التحالفات الانتخابية: الضرورات تبيح المحظورات
علي بدر الدين
لم تختلف المرحلة الثالثة من الانتخابات البلدية والاختيارية في دائرتي صيدا والنبطية عن المرحلتين السابقتين من حيث صياغة التحالفات الثنائية بين القوى السياسية الأكثر حجماً ونفوذاً وسلطة وتأثيراً في بيئاتها الحاضنة، وإنْ رفع بعضها سقف عناوين وشعارات لم يعتد عليها الشعب اللبناني في يومياته الحياتية قبل الاستحقاق الانتخابي على مستوى الخدمات والإنماء وحتى في الأداء السياسي العام وفي إدارة شؤون البلاد والعباد، وهي تحت مظلة الانتخابات تصبح لازمة وضرورية، علّها تُحدث تغييراً ولو جزئياً في مزاج الناخبين وفي تلميع صورتها التي تشوّهت بفعل التراكمات والإخفاقات والعجز أو التقصير أو الفشل في إيجاد الحلول ولو في حدّها الأدنى لكثير من الملفات الخلافية والأزمات الدستورية والاقتصادية والمشكلات الاجتماعية والمعيشية التي باتت عصية على أيّ حلّ في ظلّ العقلية السياسية الحاكمة التي تدير محركات عقلها وعملها باتجاه واحد وأهداف محدّدة ومختصرة هي: كيف تحافظ على مواقعها السلطوية ونفوذها ومصالحها التي هي من أولوياتها وشغلها الشاغل، ولا همّ سواها، وقد رسّخت هذه الانتخابات لدى هذه القوى فرضية التعاون والتماسك والتحالف من خلال مواقف استباقية دفاعية في مواجهة بعض الدخلاء الجدد على الساحة السياسية ورفعهم شعارات أكبر منهم في محاولة لسلب هذه القوى «حقوقها ومكاسبها وامتيازاتها التي ضحّت كثيراً من أجل الحصول عليها وهي مستأسدة أو مستذئبة اليوم وغداً للدفاع عنها مهما كلفها ذلك من أثمان، وهي القادرة على الوفاء بوعدها، لأنها تملك أطناناً من الأموال المنقولة وغير المنقولة.
لا مجال للاستغراب أو الدهشة في طريقة حبك التحالفات الانتخابية التي اعتمدت مقولة الضرورات تبيح المحظورات، ولا مجال للتهاون أو إفساح المجال أمام أيّ دخيل على السياسة، أو حالم بالسلطة والمال والنفوذ، لأنّ لهذه المغريات أربابها ورموزها، وما يحقّ للمتنعّمين بها لا يحق لغيرهم حتى قيام الساعة، والاقتراب منها ممنوع.
فالقوى السياسية الحاكمة على مساحة لبنان نجحت في تحويل وهم سلطتها إلى حقيقة، وكأنها خارج الزمان والمكان والتحوّلات، وليس بمقدور أحد زحزحتها عن تسلّطها ومواقعها مهما بلغ شأنه، لأنها واثقة بأنها المالكة الحصرية الوحيدة للبنان وما فيه وما عليه، ولها الحق وحدها دون غيرها في تحديد الوكيل عندما يغيب الأصيل، مع أنها لا تفكر للحظة أنها ستغيب يوماً ما عن المشهد السياسي وحتى عن الدنيا، وأنّ الموت حق على الجميع وأنّ الآخرة خير من الأولى، وقد يكون الغرور والاستعلاء وملاذ الدنيا أفقد الحكام والحاكمين بأمرهم أياً كانوا على الكرة الأرضية الشعور بحتمية الوصول إلى خط النهاية، وأنه لو دامت لغيرك لما آلت إليك…
التفكير المغلوط والمشوّه أوهمَ اللبنانيين بأنّ القوى المتحكّمة والمهيمنة منذ عقود، بل منذ تشكل النظام السياسي الطائفي الفاسد الذي أفرز أحزاباً وأسماء لا تزال حاضرة ومسيطرة على عقول معظم اللبنانيين، وتحوّلت عبر الزمن إلى رموز وطنية يُعتدّ بها، والقدوة لأيّ حراك أو طموح لدخول المعترك السياسي، وهي التي أسّست للاهتزازات السياسية والأمنية وأنتجت سياسيين التزموا النهج ذاته في إدارة الحكم وأمعنوا في السيطرة والتحكم والاستئثار بالسلطة ومؤسساتها ومواردها، وبقوة نفوذها أرعبت اللبنانيين وجعلت من كلّ مرشح للانتخابات النيابية والبلدية والاختيارية بطلاً مقداماً وشجاعاً لأنه تجرأ على الترشح والمنافسة في مواجهة مباشرة مع المحادل والبوسطات والتحالفات العجيبة والغريبة المدعومة بالذرائع والتبريرات والأحكام والسلطة والمال التي تحصّنها، لأنه في الانتخابات تتوه التوجهات وتسقط المحرمات وتُباح المحظورات وتشوّه الأخلاقيات، وحدها الأرقام في صناديق الاقتراع تحدّد الأحجام والولاءات وكلّ ما يسبقها أو يلحقها لا قيمة له على الإطلاق حتى تحوّل خرق لوائح التحالفات الثنائية أو الزعائمية أو الأحزاب الطائفية بامتياز بمرشح أو اثنين إلى بطولة خارقة قد يؤسّس عليها للاستحقاقات المقبلة بخروق أكثر، وكأنّ طموح المرشحين المعترضين والأحزاب التغييرية يقتصر على هذا الخرق المحدود الذي لا يقدّم ولا يؤخّر في قراءة النتائج، فضلاً عن أنهم مشتتون عاجزون عن تشكيل لائحة موحّدة تجمعهم، فكيف لهؤلاء الذين يفتقدون إلى القاسم المشترك أن يقلبوا المشهد السياسي السائد في لبنان والادّعاء بدنو التغيير والانتفاض على الواقع، وهي عاجزة مرتبكة ومشتتة، وتفتقد إلى القائد الموجّه وإلى برنامج سياسي ووطني واضح وهادف ساهمت هي عن قصد أو من دونه بإنتاج هذه الطبقة السياسية واستمرار طغيانها واستبدادها وتسلّطها، والتي من حقها أن تدافع عن وجودها بكلّ الوسائل المتاحة والمتوفرة لها. وهي ما زالت موجودة ومؤثرة في ثباتها وتموضعها السياسي وفي استعلائها على اللبنانيين، والمشكلة ليست فقط في هذه الطبقة، بل لدى من يرفع شعارات التغيير وهو عاجز وغير قادر على فعل أيّ شيء سوى المجاهرة بالترشّح وادّعاء الفوز لمجرد أنه خرق هنا أو هناك لما يسمّيه بلوائح السلطة أو إذا حصل على نسبة مقبولة في أقلام الاقتراع.
هذه الإنجازات الانتخابية ليست كافية لدق مسامير التغيير في جدار الطبقة السياسية، لأنه عملية مستدامة وطويلة ونجاحها مرهون بتوفّر الأرضية والوضوح والإمكانيات وقوة الإقناع والتأثير في الرأي العام الذي وإنْ كان ضمناً يريد الخلاص من قيود المتحكّمين، ولكنه لم يجد المشروع السياسي الوطني البديل الذي يبدأ بأول خطوة تتمثل بالضغط بقوة على السلطة السياسية لإبطال مفعول قانون الستين الانتخابي الأكثري الظالم الذي يجيّر لصالح القوى السياسية والحزبية والطائفية الحاكمة في طول البلاد وعرضها، والذي يُحرم فئات واسعة من اللبنانيين من حضورها التمثيلي الوازن. والأمثلة كثيرة عبّرت عنها الانتخابات البلدية والاختيارية في مراحلها الثلاث، حيث تقاربت نسب الاقتراع، ولكن الغلبة فيها لمن فاز بأكثرية الأصوات، حتى لو كان بفارق صوت واحد، وهذا هو الظلم بعينه الذي تمارسه السلطة ومكوّناتها وشركاؤها وتتمسك به لأنه صمام أمان لصولاتها وجولاتها وتثبيت دعائم سلطتها.