تقرير

استطاعت الصين، في السنوات القليلة الماضية، أن تحقّق صعوداً سريعاً لتصبح قوة كبرى تنافس الولايات المتحدة وتسعى إلى إبعادها عن مركز النظام العالمي. ذلك النظام الذي أُسّس في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تتحدّى الصين الآن القواعد المؤسسة له، وتخشى الولايات المتحدة أن تسعى الصين إلى مراجعة أساسات النظام العالمي، لتصنع نظاماً جديداً لا يرتكز على الليبرالية، ولا يتمحور حول أميركا.

يسعى ريتشارد فونتاين وميرا راب هوبر، في تقريرهما الذي نشرته مجلة «ناشونال إنترست» الأميركية، إلى توضيح رؤية الصين للنظام العالمي، وكيف يجب أن يتصرف الغرب حيالها.

تحاول الولايات المتحدة دفع الصين إلى الانضمام إلى النظام العالمي القائم، يدفعها إلى ذلك أسباب: الأول وجود نظام عالمي ليبرالي موحد قائمٌ بالفعل، ومفتوحٌ أمام أي دولة ترغب في الانضمام إليه. والثاني أن ذلك النظام، بقواعده ومؤسساته، سيشكل ملامح الصين أكثر بكثير مما تشكل الصين ملامحه وتغير قواعده. أما الثالث، فهو أن الفشل في ضم قوة كبرى بحجم الصين إلى النظام العالمي، سيهدد بالتأكيد بانهياره. وعليه، فإن الاستراتيجية التي تتبعها الولايات المتحدة أن تمد يدها للصين، وتعدها بأن ترى «منافع النظام العالمي» بنفسها، حيث «ينهض الجميع، ويكسب الجميع» كما قال وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر. لكن هذه الصورة، وفقاً للتقرير، تعد تبسيطً مخلاً لكل من طبيعة النظام العالمي، وعلاقة الصين به.

أولاً، «النظام العالمي» هو في الواقع عدة مكوّنات وطبقات مختلفة من الأنظمة. هناك منظمات عالمية، مثل صندوق النقد الدولي والأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية، وهناك مؤسسات إقليمية مثل بنك التنمية الآسيوي. وهناك شبكة متداخلة من المعاهدات الثنائية ومتعدّدة الأطراف والأنظمة، مثل اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار «UNCLOS»، ومعاهدة منع الانتشار النووي. كل هذه المؤسسات والأنظمة والمعاهدات تختلف من حيث إلزاميتها ونطاقها وأهدافها.

يستند النظام العالمي إلى مجموعة من القواعد الحاكمة للتصرّفات الدولية، كثيرٌ منها وضع تحت قيادة الولايات المتحدة، لتضع معايير محدّدة تستبدل بها عقيدة القوة الصانعة للحق. وهو نظامٌ مفتوح لا يقصي أي دولة بناءً على اعتبارات إقليمية أو أيديولوجية، طالما أنها تتبع المعايير المطلوبة. وهو نظام ليبرالي يحمي رأسمالية الأسواق الحرة، والقيم السياسية اليبرالية.

ثانياً، ليس قرار الصين تجاه النظام العالمي قراراً ثنائياً بالموافقة أو الرفض. فالصين لطالما كانت عضواً فاعلاً وشريكاً في العديد من هذه المؤسسات، ومواقفها تجاه القواعد المؤسسة للنظام العالمي تختلف بين الرفض، والقبول، والسعي إلى إعادة الصياغة. كانت الصين عضواً مؤسساً في الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. هناك مؤسسات أخرى تشكلت بعيداً عن الصين التي لم تنضم إليها إلا مؤخراً، مثل منظمة التجارة العالمية. تشارك الصين كذلك في العديد من المنظمات الإقليمية مثل بنك التنمية الآسيوي، والقمة الشرق آسيوية. لم تصدق الصين على معاهدة منع الانتشار النووي إلا في عام 1992، وهي الآن تشارك بدرجةٍ ما في كل الأنظمة الحاكمة لانتشار الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية. كذلك لم تصدق الصين على اتفاقية «UNCLOS» إلا عام 1996، وخالفت العديد من بنودها منذ ذلك الحين.

وفقاً للتقرير، فإن القيادة الأميركية الفاعلة شكلت عدداً من ملامح النظام العالمي، وساهمت في توسعه وتطبيقه بشكلٍ رئيس. لكن الصين كانت لها مساهماتها كذلك في تأسيس عدد من القواعد، والآن تسعى الصين إلى تمثيلٍ أكبر في المؤسسات العالمية، وكذلك إلى مراجعة بعض قواعدها وهياكلها.

لعقودٍ طويلة، اتّسمت مشاركة الصين في مجلس الأمن بالأمم المتحدة بالسلبية والامتناع عن التصويت، والانضمام إلى دول أخرى «غالباً روسيا» عند اتخاذها موقفاً ما. لكن هذا الوضع يتغير، فقد زادت الصين من مساهمتها بميزانية الأمم المتحدة إلى ثلاثة أضعاف، وشاركت بآلاف الجنود في مهمات حفظ السلام، كما لعبت دوراً مهماً في منع انتشار الأسلحة النووية، حينما دعمت المفاوضات مع إيران، وانصاعت للعقوبات الدولية، ما أدّى في النهاية إلى نجاح المفاوضات وتوقيع الاتفاقية النووية الإيرانية. كذلك وقّعت الصين على عدّة عقوبات ضد كوريا الشمالية، على رغم العلاقات المتوطدة بين البلدين، إلا أن الصين أدركت مع صعودها إلى مركزها أن منع انتشار الأسلحة النووية يصبّ في مصلحتها.

مؤخراً، بدأت الصين إنشاء مؤسسات موازية للمؤسسات الدولية، خصوصاً في المجال الاقتصادي، بهدف التخلص من مركزية النظام العالمي حول الولايات المتحدة، وإنشاء أنظمة جديدة تكون الصين لها مركزاً. فمع أن الصين عضو بارز في منظمة التجارة العالمية، إلا أن مؤسساتها الاقتصادية الحكومية أظهرت عيوباً في الهيكل التنظيمي للمنظمة، الذي يفصل الحكومات عن الشركات. وعلى رغم ابتعادها عن الإصلاحات الاقتصادية الصعبة، تسعى الصين إلى منحها وضع اقتصاد السوق من قبل منظمة التجارة العالمية. وفي حالة نجاحها، سيصبح من الصعب تطبيق قانون «مكافحة الإغراق» على الشركات الصينية، التي ستغرق الاقتصاد الأوروبي والأميركي بالسلع الصينية.

أيضاً تقدم الصين بدائل إقليمية تسعى من خلالها إلى إنشاء هيكلها التجاري الإقليمي الخاص: «الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة RCEP» بديلاً لـ«الشراكة العابرة للقارات TPP». ستربط «RCEP» أعضاء اتحاد دول جنوب شرق آسيا بست دولٍ أخرى، من ضمنها الصين والهند واليابان، إنّما بمعايير أقل، وبلا قيودٍ على الشركات المملوكة للدولة.

أما من ناحية التمويل، فقد تخطت الصين البنك الدولي وأقرضت الدول النامية، غالباً بلا اعتبار لمعايير الشفافية وجودة الحكم. أسست الصين كذلك البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية «AIIB»، لتمويل مشاريع البنية التحتية في آسيا. كذلك ضم صندوق النقد الدولي عملة الصين إلى عملات الاحتياطي النقدي العالمي، إلى جانب الدولار الأميركي، واليورو، والجنيه البريطاني، والين الياباني. وربما تنجح الصين في تحويل النظام المالي العالمي بعيداً عن الدولار، تجاه عملتها، اليوان.

حقوق الإنسان وحرية الإنترنت

تحتفظ الصين بموقف ثابت يرفض معظم جوانب نظام حقوق الإنسان العالمي. مع أنها طرفٌ في الميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية، إلا أنها لا تلتزم بعدد من بنوده، وبنود دستورها أيضاً، المتعلقة بحرية الفكر والحرية الدينية، وحرية التعبير والحق في التجمع السلمي، منتهكةً إياها في الكثير من التعاملات مع مواطنيها، أو في دعمها الحكومات الديكتاتورية مثل حكومة كوريا الشمالية.

تعلي الصين مبادئ السيادة فوق حقوق الإنسان، وموقفها حاسمٌ من حيث الرفض لعقيدة «مسؤولية الحماية»، التي تلزم الدول الكبرى بحماية الأفراد المتعرضين للفظائع والجرائم، باعتبار أن «القوة تجلب المسؤولية». ظهر هذا في استخدام الصين وروسيا حق الفيتو في معارضة أربعة قرارات لمجلس الأمن بالتدخل العسكري الدولي في سورية.

سعت الصين كذلك إلى إعادة كتابة القوانين الحاكمة للإنترنت، لتعطي للحكومات قدرة أكثر على التحكم في تدفق الاتصالات. سعت بكين، من خلال عدة قمم دولية، إلى ضم دولٍ أخرى تتشارك معها الرؤية ذاتها، مثل روسيا وإيران، ليتحدوا معاً في مواجهة الغرب.

في ما يتعلق بحدودها، يرى المقال أن الصين لا تختلف كثيراً عن القوى الأخرى الصاعدة. تسعى الصين إلى تقليل النفوذ الخارجي قرب حدودها، كما حاولت بشكل محدود إنشاء مؤسسات أمنية، مثل «منظمة شنغهاي للتعاون SCO» في 2001، بهدف نزع السلاح الحدودي في وسط آسيا، ومحاربة «الشرور الثلاثة»: الإرهاب، والفرقة، والتطرف، مع أن تحركات المنظمة تشير إلى سعيها تقليل النفوذ الأميركي في وسط آسيا وغيرها من المناطق. وفي اجتماع «مؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا CICA»، عام 2014، هاجم الرئيس الصيني شي جين بينغ التحالفات مع الولايات المتحدة، داعياً إلى أن يحفظ الآسيويون أمنهم بأنفسهم.

أما بالنسبة إلى قانون البحار، فمع أن الصين وقعت على اتفاقية «UNCLOS»، لا بل ساهمت في تشكيل بعض من خصائصها الأساسية، إلا أنها اليوم تفسر بنودها الأساسية بطريقةٍ تلقى رفضاً عالمياً واسعاً. في بدايات القرن الحالي، ومع صعود نجمها وقوّتها، بدأت الصين في اعتراض الطائرات والسفن الأميركية المارة قرب الشواطئ الصينية. ولاحقاً بدأت في اتخاذ خطوات جادة تجاه استعادة الجزء المتنازع عليه، خصوصاً عندما طردت الفيلبينيين من جزر «سكاربورو» في 2012، ورفضت بعدها المشاركة في القضية الدولية التي رفعتها الفلبين، على رغم محاولتها شرعنة الأمر بتقديم «الخط الحدودي ذي النقاط التسع» للأمم المتحدة.

بانتهاجها هذه الأفعال، تسببت الصين في تآكل الأنظمة والقواعد البحرية، لكنها لم تلغ توقيعها على اتفاقية «UNCLOS»، أو تقدّم بديلاً واضحاً لها، وهو ما يجعل نواياها طويلة المدى غامضة.

طبقاً للمقال، فإن الحفاظ على العناصر المكوّنة للنظام العالمي والتوسّع في تطبيقها أمرٌ يستحق العناء، فقد أثبتت نفعها للولايات المتحدة، والعديد من الدول الأخرى. لكن الاستراتيجية المتبعة لفعل ذلك يجب أن تبنى على فهمٍ أعمق لطبيعة النظام العالمي، ولدور الصين فيه.

أولاً، تحركات الصين تنبع بشكل رئيس من مصالحها، سواء كان ذلك في السعي إلى إنشاء مؤسسات بديلة إقليمياً، أو دعم الأنظمة القائمة دولياً. وعليه فإن اعتقاد الولايات المتحدة أن بإمكانها «شراء» المشاركة الصينية عن طريق التنازل على مستوى العلاقات الثنائية، هو اعتقاد خاطئ. لن تكون هناك «صفقة كبيرة» بين الولايات المتحدة والصين، على حدّ وصف المقال، لكن الأمر سيحتاج إلى استراتيجية مرنة تعترف بقدرة الصين على استغلال نفوذها الإقليمي والاحتفاظ بدورٍ عالمي، في الوقت ذاته.

ثانياً، يجب أن نفرّق بين سعي الصين إلى استبدال المؤسسات العالمية، وبين خرقها الأنظمة القائمة. ففي ما يخص حدودها البحرية، تصر الصين على أنها تتبع قانون البحار، لكنها لم تضغط في اتجاه إلغائه. تتبع الصين نهجاً مشابهاً أيضاً في اختراقها مواثيق حقوق الإنسان. استجابةً لهذه الاختراقات، يجب أن تعيد الولايات المتحدة التأكيد على هذه القواعد، وتسعى إلى تعزيزها بمساعدة حلفائها، لتقليل الاختراقات الصينية وآثارها عالمياً.

ثالثاً، ليس من الحكمة الاستجابة لمحاولات استبدال المؤسسات العالمية بأخرى إقليمية، بالرفض التام. معارضة حكومة الرئيس «أوباما» لبنك «AIIB» مثال على ذلك، لكنه مصدرٌ يوفر رأس المال لدول تحتاج إليه، وبالتالي يجب أن يكون الدفع في اتجاه ضمان الشفافية، ورفع المعايير، لا الرفض. فالأنظمة الجديدة ليس من الضروري أن تتسبب بشكلٍ آلي في تآكل القديمة.

رابعاً، في المجالات التي ليس لها قواعد مكتوبة بعد، مثل الأمن السيبراني، والفضاء الخارجي، يجب على الولايات المتحدة أن تشرك الصين في عملية تشكيل هذه القواعد، لكن يجب أيضاً أن تحشد الدعم السياسي والدولي لمنع بكين من الانحراف بهذه القواعد عن مسارها وأهدافها.

أخيراً، ربما لا يدري قادة الصين أنفسهم كيف ستصبح الأمور في المستقبل، وإلى أي حدّ سيفلح نهجهم الدولي في تحقيق الأهداف المرجوة. ربما تلجأ الصين إلى المؤسسات الاقتصادية العالمية في حال استمرار التخبط الاقتصادي، أو توافق على قوانين الانفتاح السيبراني. هذا التغير المحتمل في السياسات يجب أن تضعه الولايات المتحدة دائماً في الحسبان.

ينتهي المقال إلى أن عهد السيادة الأميركية مطلقة التحكم في قوانين العالم قد انتهى منذ زمن. ومع اقتراب موعد تنصيب الرئيس الأميركي الجديد، تتصاعد الأسئلة حول النظام العالمي المتداعي. سيكون على المرشحين توفير استراتيجيات لتدعيم النظام العالمي وإعادة تشكيله، والاعتراف بتنافسية الصين في بعض المجالات، وتعاونها في البعض الآخر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى