صمود غزة وبسالتها… ثقافة المقاومة وميوعة الثقافة
نصّار إبراهيم
لم تكن الحرب على غزة حرباً عابرة، أو مجرّد مواجهة عسكرية ضارية. فبقدر ما كانت المقاومة والشعب الفلسطيني في غزة يواجهان آلة الحرب «الإسرائيلية» ببسالة مدهشة كانا في اللحظة ذاتها يؤسّسان لعملية كشف حساب مع الميوعة الثقافية التي هيمنت على الوعي الجمعي الفلسطيني واحتلّته في العقدين الأخيرين وعاثت فيه خراباً وتشويهاً.
تسعة وعشرون يوماً هزّت العالم، والأهمّ أنها هزّت الواقع/الشجرة الفلسطينية بعنف فأسقطت عنها الكثير من الأوراق الصفراء والخطاب الأصفر واللغة الصفراء والأوهام والرهانات الخاطئة.
إذن هي مناسبة لنفض الغبار عن العقل الفلسطيني، وتحريره من قيود اللحظة ومن أثقال الزمن الرديء، فغزة تمنح هذا العقل الفلسطيني فرصة لكي يتحرك ويتحرّر ويطلق دينامية النقد والتقويم وتحويل دماء غزة وتضحياتها وصمودها إلى رافعة وطنية جبارة، أو منفاخ حِدادَة هائل ينفخ في الوعي الوطني الفلسطين ليعيد تطهيره من الغبار والأوهام والخطاب الهزيل الذي احتله ردحاً من الزمن.
إنّهما التحدي والمهمة أمام النخب السياسية والثقافية والاجتماعية والأكاديمية الفلسطينية، أن تلتقط اللحظة والإنجاز، وأن ترتقي إلى مستوى ملحمة غزة وأسطورتها وتحوّلها إلى قوة بناء فاعلة لا تتوقف، وأن تبقى بوصلة العين والعقل والقلب نحو الأهداف الوطنية الكبرى في الحرية والاستقلال. نجاح هذه العملية الكبرى والحيوية مشروط بوعيها ووعي أبعادها ووعي مفهوم الثقافة ودوره في التحرّر الوطني والتغيير والبناء الاجتماعي وحماية هوية وحقوق الشعب الفلسطيني.
الثقافة بكلمات بسيطة هي مجمل الموروث الشعبي المتراكم في مختلف الحقول الاجتماعية، تعبّر عن سمات حضارة الشعب أو الجماعة أو الأمة وجوهرها، وبهذا المعنى تعكس التفاعل المعرفي والإنساني الخاص لتلك الجماعة مع بيئتها الجغرافية وفضائها الجيوسياسي ومعتقداتها. ولذلك فإن الثقافة عابرة للزمان والمكان في سياق تاريخ الجماعة المحدّدة، تعكس خلاصة التجربة بجميع تراكماتها السياسية الاقتصادية الاجتماعية الفكرية اللغوية وبناها ومقارباتها المعرفية. إنها بكلمات أخرى خط فعل الجماعة الممتدّ في الماضي المتقاطع مع الحاضر العابر نحو المستقبل، وهي بذلك عملية نفي وتراكم لا تتوقف، ارتباطاً بالتحديات والتهديدات والطموحات التي تحدّد خيارات تلك الجماعة في السياقات التاريخية المحددة. إنها جزء من البناء الفوقي الاجتماعي الذي يؤثر مباشرة في اتجاهات البناء الاجتماعي التحتي. وبسبب خطورة دور الثقافة على المستويين الداخلي والخارجي كانت دائماً عنواناً وحقلاً للتدخل والفعل، بغية الهيمنة والسيطرة على وعي المجتمع بما ينسجم وأهداف الطبقة المسيطرة أو القوى الاستعمارية.
غير أنّ ما تقدم من تعريف عام لمفهوم الثقافة، في ظلّ الاستخدام الاستعماري لها كوسيلة لتكريس هيمنته السياسية والاقتصادية، واستخدامها من قبل الطبقة المسيطرة في المجتمع لتعزيز وتكريس سيطرتها الطبقية، يثير إشكالية جدية ترتبط بمفهوم الهيمنة الثقافية بحسب تعبير غرامشي على المستويين التاريخي والراهن.
على المستوى التاريخي، يعتبر الموروث الثقافي المتراكم عبر الأجيال حاصل تجربة المجتمع المذكور سلباً وإيجاباً بما هو حاصل ما استقرت عليه حركة علاقات القوة في ذلك المجتمع، وهي الحركة التي تعكس تناقض/صراع مصالح المكونات الاجتماعية المتباينة أو تقاطعها، وتتجلى في الهيمنة الثقافية للطبقة أو الفئة الاجتماعية المسيطرة في كل مرحلة تاريخية، وما يترتب على تلك الهيمنة من استخدام للثقافة لتبرير خيارات تلك الطبقة وسياساتها وأولوياتها.
أما على المستوى الراهن/المعاش فإن مفهوم الهيمنة الثقافية يرتبط بمصالح الطبقة المهيمنة اقتصادياً وسياسياً وما يستدعيه ذلك من توظيف للثقافة والمثقفين في الحقول كافة لتكريس السيطرة السياسية لتلك الطبقة.
في كلا المستويين، ليست الثقافة خارج دائرة الصراع، وبهذا المعنى لا يعود التعريف العام للمفهوم كافياً، ما يثير تلقائياً السؤال حول أي ثقافة نقصد في كل مرحلة؟ وتلقائياً السؤال حول دور الثقافة والمثقف، وهل يتحدد دورهما في الدفاع عن الواقع القائم أم تعزيز الثقافة البديلة؟
هنا تماماً يتضح ما قصده غرامشي بقوله: «إن كل جماعة اجتماعية تظهر إلى حيز الوجود في عالم الإنتاج الاقتصادي، إذ تؤدي وظيفتها الجوهرية، تخلق معها عضوياً فئة أو أكثر من المثقفين، تمنحها التجانس والوعي بوظيفتها، لا في الميدان الاقتصادي وحده، بل في الميدانين الاجتماعي والسياسي أيضاً. فالمنظم الرأسمالي يخلق إلى جانبه الفني في الصناعة، والمتخصص في الاقتصاد السياسي، ومؤسسو الثقافة الجديدة، ومبدعو النظام القانوني الجديد، إلخ … » غرامشي، 1978 .
هنا أيضاً يتجلى ما قصده د. محسن بوعزيزي رئيس الجمعية التونسية لعلم الاجتماع في كتابه «السيميولوجيا الاجتماعية» بقوله عن الثقافة إنها «أكذوبة، خاصة إذا تخفت خلف حرف التاج «ال» لتخفي ما فيها من هيمنة وروابط قوة، بينما يراها إدغار موران محتالة، مخادعة، مراوغة، منومة، ملغّزة، فيما يرى بارت أن الثقافة، أي ثقافة، هي نتاج تاريخي قائم على الصراع والهيمنة، وعلى شروط اجتماعية أنتجتها» بوعزيزي، ص66-73، 2010 .
إن التبعية السياسية يلازمها قهر وكبت داخليان تغذّيهما التدخلات الخارجية باستمرار، مع ما يترتب على ذلك من احتلال مساحات واسعة من وعينا، وذاك ما قاد إلى المأزق التاريخي للثقافة العربية إذ اكتسح الدال في النسق السياسي وسواه المدلول الاجتماعي والثقافي في تجلياته الأكثر حرية وإبداعاً، عبر تعويم الوعي الجماعي بالاستعارة والإيحاء، في محاولة للالتفاف على النظم القمعية والبوليسية، ما أفضى على ما يقول بوعزيزي – إلى تمزق علاقة التجانس البنيوي بين الواقع ومختلف أشكال الوعي بهذا الواقع، فتعمق الاستلاب وتشنّج الهوية الاجتماعية والثقافية ولم يبق على السطح إلاّ الدوال التي يعوزها العمق ولا يسكنها إلاّ الفراغ لابتعادها عن المرجع الحي، أي الواقع الاجتماعي المصدر السابق .
هنا نلاحظ سطوة السياسي على الثقافي إلى درجة تحويله من فاعل حيوي في البناء والحماية وتعزيز الإبداع، إلى مطية لتبرير الخيارات السياسية الهابطة والمحبطة وإمرارها.
هذا التمهيد المطول كان ضرورياً لكي تتضح أبعاد وتعقيدات عملية إحياء ثقافة المقاومة من وعي وجهد منظم ومتواصل، فبسالة غزة أعادت طرح إشكالية الثقافة في الحالة الفلسطينية، وهذه بداية، مجرد بداية، فهل يسع النخب الفلسطينية والعربية الاستجابة لها وتعميقها وتحويلها عملية راسخة؟
أقول ذلك وفي الذهن حالة الهبوط وسلوك الاستخدام الآني وضيق أفق الثقافة الذي هيمن على عقل نخبنا السياسية، بحيث أصبح دور الثقافة والإعلام محصوراً في عملية تسويغ الخيارات السياسية وتبريرها باسم الواقعية، أو تبرير تمزيق الوحدة الوطنية باسم المصالح العليا، وكلا الاستعمالين ينم عن بؤس معرفي هائل.
هنا نعود إلى مقاربة بوعزيزي حول مراوغة الثقافة واستخدامها كوسيلة لتبرير الخيارات وإعادة ترتيب الأولويات بعيداً عن مساحة التقاطع المشتركة التي أشير لها أعلاه.
في هذا السياق، يمكن تفسير الإزاحات التي حصلت تاريخياً في الأداء الثقافي الفلسطيني، بمعنى أن أفضل الأسماء والإبداعات الثقافية وأجملها كانت مترافقة مع زمن الأحلام والتمثلات السياسية الكبرى في الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الفائت، فالأحلام والأهداف والطموحات الكبرى هي التي تستثير الوعي وممكنات الإبداع الثقافي وتستفزها لكي تكون بمستوى تلك الأحلام والتمثلات الكبرى. عهدذاك كان الفلسطينيون يحملون راية التحرر والتغيير التي التف حولها كل ما هو جميل وخلاّق في الواقع العربي بل وجميع المناضلين لأجل الحرية في العالم كان ذلك زمن مجلة فلسطين الثورة، الهدف، الحرية، شؤون فلسطينية، الكرمل، الكاتب، مركز الأبحاث الفلسطيني… . وعندما انحدرت الطموحات إلى مستوى سقف المساومات السياسية المرهونة بسقف عملية السلام وقيودها بتفاصيلها المتناقضة كافة مع الحد الأدنى من الطموحات الوطنية، بدأت الأحلام والتمثلات الكبرى تنكسر وتهبط، لتخلي المكان لتمثلات فقيرة، أنانية وضيقة.
بهذا المعنى، يمكن إدراك ما قصده درويش بقوله «كنت أعتقد أن البيت أجمل من الطريق إلى البيت، لأكتشف لاحقاً أن الطريق إلى البيت أجمل من البيت». بمعنى أن رحلة الطريق إلى البيت كانت نتاج أحلام والتمثلات والتصورات التي تغذي رحلة التحرر والعودة وتمدّ أرتال المناضلين بالرؤية، بالإصرار والإرادة، كون الوطن في المخيال الفلسطيني كان يعني النقيض لجميع الإحباطات والمعاناة والقهر. ارتقى الوطن والطريق إلى الوطن والنضال لأجل الوطن إلى مستوى الحلم واليوتوبيا والمقدس، وذلك كله دفع بالفعل الثقافي إلى مستوى الذروة، لكن عندما تبيّن أن واقع الحال في البيت تردى إلى مستوى مريع فقد المخيال عندئذٍ ألقه وانحدر نحو اليأس والإحباط، واتجه السلوك الاجتماعي نحو مستنقع الأنانية وضيق الأفق والانتهازية وثقافة الاستهلاك والاستخدام والتكسب، لينعكس هذا كله على الممارسة الثقافية التي انكفأت أمام هيمنة الفكر اليومي على حد تعبير مهدي عامل، وهذا ما عبر عن ذاته بإطلاق ديناميات التشظي في النسيج الاجتماعي باسم الدين، الواقعية، العشائرية، الطائفية، الجهوية، العصبوية. اندحر العام وتهاوى تحت وطأة الخاص بجميع تمثلاته.
إذن، لكي تستعيد الثقافة دورها ووظيفتها في الحالة الفلسطينية، هي مطالبة أولا بإعادة بناء هذا الدور وتأصيله، وهذا يشترط توافر إطار سياسي اجتماعي واقتصادي استراتيجي يتجلى في مشروع واضح ومقنع يعكس إرادة الشعب الفلسطيني ويستجيب للتحديات التي يواجهها ويحمل في الوقت نفسه آمال هذا الشعب وطموحاته لمستقبله المتخيل. في الواقع الفلسطيني، وفي ظل ما تعرّض له من اهتزازات وتمزقات وما تركته الخيارات والممارسة السياسية من آثار عميقة في الوعي الجمعي الفلسطيني، يصبح بحكم الضرورة إعادة تأسيس الرؤية السياسية الفلسطينية بالاستناد إلى حقائق الصراع وبديهياته التي لا يجوز إخضاعها لرهانات اللحظة. في هذا السياق الواضح تتجلى قيمة الفاعل الثقافي كمعادل حماية وبناء هائل الدور والدلالة في صراع البقاء الذي يخوضه الشعب الفلسطيني منذ أكثر من مئة عام في مواجهة المشروع الصهيوني وما ترتب عليه من احتلال طويل المدى يبذل قصارى جهده لفرض روايته للتاريخ والواقع. إذن نحن في قلب مواجهة هائلة وشاسعة بالمقاييس كافة، أين منها أداؤنا الثقافي، وأين منها ضيق أفق معظم نخبنا الثقافية؟
لذلك فإنّ أي مقاربة لدور الثقافة أو المثقف الفلسطيني مع مفاهيم التحرر الوطني والمقاومة والتغيير الاجتماعي والتنمية والبناء في الحالة الفلسطينية ينبغي أن تتمّ بالاستناد إلى أسئلة الواقع الفلسطيني السياسية والاجتماعية، وهذا غير ممكن إلاّ إذا كان الإطار السياسي العام كعامل محدِّد واضحاً تماماً، فمن دون ذلك نذهب بأقدامنا إلى مصيدة المراوغة، والتبرير، والتشويه، والالتباس. في هذا السياق، لا يغدو السؤال عن دور أي ثقافة ومثقف نتحدث عبثياً أو عدمياً، بل يغدو سؤالاً واقعياً بامتياز لأنه يعيد التذكير ببديهيات الواقع الفلسطيني من جديد.
أعادت الحرب العدوانية الأخيرة على غزة وهي بذلك تختلف عن سابقاتها – تظهير البديهيات، مثلما أعادت التذكير بطبيعة الصراع وجوهره ضدّ المشروع الصهيوني، خاصة في الحقل الثقافي، فالنتائج الثقافية لهذه المواجهة لها أهمية النتائج العسكرية نفسها، وبالتأكيد ستتفوق على النتائج السياسية. فالنتائج العسكرية والسياسية ستبقى نسبية لأكثر من اعتبار، إذ لم تنقلب موازين القوى بصورة جذرية بعد، في حين أن نهوض الوعي الجمعي الفلسطيني أو يقظته والتفافه حول صمود غزة والمقاومة هو إنجاز رائع بالمعايير كافة، وما كان ليكون لولا صمود الناس في غزة ولولا بسالة المقاومة الفلسطينية هناك وفطنتها. فصمود المقاومة والشعب الفلسطيني في غزة وبسالتهما، رغم هول التضحيات والدمار، ترافق مع نهوض ثقافة مقاومة بمعناها الشامل بما هي مقاومة عسكرية وسياسية واجتماعية وسلوكية ومعنوية ونفسية… كأن الحرارة دبت في أوصال الشعب الفلسطيني في مختلف تجمعاته فتراجعت الميوعة أو الهيولى الثقافية التي سادت الوعي الفلسطيني في السنوات الفائتة ليستعيد المجتمع الفلسطيني حيويته التي أخذت تعبر عن نفسها بأنماط متنوعة فكانت مثيرة للدهشة والإعجاب مثلاً – سرعة التفاعل مع تداعيات الحرب العدوانية وحيويتها في أوساط الشباب الفلسطيني الذي بدا كأنه يستيقظ وهو يكتشف في المقاومة ذاته وهويته، فتراجعت مظاهر الإحباط واليأس والضياع لتحل مكانها حالة من الثقة والشعور بالكرامة والانتماء الجمعي للشعب، وليكتشف الجميع أن غزة تسكن في أعماق الشعب الفلسطيني كأنها الحارس الأمين لوعينا الوطني المقاوم والإنساني.
كما أعاد صمود غزة وصلابة مقاومتها الصدقية لثقافة المقاومة وخطابها، وبيّنت أن أي خطاب أو موقف سياسي غير مسنود بفعل ميداني هو ثرثرة، وأنّ صدقية أي موقف أو خطاب لأي تنظيم أو قائد عسكري أو سياسي هو موضع شك وسخرية ما لم يترجم في لحظات المواجهة إلى فعل مقاوم حقيقي يعطي رصيداً ملموساً لذاك الخطاب أو الموقف. وهذا الإنجاز هو تأكيد على أحد أهمّ نتائج الحرب العدوانية على لبنان عام 2006، إذ أصبح الجمهور «الإسرائيلي» ووسائل الإعلام «الإسرائيلية» تصدق وتثق بما يقوله السيد حسن نصر الله أكثر مما تصدق وتثق بكلام المؤسسة السياسية أو العسكرية «الإسرائيلية»، والسبب ليس بالتأكيد طلة السيد حسن نصر الله ولا لغته العربية الجميلة، بل لأن خطاب السيد نصر الله اختبر في الميدان وفي الممارسة فاكتسب الصدقية من خلال ممارسة المقاومة. بهذا فحسب تفوّق على الخطاب «الإسرائيلي» الملتبس والمغرور.
هذا ما أثبتته أيضاً تجربة الحرب العدوانية الأخيرة على غزة إذ لوحظ أن خط بيان الثقة بخطاب قوى المقاومة الفلسطينية في غزة أخذ يتصاعد ويثبت على مدى أيام الحرب الشرسة، إذ تأكد المواطن الفلسطيني والعربي أيضاً من أنّ المقاومة عند كلامها ووعودها لناحية الصلابة في الصمود والجرأة والذكاء في المواجهة، فاكتسب خطابها صدقيته من ميدان المواجهة المواجهة التي صعقت جيش الاحتلال، بما في ذلك قوات النخبة. هكذا أخذت ثقافة الشك والاستهانة بالذات والتخوف تتراجع بثبات لتحلّ مكانها الثقة بالمقاومة وخطابها.
في سياق حالة الاشتباك والمقاومة والاحتضان الشعبي، تراجعت الثقافة الجهوية والعشائرية والأنانية فتحوّلت غزة إلى راية للحرية والمقاومة والكرامة والعنفوان. هذه الحالة، بطبيعة الحال، هي بمثابة عملية ديناميكية تحتاج إلى فعل منظم صبور وواع يغذيها ويحميها كي لا تتلاشى وتذوب، وهذا يستدعي من القوى السياسية الوقوف أمام مظاهر وأبعاد الحراك الذي أفرزته مقاومة غزة في المجتمع الفلسطيني وفي داخل كل تنظيم سياسي، بغية تعزيز هذه العملية وتحويلها قوة دافعة للتجديد والبناء ومنع وأدها وقهرها حفاظاً على القديم.
خلال شهر الحرب تعرضت الثقافة والعصبوية التنظيمية الضيقة لهزة قاسية من خلال تقدم السلوك الجمعي كحاضنة للمقاومة وكفكرة وكتجسيد ميداني لجميع قوى المقاومة وانتماءاتها الفكرية المختلفة، وتجسد هذا السلوك ميدانياً بوحدة العمل والتنسيق وتبادل الأدوار وتأمين الحماية والتساند الشامل، فبدت المقاومة كأنها تقاتل بتشكيل الكرة الصلبة التي يصعب اختراقها، فتراجعت المظاهر الاستعراضية وتراجعت اللغة الحزبية وحلت مكانها معادلة الشعب والمقاومة بسائر تلاوينها.
من النتائج الباهرة التي ترتبت على صمود غزة وتضحياتها الكبرى أيضاً إعادة الاعتبار إلى مفهوم المقاومة كثقافة وممارسة كأساس للعمل السياسي، إذ اهتزت وبعنف معادلة حل الصراع واستعادة الحقوق من خلال ما يسمى بالمهارات التفاوضية والعمل الديبلوماسي، وتأكد أن أي عمل ديبلوماسي ليس مدعوماً بالقوة القوة بكامل تجلياتها وليس بالمعنى الضيق سيكون هشاً ومدعاة للسخرية وسيضع قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه تحت رحمة قوة الطرف الآخر.
كما وجهت المقاومة وصمود غزة ووحدة الإرادة والدم ضربة قاسية إلى الثقافة أو المقاربات التي صاغت في لحظة ما أولوياتها بعيداً عن أولوية النضال الوطني الفلسطيني، إذ برهنت الحرب بآلامها كلّها أن الشرط الأساس لضمان التفاف الشعب الفلسطيني حول هذا الخيار أو ذاك هو مدى التمسك بالحقوق الوطنية وبخيار المقاومة وليس الانتماء الأيديولوجي، وبصورة أكثر دقة، أن يعلن تنظيم ما بأنه ماركسي أو يساري على سبيل المثال، لا يعني شيئاً لدى الشعب الفلسطيني ما لم يترجم ذلك مقاومة وتمسكاً بأولويات الشعب الفلسطيني وحقوقه… وأن يعلن تنظيم ما أنه إسلامي لا يعني أيضاً شيئاً إذا لم يترجم بالحفاظ على خيار المقاومة كخيار وطني وأن تصاغ السياسة على أساس أولويات الشعب الفلسطيني… أي أن الشعب الفلسطيني لا يقبل ولا يمكن أن يقبل بأن تجيّر دماؤه وتضحياته بما يعارض أولوياته وحقوقه كشعب يقاوم ضد الاحتلال… ولذلك فإن سلوك أي تنظيم فلسطيني وعلاقاته وتحالفاته يجب، وبالضرورة، أن تكون أولاً وعاشراً في خدمة الشعب الفلسطيني وقضيته. وهذا درس قاس في ضوء حالة الارتباك والرهانات الخاطئة التي رافقت سلوك بعض القوى السياسية الفلسطينية في السنوات الأخيرة.
لنا في تجربة التفاوض الحاصلة الآن في القاهرة حول وقف إطلاق النار وشروطه درساً ثميناً، إذ يلاحظ أن الجميع يستمع الآن وبجدية واحترام للوفد الفلسطيني الذاهب للحوار في القاهرة إذ يستند أولاً إلى مقاومة باسلة وفاعلة وعنيدة وذكية، وثانياً إلى التفاف شعبي، وثالثاً لأنه يتحرك حتى الآن كقبضة واحدة بما يحول دون الاستفراد بهذا الطرف أو ذاك أو اللعب على التناقضات الداخلية.
بالإضافة إلى ما تقدم، كشفت الحرب العدوانية على غزة الخلل البنيوي والثقافي الذي تعانيه المنظمات الأهلية وغير الحكومية في المجتمع الفلسطيني، إذ كان أداء معظمها باهتاً أو غائباً كأنه لم يبق لديها ما تفعله في زمن الحرب، وهذا يعود إلى الثقافة التي سادت في معظم تلك المؤسسات بعد أوسلو والتي تتلخص في الابتعاد عن السياسة ونشر الثقافة الإنسانوية في مقاربة الصراع والتركيز على ما سمي بـ»بناء القدرات والقيادات الشابة والديمقراطية وحقوق الإنسان». في أيّ حال لا مشكلة في ذلك، فالمشكلة تظهر لدى القيام بهذه العملية على نحو منفصل، بل متناقض مع السياقات السياسية للواقع. وهكذا في لحظات المجابهة الضارية فقدت تلك المؤسسات لونها ودورها وبدت عاجزة عن الحركة، بل مثيرة للشفقة وهي تقف مرتبكة أمام واقع المقاومة الذي رفع سقف المواجهة لمستويات عالية، ما يستدعي رؤية سياسية عميقة وصلبة تتجاوز العمل السهل المنضبط تحت سقف المواقف الرسمية والمساحات التي يسمح بها الاحتلال أو التي تحدّدها شروط التمويل.
مسألة أخرى، قديمة وجديدة، وضعتها الحرب العدوانية على طاولة البحث والمناقشة أيضاً هي إشكالية الوطني والقومي، إذ بات ضرورياً فك الاشتباك بين المفهومين بصورة تحفظ دينامية العلاقة وصحتها، فبقدر ما هو خاطئ التخلي عن البعد القومي في الصراع في ظل حالة العجز العربي بل والتواطؤ من قبل عدد من الأنظمة العربية، والاكتفاء بمجابهة هذه الحالة بالشتائم والتفريغ اللغوي وتظهير التمركز على الذات الفلسطينية، بالقدر نفسه يجب العمل على رؤية العامل القومي والمجابهات الإقليمية وارتباطها المباشر وغير المباشر بالصراع الفلسطيني ـ «الإسرائيلي»، فصمود غزة الرائع ما كان ليكون بهذا المستوى والزخم لولا الإسناد العميق الذي توافر للمقاومة في السنوات الماضية من محور المقاومة في العالم العربي، ولذلك ستبقى شعوب الأمة في الأحوال كافة هي الحاضنة الاستراتيجية لمقاومة الشعب الفلسطيني، ومفهوم الحاضنة هنا شامل، ثقافي وسياسي واقتصادي واجتماعي… وإذا كانت هذه الحاضنة غير فاعلة أو لا يتناسب فعلها مع حجمها فالسؤال الابتدائي في هذه الحالة هو: ما الذي فعلته القوى السياسية الفلسطينية والقيادة الفلسطينية لكي تجعل من هذه الحاضنة عامل قوة وإسناد؟ وهذا يحتاج إلى مناقشة عميقة وجدية حول سياسة التحالفات التي اتبعتها القيادة الفلسطينية خلال العقدين الماضيين؟ العلاقة بين الوطني والقومي ليست مسألة معنوية أو عاطفية بل هي إنتاج طبيعي لارتباط المصائر والأقدار والمصالح، وأيضا للتهديدات التي تتعرض لها الأمة وشعوبها من قبل القوى الاستعمارية قديماً وحديثاً، وبالتالي سيكون من الخفة والخطورة التعامل مع هذه الإشكالية بردود فعل وشتائم وكفى الله المؤمنين شرّ القتال.
أما على صعيد جبهة الاحتلال، فإن نتائج المواجهة الطاحنة وعلى مدى شهر، هزت بعنف ثقافة الغطرسة، ثقافة رامبو «الإسرائيلي»، إذ بدا عاجزا وبائسا وهو يتخبط في حدود قوته الغبية. ظهرت «إسرائيل» مربكة ومرتبكة وهي تكتشف حدود قوتها المطلقة ومحدوديتها في مواجهة شعب ومقاومة مصمّمين على القتال حتى النهاية إنما بصورة ذكية وغير انتحارية كما يحاولون الإيهام… ومع ذلك لا تزال «إسرائيل» محكومة بالدوران في دوائر قوّتها المغلقة، وهي بالتالي لم تملك الجرأة السياسية والثقافية بعد لطرح الأسئلة الصحيحة حول وجودها ومستقبلها، وتعتقد حتى اللحظة أن خياراتها لا تزال تدور في إطار قوتها… وهي تكشف بذلك عن عجز في الخيال والمخيال حيال وجودها في هذه المنطقة المشتعلة هذا موضوع يحتاج إلى معالجة أكثر تفصيلاً .
إنها في النهاية مجرد أفكار أولية مطروحة أمام النخب الفلسطينية المتنوعة، كلّ في حقل اختصاصه، للارتقاء بهذه العملية من المستوى العاطفي والانفعالي ورد الفعل إلى مستوى الإنتاج الثقافي المستند إلى ثقافة المقاومة، وبذلك تتحول دماء غزة وتضحياتها وتضحيات الشعب الفلسطيني ومقاومته على مر التاريخ إلى قوة تحمي المقاومة وتحمي الحقوق وروح الشعب الفلسطيني ووعيه، وبهذا تتناغم المقاومة مع الثقافة والسياسة والممارسة، وذلك كله يشكل الشرط الحاسم لتحقيق حرية الشعب الفلسطيني واستقلاله الوطني الكامل.
المراجع:
بوعزيزي، محسن، 2010، السيميولوجيا الاجتماعية، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت، لبنان.
– Gramsci, 1978, Selections from Prison Notebooks: Edited and translated by QUINTIN HOARE And GEOFFERY NOWELLHoare, Q. and SMITH. G. Published by LAWRENCE AND WISHART-LONDON,1978. ترجمة عادل غنيم، دار المستقبل العربي.