حبّ كبير كُتب بالدم… وكؤوس الحرب تقامر على البلاد
سوزان الصعبي
في رواية «امرأة غامضة» التي كتبها الروائي والشاعر السوري الراحل ياسين رفاعية عام 1991 ونشرتها «دار الفاضل» في 2006، يطرح رؤيته حول الحرب الأهلية اللبنانية، التي يبدو أنها كانت جزءاً أساسياً من حياة الكاتب وتفكيره وقضاياه. فبقدر ما طال أمد هذه الحرب بقدر ما طعنت حيوات الناس الأبرياء وأردتهم قتلى وجرحى وفرائس الخوف الدائم.
يقول: «الحرب مستمرة. لعن الله الحرب، ننتقل من سيّئ إلى أسوأ، وتكثر الشعارات الفولكلورية التي يذهب تحت رايتها آلاف القتلى».
عالجت هذه الرواية القصيرة المؤلفة من 136 صفحة الكثير من الأفكار العامة والهامة المنبلجة من عمق أزمة الإنسان العربي اللبناني، الذي وجد نفسه وحياته وعائلته ومصيره بين فكَّيْ حرب عبثية يتجدّد ضحاياها الأبرياء كلّ يوم، واعتمد خطّها الرئيس على قصة حبّ غامضة بين الشابة الطالبة في الجامعة الأميركية في بيروت، والرجل الذي يكبرها بكثير ويكاد يكون في سنّ والدها. قصة حبّ بدأت من مقاعد الحفلات الحماسية التي تغنّي «أناديكم أشدّ على أياديكم…»، لتتكرّر اللقاءات بينهما بالمصادفة وتستمرّ بلا مواعيد، هي المليئة بالحيوية والإيمان بتحرير الوطن، وهو سليل خسارات كبيرة ألمّت بالأمة. يقول الراوي المحامي العاشق: «عندما كنت شاباً كنت أصدق كل الإذاعات، وكنت مهووساً في الاستماع إلى أحمد سعيد…». ثم يتابع: «أحمد سعيد هذا الذي ظلّ يصرخ في آذاننا ليلاً ونهاراً: يا عرب في كلّ مكان… ليس إلا ظاهرة صوتية تليق بنا حقاً».
هكذا استمرّت اللقاءات المتباعدة بين عاشقين نجهل اسميهما في المقهى والطاولة المختبئة ذاتهما، واحتل الشوق كيانه إلى درجة أنه تجرأ على الذهاب إلى الجامعة والبحث عنها، لكنها صاحبة الغموض والغياب الشاهقين والحضور الآسر والشخصية المبدئية، فقد عرف أخيراً سرّ غيابها المتوالي الذي تحوّل إلى غياب دائم، فكثيراً ما تغنت بالشهداء وقالت عنهم «هؤلاء شعراء، يكتبون قصيدتهم بالدم، يكتبون قضيتهم بالرصاص».
إذاً، صمتت كثيراً لتقول بعدها الكثير، وليرى صورتها تعلّق على الجدران ملتصقة بصور شهداء آخرين، وتسبح جثتها في الماء كما أوصت قبل قيامها بعملية استشهادية أوقعت الكثير من القتلى في صفوف الأعداء الحقيقيين الجاثمين على صدر الوطن، فالشهيد تلو الشهيد هم من سيسترجعون فلسطين قريباً. هذا ما آمنت به «ابتسام» التي عرفنا اسمها بعد استشهادها وتركها رسالة وخصلة من شعرها لذلك الرجل الذي أحبها، والذي صحا أخيراً من كبوة جثمت على عقله طوال عقود وعرف هو الآخر كم عليه أن يؤمن بقضيته من جديد.
وفي رواية «دماء بالألوان» التي كتبها الراحل رفاعية في لندن عام 1984 ونشرها في 2006، قصة أخرى من فواجع الحرب اللبنانية بطلها الرسام «وديع الخال» وقد فقد زوجته وأطفاله الثلاثة ولوحاته الفنية التي كان سيعرضها في وقت قريب، بينما كان هو غائباً في عمله أصابت قذيفة بيته وأودت بالأحبة جثثاً هامدة!
هرب «وديع» من ويلات الحرب باتجاه دمشق وقد حوّلته نكبته إلى شخص آخر، الفاجعة تغلغلت في قلبه الكسير، فانتقل إلى اللاذقية ولم يسلم من رائحة بحر بيروت، ثم هرب إلى قبرص ومنها إلى بريطانيا التي لا يعرف فيها أحداً، هو يريد الاختباء بفاجعته عن الناس، وكأن عار الحرب بين الأخوة يقع على رأسه وحده.
وفي الطريق إلى لندن، تعرّف إلى رجل مغربي لطيف ساعده بعد ذلك ابنه رجل الأعمال في العثور على بيت ريفي استعاد فيه قدرته على الرسم، وظل يرسم وجه زوجته «وصال» التي قضى مع حنانها 15 سنة.
في خضمّ حديثه مع امرأة عجوز التقته بالمصادفة في حديقة واقتربت منه لظنها أنه مريض، سألته: «الحرب العالمية انتهت بخمس سنوات ولم تنته حربكم بعد؟!».
هي حرب من دون هدف. حرب من دون انتصار. كما قال «وديع»، هذا الرجل الذي يمثّل ملايين الضحايا في بلاد عربية توالدت فيها الحروب، فسفكت الدماء وهجّرت الشباب وأفقدت الأطفال ضحكتهم وبراءتهم.
رحم الله كاتبنا الكبير ياسين رفاعية الذي نادى بالحبّ في متوالياته «نصوص في العشق»، والتي قدّم لها بأبيات من مجنون ليلى وجميل بثينة والحبّ المنزّه عن كلّ غرض، وما أجمل تلك المختارات القصيرة المنتقاة من كتاب عرب وعالميين والتي وضعت كعتبة لهذه الرسائل المسماة تباعاً «حبّ شديد اللهجة»، «كلّ لقاء بك وداع»، «أحبّك وبالعكس أحبّك».
كان كاتبنا يتمتع بحساسية وصدق وطفولة، أرجو أنه كان مثل شيلر الذي قال: «لقد تمتعت بسعادة هذه الدنيا لأنني عشت فيها وأحببت».
كاتبة وصحافية فلسطينية