النكبة.. مقدّماتها وحقائقها
رامز مصطفى
عندما صاغت الحركة الصهيونية رؤيتها في السيطرة على فلسطين، وضعت نصب أعينها أنّ إحدى الطرق إلى ذلك هي إنشاء تشكيلات عسكرية مهمتها الإستراتيجية تنفيذ اعتداءات متواصلة على القرى والمدن الفلسطينية، وارتكاب المجازر بحق سكانها الفلسطينيين، مثلت تلك المجازر في حجم تراكمها وما خلفته من ضحايا سقطوا شهداء على يد عصابات الهاغاناه وشتيرن والأرغون المقدّمات لما كانت تحضره الحركة الصهيونية بالتواطؤ مع بريطانيا قوة الانتداب على فلسطين آنذاك، بهدف طرد الشعب الفلسطيني من أرضه واغتصاب وطنه بقوة الحديد والنار والقتل والمجازر. وجاءت مجزرة دير ياسين في التاسع من نيسان العام 1948، والتي ذهب ضحيتها 278 شهيداً من الرجال والنساء والأطفال، أيّ على مسافة شهر وأسبوع من تاريخ الخامس عشر من أيار 1948 يوم النكبة الذي توشحت به فلسطين بأرضها وبشرها وشجرها وجبالها وسهولها ومآذنها وكنائسها بالسواد، وهو تاريخ لن يمحوه الزمن في تقادمه، ولا اتفاقات أخذت في لحظة تحكم بها من هم فقدوا إرادتهم الوطنية.
دير ياسين في موقعها الاستراتيجي من حيث وقوعها على مرتفع يطل مباشرة على مدينة القدس، شكل احتلالها النقلة والتحوّل الهامّ جداً من أجل احتلال المدينة. وبالتالي فإنّ تلك المجزرة وما تركته من آثار نفسية ومعنوية تجلّت في دبّ الخوف والرعب بين صفوف الفلسطينيين العزل من تكرارها في أماكن ومناطق فلسطينية أخرى.
هذا سيدفع الفلسطينيين وتحت هاجس البحث عن الملاذات الآمنة، إلى اللجوء إلى دول الجوار لفلسطين. وهذا ما كان، ففي الخامس عشر من أيار عام 1948، نفذت الجريمة الأشنع في التاريخ، حيث طُرد الشعب الفلسطيني من أرضه بقوة الاغتصاب والقتل الصهيوني، وتواطؤ الحكام والملوك والسلاطين والمجتمع الدولي، وفي مقدّمة كلّ هؤلاء دولة الانتداب البريطاني التي أعلنت عن انتهاء انتدابها على فلسطين في الرابع عشر من أيار 1948، أيّ قبل يوم واحد من جريمة العصر.
وإذا كانت تلك المجازر وعمليات القتل الممنهج والاستيلاء على القرى والمدن الفلسطينية والتي بلغ عددها 774 قرية ومدينة، بعد أن دمّروا وأحرقوا 531 قرية ومدينة فلسطينية، قد شكلت تلك المقدّمات التي وجد فيها الصهاينة وقادتهم من أمثال بن غوريون وبيغن واسحاق شامير الخ… الضرورة لإقامة كيانهم الغاصب. إلاّ إنه وبعد مرور 68 عاماً على اغتصاب فلسطين ونكبة شعبها، هناك جملة من الحقائق لا بدّ من التأكيد عليها، ويجب أن تمثل تلك الحقائق بالنسبة لجموع الشعب الفلسطيني وقواه ونخبه من أجل العمل على رواية فلسطينية تدحض الرواية الصهيونية القائمة على التزوير والتزييف. وأولها… التأكيد على الرفض الفلسطيني للرواية «الإسرائيلية» القائلة إنّ رفض الفلسطينيين لقرار التقسيم 181 في العام 1947، هو من ساهم في وقوع نكبتهم. على الرغم من الوثائق ومن قبلها الوقائع قد أثبتت أنّ هذه الرواية ليست صحيحة وتنطوي على قدر خطير من قلب سياقات النكبة ومقدّماتها.
كما أنّ هناك للأسف من صوّر الأمر على هذا النحو من خلفية انهزامية إنْ لم نقل أكثر، والقول لو أننا قبلنا بقرار التقسيم لما وصلنا إلى اتفاقات «كامب ديفيد»، ولو قبلنا بـ«كامب ديفيد» لم وصلنا إلى «اتفاقات أوسلو». ومن يعلم أو يدري من سيخرج علينا لاحقاً ليقول لنا لو أننا قبلنا بـ«اتفاقات أوسلو» لما وصلنا إلى «أوسلو 2»…
أما ثانيها… فما زالت القضية حية على الرغم من جميع المخاطر والتحديات التي تواجهها حالياً وتهدّدها بالتصفية على وقع ما تشهده المنطقة من أحداث جدُّ خطيرة. ومسؤوليتنا تفترض إبقاءها حاضرة وهذا ما عملت وتعمل عليه الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، على الرغم من حالة الانقسام واستمراره من جهة، وحالة التخلي العربي والإسلامي في الغالبية العظمى من نظامها الرسمي وحتى الشعبي الذي أُخذ إلى حدوده القطرية، وتمّ دفعه ليكون حبيس تلك الحدود بسبب الأحداث التي تشهدها الكثير من دول المنطقة.
وثالثها… صحيح أننا لم نحقق الانتصار على العدو الصهيوني، ولكن الصحيح أيضاً أنّ عدونا لم ينتصر علينا. والصراع لا يزال مستمرّاً بيننا وبين الغاصب الصهيوني. ولا يمكن أن ينتهي هذا الصراع إلاّ بحسمه مع الكيان الغاصب مهما طال الزمن.
وأما رابعها… وإنْ كانت النكبة بتداعياتها وآثارها وما ترتب عليها قد مثلت بالنسبة للفلسطينيين الذروة في المأساة، فهي أيضاً أيّ النكبة، قد رسخت حقيقة أنّ شعبنا عصيّ على الموت والانكسار، وعجزت كلّ المصائب والمجازر على دفعه بعيداً عن قضيته الوطنية وتمسكه بحقوقه التاريخية.
وخامس الحقائق.. أنّ فلسطين وقضيتها ستبقى الداتا الجامعة في العقل والوجدان العربي والإسلامي. وهي أيضاً دائمة الحضور عند الفلسطينيين بكلّ أجيالهم الراحلة والباقية والقادمة، لأنها أصبحت جزءاً من خارطتهم الجينية.
بعد 68 عاماً من عمر النكبة كبارنا وإنْ فارقنا الكثيرون منهم، إلاّ أنّ صغارنا لم ينسوا ولن ينسوا على الرغم من التضحيات الجسام، والنكبات المتجدّدة التي يكابد منها شعبنا. حيث الانقسام البغيض وما تركه من آثار سياسية ووطنية كارثية، وتاليه حالة التخلي المتبدية في الواقعين العربي والإسلامي، الذي جعل من قضية فلسطين عرضة للمزيد من الاستفراد مقدّمة لتصفيتها.