صباحات

في حضرة جلال الموت وموكبه المهيب، وحضرة أوجاع طرطوس أمّ الشهداء خلال خمس سنوات الصمت هو الأبلغ. بعض الأصوات المحبة والموجوعة يريحها الصمت كي لا يوقعها في التلعثم بالأحرف وتركيب الجمل إلحاح الكلام.

كنّا نعلم من يومها حجم ما نحن فاعلون. فلن يمر بعده يوم بلا حروب وبلا شهداء ودماء، فقد غيرت قبضاتنا ودماؤنا وبنادقنا وعزيمة شباب بدأوا فرادى وحدهم ينسجون من عتم الليل خيوط فجرنا الجديد ويحيكون من بعض أناملهم وأرواحهم ثوب عرس للوطن، وستغير تاريخ المنطقة والعالم وسنتحمل لتثبيتها، أن يحاربنا كل الذين يمسكون بأعناق الأحرار ويدوسون رقاب الشعوب بأقدامهم وينتهكون سيادة أمتنا وينهبون ثروتنا. وكنا نعلم أنهم سيجلبون الأفاعي وأولاد الأفاعي من كل الدنيا لقتالنا بألف لون ولون كي لا يصدق الفقراء والضعفاء أن ما فعلناه قابل للتكرار في كل مكان وزمان، إذا توفرت قضية الحق وتوفّرت لها قبضات تحميها ودماء ترويها، فتزهر في فنزويلا على يد شافيز، وفي فلسطين يخرج شباب السكاكين وصبايا العرين، وفي ربيع مسروق يخرج الشارع العربي وسيخرج مجدّداً ما دامت سبابة سيد هذه المقاومة تفقأ عيونهم ويؤرّق صوته ليلهم. وحذار من ارتدادات 25 أيار في 7 مثلاً يا فؤادي ولو بعد ثمان سنوات ردّاً على حرب تريد اقتلاع شبكة الاتصالات التي عجزت عنها حرب أيار وتموز. وحذار من تكرار 17 الذي اقتلع من جذوره ومن 27 قد يأتي وربما 37 أو 47 أيار بحسب لغة البورصة وأسعارها. إذا واصلت مصارف العار اللعبة الجهنمية في إفقار شعب المقاومة. كل سنة وأنتم بألف خير، وصباح الخير لعماد ومصطفى وسائر الجمع المقدّس.

عروس البحر حزينة، فالشاطئ الذي ولدت فيه حزين، من أوغاريت حتى عمق البحر، دم ودموع ووجع طرطوس يصيب كبدها وجبلة تتنفس من رئتها والدمع الأسود ليس من عادتها، فهو دمع انتقام خارج الزمان والمكان، وهي تنتمي إلى زمن الفروسية والبطولة، حيث تتقن القتال وتمقت القتل، تربح الحروب ولا تترك الخراب، يسقط برماحها قادة جيوش لا أطفال ونساء وشيوخ. كيف وهي تشمّ رائحة الفتنة وتعلم أن جنية ترعرت في المستنقعات لا تعرف نقاء ماء النهر ولا ضجيج موج البحر، هي التي أبكت طرطوس وجبلة وتريد لفرسان البحر أن يضلوا الطريق وتضيع أخلاقهم وتتلوّث سيوفهم بالدم الحرام والدمع الأسود. عروس البحر تعرف ألم فراق الأحبة وتبكي دمعاً ناصعاً كحبّات ألماس، وتستجمع قواها لتشنّ حرباً لا هوادة فيها على كلّ العفاريت والأفاعي. فحيث يعاقب قاتل يعاقب كلّ القتلة، وحيث ينصف مظلوم تنتقم لكلّ مظلوم. وحيث يتسفيق الشهيد ويحكم له بالحق يصير سيف الحق بريق نور في أيدي كل الفرسان. صباح الفروسية لجبلة وطرطوس وساحل أوغاريت، حيث كتبت ملاحم البشرية خلال آلاف السنين. وستبقى تكتب دروس مدرسة الفروسية.

عندما أطلّ بابتسامته يلقي التحية، ظنّت عذارى البحر والبرّ والماوراء في غيب الغيب أنّ صاحب الحصان الأبيض قد ورد إلى موئلها يتلو قصائد الغزل. بينما كانت الأرض وحدها تخفي وجهها بغمار قمح وغلال زيتون ودماء الشهداء، تعلم أنه عيدها، وأنه آت إليها ليحتفل، وأنه غير كلّ الفرسان لن يدع اليوم الذي صنع فيه الشهداء الذين تنشقوا هواءها وشربوا ماءها وتعلموا معه البطولة تاريخاً جديداً كُتب بحبر أحمر قان، إلا ويضيف سطراً من بحور شعره. فكانت تنتظر بصمت والعذارى يلبسن أحلى الحلل. فجعلت الأرض منهن جوقة احتفال ونادت عصافير الجنّة لعزف نشيد الشهداء، والخيول لأداء تحية السلاح، وقدّمت فرقة من سنونوات الحقل سنابل مثقلة بحبّات قمح مذهّبة على مائدته، قبل أن يبدأ الاحتفال. وفي لحظة الحضور أمرت بالصمت المبين ليستمع الجمع إلى سيّد السنين. وقالت جاء السيّد فأنصتن جميعاً. لبس الوقت لقصائد الغزل، وقال وصالَ وجالَ وختم. لا يموت حق وراءه مطالب ولا يطلب الحق من غير سالبيه. والحق يطلب بالسيف لا باللسان وقد شرّعنا سيوفنا ألسنة حق تسابق الزمان. انتهى الاحتفال وإلى اللقاء مع غلال جديدة في حصاد جديد.

العلم هو أعطية العقل الذي وهبه الله ليكون أداة البشر الوحيدة لردّ سلطان الطبيعة من زمن الطوفان والبركان والزلزال، وأصل قدرة العلم الجبارة مزدوج أنه يجعلنا نعرف ومن المعرفة نتعرّف أين نقطة ضعف القوة التي ترعبنا، ومن أين نمسك بها. وبالمقابل يمنحنا العلم فرصة تطوير أدوات من الطبيعة نفسها ومن معادنها وأخشابها وقطنها ونفطها، ليصبح بتراكم المعارف مع الأجيال آلات وتقنيات للتدخّل لردّ القهر الذي يبدأ بطغيان قوّة الظواهر الطبيعية المفاجئة، لكنها ستصير أدوات ومعارف يملكها من يستعلمون العلم لمعرفة نقاط ضعف البشر في مصادر قوّتهم، وهي الاجتماع في مدن وأوطان. ويستعلمون الأدوات التي طوّرتها المعارف نفسها للسيطرة على هذا الاجتماع. بالعلم والمعرفة نفهم ونمسك قوانين الظواهر ونصنع أدوات التدخل فيها. يصحّ في الحرب ويصحّ في الطبيعة ويصحّ أيضاً في الفتن، ولكنه إن أتقنّاه يصلح في الصداقة والحبّ.

سُئل معمّر فاق المئة من السنين كم عمراً تريد لكتابة ستين مؤلّفًا كالتي كتبها الجاحظ؟ فقال مئة عمر ربما. وقيل له ولتصنع شيئاً من عبقرية أديسون أو آينشتاين؟ فقال ربما مئتين. ولتنجز ما أنجز أبطال المقاومة كعماد ومصطفى؟ فقال ألفاً وأكثر. فقال الصباح لا تضيعوا أعماركم وأنتم تعدّونها أياماً وسنين، بل احسبوها بالإنجازات. وأول الإنجاز الزهد بالعمر. وأوّل القوة إرادة، وأوّل الإرادة العلم. وبسواهما أنتم واهمون. فكل مال الفراعنة وذهبهم لم يبنِ هرماً واحداً لولا العقول. وكلّ مال «إسرائيل» وسلاحها لم يربح حرباً عندما واجهتها العقول التي تفوّقت على العقول.

الحبّ مدرسة لا حالة. ولا يعيشه حالة إلا من كان من طلاب مدرسته يرتقي حتى يصير أستاذاً فيها. ولا يعيش خصوصية الحالة إلا من تنفّس قيم المدرسة في العام قبل أن يلتفت إلى الخاص. تحققوا من مقدرة من يدّعي حبّكم إن كان على مقدرة أن يحبّ الأرض ويحبّ الناس ويحبّ أمه وأباه وأخوته وزملاءه، قبل أن تأخذكم الكلمات المتقنة والمزخرفة إلى وهم حبّ هو عبودية أو رغبة أو نزوة أو تطلّع لتملّك وأنانية البحث عن استكمال شروط تنعّم الذات بالاستقرار. وعندما تجدون من يعيش مدرسة الحبّ بين دفتَي قلب دافئ يفيض حناناً وعيون سهلة المدامع لسواكم قبل أن تكون لكم، تكون اللحظة التي تستحق منكم ألا تتباطأوا لإغلاق نوافذ آذانكم أمام كلّ رياح الدعوة للتمهل والتباطؤ بداعي دراسة الظروف والأحوال، لأنكم وقعتم على كنز نادر يحسدكم عليه من يعرفون معنى السكينة، وثروة لا تقدّر بثمن ولا بقيمة ولا بجاه. ستغنيكم عن العالم كلّه إن احتجتم وضعفتم وأسودّت في وجهكم الدنيا، وستغرفون من بحر سعادة لا قعر له متى أزهرت بساتين الفرح.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى