ريثما يتمّ عزل هذه التنظيمات عن «النصرة» و«داعش»، الأمر المشكوك في حصوله مع ما يصدر عن مسمّيات «جيش الفتح» و«جيش الاسلام» و«أحرار الشام»… وأحفاد… وألوية إلخ… وأنّ هؤلاء يعتبرون أنفسهم و«النصرة» في خندق واحد، ويبقى الجواب الأميركي على التساؤل مبهماً وغامضاً ويندرج في خانة الخداع والمراوغة، ولا يمكن فهمه سوى ذلك رغم مطالبة وزير خارجية الإدارة الأميركي للتنظيمات بالانعزال عن «داعش» و«النصرة» وكأنه لم يفهم تصريحات هذه الجماعات أو يتجاهلها تماماً، بينما يؤكد الوزير الروسي موقف بلاده الداعم للشرعية السورية طبقاً للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن في ما يخصّ محاربة الإرهاب، وتحديد التنظيمات الإرهابية.
ما أورده الإعلام من تفاصيل البيان لم يكن كافياً لتوضيح الحلول السياسية المقترحة أو المتفق عليها، ويؤكد أغلب المحللين والمتابعين أنها لم تخرج عن الخطوط العمومية المتداولة قبلاً، ولم تعلن الأطراف التزاماً واضحاً كما لم يتحدّد برنامج عمل واقعي وسياق زمني للتطبيق، فقط تمّ التركيز على مقولة إنّ البحث في مصير الرئيس الأسد تمّ استبعاده، وكأنّ من صلاحيات المؤتمر بحث مصير رؤساء الدول بمعزل عن إرادة شعوبهم، الأمر الذي ترفضه روسيا ومعها أغلب العالم كما يرفضه الشعب السوري صاحب الحق في الاختيار.
المزاج الشعبي العام، خصوصاً في المناطق التي تتعرّض لوحشية التنظيمات التكفيرية وإجرامها من عمليات قصف وإغارة وقتل وحرق… يرفض استمرار الهدنة بما هي عليه من هشاشة، وبما يحصل من خروقات تؤثر على مسار حياة ومعيشة وأمن هذه المناطق، ويطالب سكانها القيادة العسكرية بالحماية وتوفير الأمن ولو اضطرت إلى إحراق المناطق التي يأتي منها العدوان، ونرى أنّ على القيادة الاستجابة وتفهّمها، وشرح هذا الفهم للجهات الدولية المعنية وخصوصاً الحلفاء لضمان استمرارية مواقفهم الداعمة بعيداً عن الالتباس وإساءة التفسير.